الحادي عشر : قال
الخطابي في كتابه - وإليه ذهب الأكثرون من علماء
[ ص: 233 ] النظر : إن
nindex.php?page=treesubj&link=28899_29568وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة ، لكن لما صعب عليهم تفصيلها صغوا فيه إلى حكم الذوق والقبول عند النفس .
قال : والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ، ومراتبها في درجة البيان متفاوتة ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز الطلق الرسل ، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود . فالقسم الأول أعلاه ، والثاني أوسطه ، والثالث أدناه وأقربه ، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة ، وأخذت من كل نوع شعبة ، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة ، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين ; لأن العذوبة نتاج السهولة ، والجزالة والمتانة يعالجان نوعا من الوعورة ; فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن ، ليكون آية بينة لنبيه .
وإنما
nindex.php?page=treesubj&link=29568_28899تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور :
منها ; أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني ، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض ، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها ، إلا أن يأتوا بكلام مثله .
وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة : لفظ حامل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم .
وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ; حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه . وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقديم في أبوابه ، والرقي في أعلى درجاته .
وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام ، وأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير .
[ ص: 234 ] فخرج من هذا أن
nindex.php?page=treesubj&link=28899_29568القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف ، مضمنا أصح المعاني ، من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ، ودعاء إلى طاعته ، وبيان لطريق عبادته في تحليل وتحريم ، وحظر وإباحة ، ومن وعظ وتقويم ، وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم ، منبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان ، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له ، والدليل والمدلول عليه ، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه ، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه .
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور ، والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق ، أمر تعجز عنه قوى البشر ، ولا تبلغه قدرتهم ، فانقطع الخلق دونه ، وعجزوا عن معارضته بمثله ، ومناقضته في شكله ، ثم صار المعاندون له يقولون مرة : إنه شعر لما رأوه منظوما ، ومرة إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه ، غير مقدور عليه . وقد كانوا يجدون له وقعا في القلب ، وقرعا في النفس ، يريبهم ويحيرهم ، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف ، ولذلك قالوا : إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة . وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=5أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ( الفرقان : 5 ) مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب شيئا ; ونحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز .
وقد حكى الله تعالى عن بعض مردتهم ، وهو
الوليد بن المغيرة المخزومي ، [ ص: 235 ] أنه لما طال فكره في القرآن وكثر ضجره منه ، وضرب له الأخماس من رأيه في الأسداس ، فلم يقدر على أكثر من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=25إن هذا إلا قول البشر ( المدثر : 25 ) عنادا وجهلا به ، وذهابا عن الحجة ، وانقطاعا دونها .
ثم اعلم أن عمود البلاغة التي تجتمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به ، الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه ، إما تبدل المعنى الذي يفسد به الكلام ، أو إذهاب الرونق الذي تسقط به البلاغة ، وذلك أن في الكلام ألفاظا مترادفة متقاربة المعاني في زعم أكثر الناس ، كالعلم والمعرفة ، والشح والبخل ، والنعت والصفة ، وكذا بلى ونعم ، ومن وعن ، ونحوها من الأسماء والأفعال والحروف ; والأمر فيها عند الحذاق بخلاف ذلك ، لأن كل لفظة منها خاصة تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها ، وإن اشتركا في بعضها .
ولهذا قال
أبو العالية في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=107&ayano=5الذين هم عن صلاتهم ساهون ( الماعون : 5 ) إنه الذي ينصرف ولا يدري عن شفع أو وتر ، فرد عليه الحسن بأنه لو كان كذلك لقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=2الذين هم في صلاتهم فلم يفرق
أبو العالية بين ( في ) و ( عن ) حتى تنبه له الحسن وقال : المراد به إخراجها عن وقتها .
فإن قيل : فهلا جعل في كل سورة نوعا من الأنواع ؟ قيل : إنما أنزل القرآن على هذه الصفة من جمع أشياء مختلفة المعاني في السورة الواحدة ، وفي الآي المجموعة القليلة العدد ، ليكون أكثر لفائدته ، وأعم لمنفعته ، ولو كان لكل باب منه قبيل ، ولكل معنى سورة مفردة ، لم تكثر عائدته ، ولكان الواحد من الكفار المنكرين والمعاندين إذا سمع
[ ص: 236 ] السورة لا تقوم عليه الحجة به إلا في النوع الواحد الذي تضمنته السورة الواحدة فقط ، وكان في اجتماع المعاني الكثيرة في السورة الواحدة أوفر حظا ، وأجدى نفعا من التخيير لما ذكرناه .
قال
الخطابي : وقلت : في إعجاز القرآن وجها ذهب عنه الناس وهو صنيعه بالقلوب ، وتأثيره في النفوس ، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ، ومن الروعة والمهابة في حال أخرى ما يخلص منه إليه . قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=21لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ( الحشر : 21 ) وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم الآية ( الزمر : 23 ) .
قلت : ولهذا
أسلم nindex.php?page=showalam&ids=67جبير بن مطعم لما سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للطور حتى انتهى إلى قوله : nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=7إن عذاب ربك لواقع ( الطور : 7 ) قال : خشيت أن يدركني العذاب . وفي لفظ : كاد قلبي يطير ، فأسلم . وفى أثر آخر أن
عمر لما سمع سورة طه أسلم ، وغير ذلك .
وقد صنف بعضهم كتابا فيمن مات بسماع آية من القرآن .
الْحَادِي عَشَرَ : قَالَ
الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِهِ - وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ
[ ص: 233 ] النَّظَرِ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28899_29568وَجْهَ الْإِعْجَازِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ ، لَكِنْ لَمَّا صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَفْصِيلُهَا صَغَوْا فِيهِ إِلَى حُكْمِ الذَّوْقِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ النَّفْسِ .
قَالَ : وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَجْنَاسَ الْكَلَامِ مُخْتَلِفَةٌ ، وَمَرَاتِبَهَا فِي دَرَجَةِ الْبَيَانِ مُتَفَاوِتَةٌ ، فَمِنْهَا الْبَلِيغُ الرَّصِينُ الْجَزْلُ ، وَمِنْهَا الْفَصِيحُ الْقَرِيبُ السَّهْلُ ، وَمِنْهَا الْجَائِزُ الطَّلْقُ الرَّسْلُ ، وَهَذِهِ أَقْسَامُ الْكَلَامِ الْفَاضِلِ الْمَحْمُودِ . فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَعْلَاهُ ، وَالثَّانِي أَوْسَطُهُ ، وَالثَّالِثُ أَدْنَاهُ وَأَقْرَبُهُ ، فَحَازَتْ بَلَاغَاتُ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ حِصَّةً ، وَأَخَذَتْ مَنْ كُلِّ نَوْعِ شُعْبَةً ، فَانْتَظَمَ لَهَا بِامْتِزَاجِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ نَمَطٌ مِنَ الْكَلَامِ يَجْمَعُ صِفَتَيِ الْفَخَامَةِ وَالْعُذُوبَةِ ، وَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِي نُعُوتِهِمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ ; لِأَنَّ الْعُذُوبَةَ نِتَاجُ السُّهُولَةِ ، وَالْجَزَالَةُ وَالْمَتَانَةُ يُعَالِجَانِ نَوْعًا مِنَ الْوُعُورَةِ ; فَكَانَ اجْتِمَاعُ الْأَمْرَيْنِ فِي نَظْمِهِ مَعَ نُبُوِّ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ فَضِيلَةً خُصَّ بِهَا الْقُرْآنُ ، لِيَكُونَ آيَةً بَيِّنَةً لِنَبِيِّهِ .
وَإِنَّمَا
nindex.php?page=treesubj&link=29568_28899تَعَذَّرَ عَلَى الْبَشَرِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ لِأُمُورٍ :
مِنْهَا ; أَنَّ عِلْمَهُمْ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَوْضَاعِهَا الَّتِي هِيَ ظُرُوفُ الْمَعَانِي ، وَلَا تُدْرِكُ أَفْهَامُهُمْ جَمِيعَ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ ، وَلَا تَكْمُلُ مَعْرِفَتُهُمْ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ وُجُوهِ النُّظُومِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ ائْتِلَافُهَا وَارْتِبَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ، فَيَتَوَصَّلُوا بِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ عَنِ الْأَحْسَنِ مِنْ وُجُوهِهَا ، إِلَّا أَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ .
وَإِنَّمَا يَقُومُ الْكَلَامُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ : لَفْظٌ حَامِلٌ ، وَمَعْنًى بِهِ قَائِمٌ ، وَرِبَاطٌ لَهُمَا نَاظِمٌ .
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْقُرْآنَ وَجَدْتَ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْهُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ ; حَتَّى لَا تَرَى شَيْئًا مِنَ الْأَلْفَاظِ أَفْصَحَ وَلَا أَجْزَلَ وَلَا أَعْذَبَ مِنْ أَلْفَاظِهِ ، وَلَا تَرَى نَظْمًا أَحْسَنَ تَأْلِيفًا وَأَشَدَّ تَلَاؤُمًا وَتَشَاكُلًا مَنْ نَظْمِهِ . وَأَمَّا مَعَانِيهِ فَكُلُّ ذِي لُبٍّ يَشْهَدُ لَهُ بِالتَّقْدِيمِ فِي أَبْوَابِهِ ، وَالرُّقِيِّ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِهِ .
وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْفَضَائِلُ الثَّلَاثُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ ، وَأَمَّا أَنْ تُوجَدَ مَجْمُوعَةً فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ فَلَمْ تُوجَدْ إِلَّا فِي كَلَامِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ .
[ ص: 234 ] فَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28899_29568الْقُرْآنَ إِنَّمَا صَارَ مُعْجِزًا لِأَنَّهُ جَاءَ بِأَفْصَحِ الْأَلْفَاظِ فِي أَحْسَنِ نُظُومِ التَّأْلِيفِ ، مُضَمَّنًا أَصَحَّ الْمَعَانِي ، مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ فِي صِفَاتِهِ ، وَدُعَاءٍ إِلَى طَاعَتِهِ ، وَبَيَانٍ لِطَرِيقِ عِبَادَتِهِ فِي تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ ، وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ ، وَمِنْ وَعْظٍ وَتَقْوِيمٍ ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ وَإِرْشَادٍ إِلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَزَجْرٍ عَنْ مَسَاوِيهَا وَاضِعًا كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا مَوْضِعَهُ الَّذِي لَا يُرَى شَيْءٌ أَوْلَى مِنْهُ ، وَلَا يُتَوَهَّمُ فِي صُورَةِ الْعَقْلِ أَمْرٌ أَلْيَقُ بِهِ مِنْهُ مُودِعًا أَخْبَارَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَمَا نَزَلَ مِنْ مَثُلَاتِ اللَّهِ بِمَنْ عَصَى وَعَانَدَ مِنْهُمْ ، مُنْبِئًا عَنِ الْكَوَائِنِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فِي الْأَعْصَارِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الزَّمَانِ ، جَامِعًا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُجَّةِ وَالْمُحْتَجِّ لَهُ ، وَالدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوْكَدَ لِلُزُومِ مَا دَعَا إِلَيْهِ ، وَإِنْبَاءً عَنْ وُجُوبِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ أَشْتَاتِهَا حَتَّى تَنْتَظِمَ وَتَتَّسِقَ ، أَمْرٌ تَعْجِزُ عَنْهُ قُوَى الْبَشَرِ ، وَلَا تَبْلُغُهُ قُدْرَتُهُمْ ، فَانْقَطَعَ الْخَلْقُ دُونَهُ ، وَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ ، وَمُنَاقَضَتِهِ فِي شَكْلِهِ ، ثُمَّ صَارَ الْمُعَانِدُونَ لَهُ يَقُولُونَ مَرَّةً : إِنَّهُ شِعْرٌ لَمَّا رَأَوْهُ مَنْظُومًا ، وَمَرَّةً إِنَّهُ سِحْرٌ لَمَّا رَأَوْهُ مَعْجُوزًا عَنْهُ ، غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ . وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَ لَهُ وَقْعًا فِي الْقَلْبِ ، وَقَرْعًا فِي النَّفْسِ ، يُرِيبُهُمْ وَيُحَيِّرُهُمْ ، فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِهِ نَوْعًا مِنَ الِاعْتِرَافِ ، وَلِذَلِكَ قَالُوا : إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً . وَكَانُوا مَرَّةً لِجَهْلِهِمْ وَحَيْرَتِهِمْ يَقُولُونَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=5أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( الْفُرْقَانِ : 5 ) مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ صَاحِبَهُمْ أُمِّيٌّ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُمْلِي أَوْ يَكْتُبُ شَيْئًا ; وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْجَبَهَا الْعِنَادُ وَالْجَهْلُ وَالْعَجْزُ .
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ مَرَدَتِهِمْ ، وَهُوَ
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ ، [ ص: 235 ] أَنَّهُ لَمَّا طَالَ فِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَكَثُرَ ضَجَرُهُ مِنْهُ ، وَضَرَبَ لَهُ الْأَخْمَاسَ مِنْ رَأْيِهِ فِي الْأَسْدَاسِ ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=25إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ( الْمُدَّثِّرِ : 25 ) عِنَادًا وَجَهْلًا بِهِ ، وَذَهَابًا عَنِ الْحُجَّةِ ، وَانْقِطَاعًا دُونَهَا .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَمُودَ الْبَلَاغَةِ الَّتِي تَجْتَمِعُ لَهَا هَذِهِ الصِّفَاتُ هُوَ وَضْعُ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا فُصُولُ الْكَلَامِ مَوْضِعَهُ الْأَخَصَّ الْأَشْكَلَ بِهِ ، الَّذِي إِذَا أُبْدِلَ مَكَانَهُ غَيْرُهُ جَاءَ مِنْهُ ، إِمَّا تَبَدُّلُ الْمَعْنَى الَّذِي يَفْسُدُ بِهِ الْكَلَامُ ، أَوْ إِذْهَابُ الرَّوْنَقِ الَّذِي تَسْقُطُ بِهِ الْبَلَاغَةُ ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ أَلْفَاظًا مُتَرَادِفَةً مُتَقَارِبَةَ الْمَعَانِي فِي زَعْمِ أَكْثَرِ النَّاسِ ، كَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ ، وَالشُّحِّ وَالْبُخْلِ ، وَالنَّعْتِ وَالصِّفَةِ ، وَكَذَا بَلَى وَنَعَمْ ، وَمَنْ وَعَنْ ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ ; وَالْأَمْرُ فِيهَا عِنْدَ الْحُذَّاقِ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، لِأَنَّ كُلَّ لَفْظَةٍ مِنْهَا خَاصَّةً تَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ صَاحِبَتِهَا فِي بَعْضِ مَعَانِيهَا ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي بَعْضِهَا .
وَلِهَذَا قَالَ
أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=107&ayano=5الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ( الْمَاعُونِ : 5 ) إِنَّهُ الَّذِي يَنْصَرِفُ وَلَا يَدْرِي عَنْ شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْحَسَنُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=2الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ فَلَمْ يُفَرِّقْ
أَبُو الْعَالِيَةِ بَيْنَ ( فِي ) وَ ( عَنْ ) حَتَّى تَنَبَّهَ لَهُ الْحَسَنُ وَقَالَ : الْمُرَادُ بِهِ إِخْرَاجُهَا عَنْ وَقْتِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَعَلَ فِي كُلِّ سُورَةٍ نَوْعًا مِنَ الْأَنْوَاعِ ؟ قِيلَ : إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مَنْ جَمَعَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةَ الْمَعَانِي فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَفِي الْآيِ الْمَجْمُوعَةِ الْقَلِيلَةِ الْعَدَدِ ، لِيَكُونَ أَكْثَرَ لِفَائِدَتِهِ ، وَأَعَمَّ لِمَنْفَعَتِهِ ، وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُ قَبِيلٌ ، وَلِكُلِّ مَعْنًى سُورَةٌ مُفْرَدَةٌ ، لَمْ تَكْثُرْ عَائِدَتُهُ ، وَلَكَانَ الْوَاحِدُ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُنْكِرِينَ وَالْمُعَانِدِينَ إِذَا سَمِعَ
[ ص: 236 ] السُّورَةَ لَا تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِهِ إِلَّا فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ الْوَاحِدَةُ فَقَطْ ، وَكَانَ فِي اجْتِمَاعِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ أَوْفَرَ حَظًّا ، وَأَجْدَى نَفْعًا مِنَ التَّخْيِيرِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
قَالَ
الْخَطَّابِيُّ : وَقُلْتُ : فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَجْهًا ذَهَبَ عَنْهُ النَّاسُ وَهُوَ صَنِيعُهُ بِالْقُلُوبِ ، وَتَأْثِيرُهُ فِي النُّفُوسِ ، فَإِنَّكَ لَا تَسْمَعُ كَلَامًا غَيْرَ الْقُرْآنِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا إِذَا قَرَعَ السَّمْعَ خَلَصَ لَهُ إِلَى الْقَلْبِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْحَلَاوَةِ فِي حَالٍ ، وَمِنَ الرَّوْعَةِ وَالْمَهَابَةِ فِي حَالٍ أُخْرَى مَا يَخْلُصُ مِنْهُ إِلَيْهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=21لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ( الْحَشْرِ : 21 ) وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ الْآيَةَ ( الزُّمَرِ : 23 ) .
قُلْتُ : وَلِهَذَا
أَسْلَمَ nindex.php?page=showalam&ids=67جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ لَمَّا سَمِعَ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلطُّورِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ : nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=7إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ( الطُّورِ : 7 ) قَالَ : خَشِيتُ أَنْ يُدْرِكَنِي الْعَذَابُ . وَفِي لَفْظٍ : كَادَ قَلْبِي يَطِيرُ ، فَأَسْلَمَ . وَفَى أَثَرٍ آخَرَ أَنَّ
عُمَرَ لَمَّا سَمِعَ سُورَةَ طه أَسْلَمَ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ كِتَابًا فِيمَنْ مَاتَ بِسَمَاعِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ .