الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل

قال ابن العربي : إنما صارت آية الكرسي أعظم لعظم مقتضاها ، فإن الشيء إنما يشرف بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته ، وهى في آي القرآن كـ قل هو الله أحد في سوره ، إلا أن سورة الإخلاص تفضلها بوجهين : أحدهما أنها سورة وهذه آية ، فالسورة أعظم من الآية ، لأنه وقع التحدي بها ، فهي أفضل من الآية التي لم يتحد بها . والثاني أن سورة الإخلاص اقتضت التوحيد في خمسة عشر حرفا وآية الكرسي اقتضت التوحيد في خمسين [ ص: 74 ] حرفا فظهرت القدرة في الإعجاز بوضع معنى معبر عنه مكتوب ، مدده السبعة الأبحر ، لا ينفد ، عدد حروفه خمسون كلمة ، ثم يعبر عن معنى الخمسين كلمة خمسة عشر كلمة ; وذلك كله بيان لعظم القدرة والانفراد بالوحدانية .

وقال أبو العباس أحمد بن المنير المالكي : كان جدي رحمه الله يقول : اشتملت آية الكرسي على ما لم يشتمل عليه اسم من أسماء الله تعالى ; وذلك أنها مشتملة على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا في بعضها ، ومستكنا في بعض ، ويظهر للكثير من العادين فيها ستة عشر إلا على [ بصير ] حاد البصيرة لدقة استخراجه : 1 - ( الله ) ، 2 - ( هو ) ، 3 - ( الحي ) ، 4 - ( القيوم ) ، 5 - ضمير ( لا تأخذه ) ، 6 - ضمير ( له ) ، 7 - ضمير ( عنده ) ، 8 - ضمير ( إلا بإذنه ) ، 9 - ضمير ( يعلم ) ، 10 - ضمير ( علمه ) ، 11 - ضمير ( شاء ) ، 12 - ضمير ( كرسيه ) ، 13 - ضمير ( يؤوده ) ، 14 - ( وهو ) ، 15 - ( العلي ) ، 16 - ( العظيم ) فهذه عدة الأسماء .

وأما الخفي في الضمير الذي اشتمل عليه المصدر في قوله : ( حفظهما ) فإنه مصدر مضاف إلى المفعول ، وهو الضمير البارز ، ولا بد له من فاعل ، وهو ( الله ) ويظهر عند فك المصدر ; فتقول ، " ولا يؤوده أن يحفظهما هو " .

قال : وكان الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي قد رام الزيادة على هذا [ ص: 75 ] العدد لما أخبرته عن الجد ، فقال : يمكن أن تعد ما في الآية من الأسماء المشتقة كل واحدة منها باثنين ، لأن كل واحد منها يحمل ضميرا ضرورة كونه مشتقا ، وذلك الضمير إنما يعود إلى الله وهو باعتبار ظهورها اسم ، وقد اشتملت على آخر مضمر ، فتكون جملة العدد على هذا أحدا وعشرين اسما ، فأجريت معه وجها لطيفا ، وهو أن الاسم المشتق لا يحتمل الضمير بعد صيرورته بالتسمية علما على الأصح ، وهذه الصفات كلها أسماء الله تعالى ، ثم ولو فرضناها محتملة للضمائر بعد التسمية على سبيل التنزل ، فالمشتق إنما يقع على موصوفه باعتبار تحمله ضميره ، ألا تراك إذا قلت : زيد كريم ، وجدت كريما ، إنما يقع على زيد لأن فيه ضميره ; حتى لو جردت النظر إليه لم تجده مختصا بزيد ، بل لك أن توقعه على كل موصوف بالكرم من الناس ، ولا تجده مختصا بزيد إلا باعتبار اشتماله على ضميره ، فليس المشتق إذا مستقلا بوقوعه على موصوفه إلا بضميمة الضمير إليه ، فلا يمكن أن يحل له حكم الانفراد عن الضمير مع الحكم برجوعه إلى معين ألبتة . قال : فرضي عن هذا البحث وصوبه .

وقال الغزالي : في قوله صلى الله عليه وسلم : إن لكل شيء قلبا ، وقلب القرآن يس إن ذلك لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر والنشر ، وهو مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه ، فجعلت قلب القرآن لذلك ، واستحسنه فخر الدين الرازي . قال الجويني : سمعته يترحم عليه بسبب هذا الكلام .

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : آل حم ديباج القرآن .

وقال ابن عباس : لكل شيء لباب ولباب القرآن آل حم - أو قال : الحواميم .

وقال مسعر بن كدام : كان يقال لهن العرائس .

روى ذلك كله أبو عبيد في كتاب فضائل القرآن .

[ ص: 76 ] وقال حميد بن زنجويه : حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث ، فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات ، فقال : عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب وأعجب ، فقيل له : إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن ، وإن مثل هذه الروضات الدمثات ، مثل آل حم في القرآن . أورده البغوي .

وروى أبو عبيد عن بعض السلف - منهم محمد بن سيرين - كراهة أن يقال : الحواميم وإنما يقال : آل حم .

وفي الترمذي عن ابن عباس ، قال : قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله قد شبت ؟ قال : شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت .

خص هذه السور بالشيب لأنهن أجمع لكيفية القيامة وأهوالها من غيرهن ، ولهذا قال في حديث آخر : من أحب أن يرى القيامة رأي العين ، فليقرأ : إذا الشمس كورت ( التكوير : 1 ) .

وروى الترمذي من حديث ابن عباس ومن حديث أنس : إذا زلزلت تعدل نصف القرآن ، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربعه . وقال في كل منهما غريب .

[ ص: 77 ] وقد تكلم ابن عبد البر على حديث : ( قل هو الله أحد ) ( الإخلاص : 1 ) تعدل ثلث القرآن ، وحكى خلاف الناس فيه ; فقيل : لأنه سمع شخصا يكررها تكرار من يقرأ ثلث القرآن ، فخرج الجواب على هذا . وفيه بعد عن ظاهر الحديث . قيل : لأن القرآن يشتمل على قصص وشرائع وصفات ، وقل هو الله أحد كلها صفات ، فكانت ثلثا بهذا الاعتبار . واعترض على ذلك باستلزام كون آية الكرسي وآخر الحشر ثلث القرآن ولم يرد فيه . وقيل تعدل في الثواب ، وهو الذي يشهد له ظاهر الحديث .

قلت : ضعف ابن عقيل هذا وقال : لا يجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات .

ثم قال ابن عبد البر : على أني أقول : السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام فيها وأسلم . ثم أسند إلى إسحاق بن منصور ، قلت لأحمد بن حنبل قوله صلى الله عليه وسلم : ( قل هو الله أحد ) [ ص: 78 ] تعدل ثلث القرآن ، ما وجهه ؟ فلم يقم لي فيها على أمر . وقال لي إسحاق بن راهويه : معناه أن الله لما فضل كلامه على سائر الكلام جعل لبعضه أيضا فضلا في الثواب لمن قرأه تحريضا على تعلمه لا أن من قرأ : قل هو الله أحد ثلاث مرات كان كمن قرأ القرآن جميعه ، هذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة .

قال أبو عمر : وهذان إمامان بالسنة ما قاما ولا قعدا في هذه المسألة .

قلت : وأحسن ما قيل فيه إن القرآن قسمان : خبر وإنشاء ، والخبر قسمان : خبر عن الخالق ، وخبر عن المخلوق ، فهذه ثلاثة ، وسورة الإخلاص أخلصت الخبر عن الخالق ، فهي بهذا الاعتبار ثلث القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية