الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 197 ] النوع السادس والثلاثون

في معرفة المحكم من المتشابه

قال الله تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ( آل عمران : 7 ) [ ص: 198 ] [ ص: 199 ] قيل : ولا يدل على الحصر في هذين الشيئين ، فإنه ليس فيه شيء من الطرق الدالة عليه ، وقد قال : لتبين للناس ما نزل إليهم ( النحل : 44 ) والمتشابه لا يرجى بيانه ، والمحكم لا توقف معرفته على البيان .

وقد حكى الحسين بن محمد بن حبيب النيسابوري في هذه المسألة ثلاثة أقوال :

أحدها : أن القرآن كله محكم ، لقوله تعالى : كتاب أحكمت آياته ( هود : 1 ) .

والثاني : كله متشابه لقوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ( الزمر : 23 ) .

والثالث : - وهو الصحيح - أن منه محكما ومنه متشابها ، لقوله تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ( آل عمران : 7 ) .

فأما المحكم فأصله لغة : المنع ; تقول : أحكمت بمعنى رددت ومنعت ، والحاكم لمنعه الظالم من الظلم ، وحكمة اللجام هي التي تمنع الفرس من الاضطراب .

وأما في الاصطلاح فهو ما أحكمه في الأمر والنهي وبيان الحلال والحرام .

وقيل : هو مثل قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ( البقرة : 43 ) .

وقيل : هو الذي لم ينسخ لقوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ( الأنعام : 151 ) ، وقوله : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ( الإسراء : 23 ) إلى آخر الآيات . وهي سبعة عشر حكما مذكورة في سورة الأنعام وفي سورة بني إسرائيل .

وقيل : هو الناسخ .

وقيل : الفرائض والوعد والوعيد .

وقيل : الذي وعد عليه ثوابا أو عقابا ، وقيل : الذي تأويله تنزيله بجعل القلوب تعرفه عند سماعه ، كقوله : قل هو الله أحد ( الإخلاص : 1 ) [ ص: 200 ] و ليس كمثله شيء ( الشورى : 11 ) .

وقيل : ما لا يحتمل في التأويل إلا وجها واحدا .

وقيل : ما تكرر لفظه .

وأما المتشابه ; فأصله أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعاني ، كما قال تعالى في وصف ثمر الجنة : وأتوا به متشابها ( البقرة : 25 ) ; أي متفق المناظر ، مختلف الطعوم ، ويقال للغامض : متشابه ، لأن جهة الشبه فيه كما تقول لحروف التهجي . والمتشابه مثل المشكل ; لأنه أشكل ، أي دخل في شكل غيره وشاكله .

واختلفوا فيه فقيل : هو المشتبه الذي يشبه بعضه بعضا . وقيل : هو المنسوخ الغير معمول به . وقيل : القصص والأمثال . وقيل : ما أمرت أن تؤمن به وتكل علمه إلى عالمه . وقيل : فواتح السور . وقيل : ما لا يدرى إلا بالتأويل ، ولا بد من صرفه إليه ; كقوله : تجري بأعيننا ( القمر : 14 ) ، و على ما فرطت في جنب الله ( الزمر : 56 ) . وقيل : الآيات التي يذكر فيها وقت الساعة ، ومجيء الغيث ، وانقطاع الآجال ; كقوله : إن الله عنده علم الساعة ( لقمان : 34 ) وقيل : ما يحتمل وجوها ، والمحكم ما يحتمل وجها واحدا . وقيل : ما لا يستقل بنفسه ، إلا برده إلى غيره . وقيل : غير ذلك ، وكلها متقارب .

وفصل الخطاب في ذلك أن الله سبحانه وتعالى قسم الحق بين عباده ، فأولاهم بالصواب من عبر بخطابه عن حقيقة المراد ; قال سبحانه : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ( النحل : 44 ) ، ثم قال : ثم إن علينا بيانه ( القيامة : 19 ) أي على لسانك وألسنة العلماء من أمتك ، وكلام السلف راجع إلى المشتبه بوجه لا إلى المقصود المعبر عنه بالمتشابه في خطابه ; لأن المعاني إذا دقت تداخلت وتشابهت على من لا علم له بها ; كالأشجار إذا تقارب بعضها من بعض تداخلت أمثالها واشتبهت ; أي أشكلت على من لم يمعن النظر في البحث عن منبعث كل فن منها ، قال [ ص: 201 ] تعالى : وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ( الأنعام : 141 ) إلى قوله : ( متشابها ) وهو على اشتباكه غير متشابه . وكذلك سياق معاني القرآن العزيز قد تتقارب المعاني ويتقدم الخطاب بعضه على بعض ، ويتأخر بعضه عن بعض ; لحكمة الله تعالى في ترتيب الخطاب والوجود ، فتشتبك المعاني وتشكل إلا على أولي الألباب ، فيقال في هذا الفن متشابه بعضه ببعض .

وأما المتشابه من القرآن العزيز فهو يشابه بعضه بعضا في الحق والصدق والإعجاز والبشارة والنذارة وكل ما جاء به وأنه من عند الله ، فذم سبحانه الذين يتبعون ما تشابه منه عليهم افتتانا وتضليلا ، فهم بذلك يتبعون ما تشابه منه عليهم تناصرا وتعاضدا للفتنة والإضلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية