الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الحادي والعشرون : إقامة صيغة مقام أخرى . وله صور :

فمنه " فاعل " بمعنى مفعول ، كقوله - تعالى - : لا عاصم اليوم من أمر الله ( هود : 43 ) أي لا معصوم .

وقوله - تعالى - : من ماء دافق ( الطارق : 6 ) أي مدفوق .

و في عيشة راضية أي مرضية بها ، وقيل : على النسب ، أي ذات رضا ، وهو مجاز إفراد لا تركيب .

وقوله : أنا جعلنا حرما آمنا ( العنكبوت : 67 ) أي مأمونا فيه . وجعلنا آية النهار مبصرة ( الإسراء : 12 ) أي مبصور [ ص: 399 ] فيها في يوم عاصف ( إبراهيم : 18 ) لأن المعصوف يكون فيه . وقوله : وخير أملا ( الكهف : 46 ) أي مأمولا ، وعكسه : إنه كان وعده مأتيا ( مريم : 61 ) أي آتيا .

وجعل منه بعضهم قوله - تعالى - : حجابا مستورا ( الإسراء : 45 ) أي ساترا ، وحكى الهروي في " الغريب " عن أهل اللغة : وتأويل الحجاب الطبع . وقال السهيلي : الصحيح أنه على بابه ، أي مستورا عن العيون ، ولا يحس به أحد ، والمعنى : مستور عنك وعنهم ، كما قال - تعالى - : وما يعلم جنود ربك إلا هو ( المدثر : 31 ) وقال الجوهري : أي حجابا على حجاب ، والأول مستور بالثاني ، يراد بذلك كثافة الحجاب ؛ لأنه جعل على قلوبهم أكنة ، وفي آذانهم وقرا .

قال أبو الفتح في كتابه ( هذا القد ) : وسألته - يعني الفارسي - إذا جعلت فاعلا بمعنى مفعول ، فعلام ترفع الضمير الذي فيه ؟ أعلى حد ارتفاع الضمير في اسم الفاعل أم اسم المفعول ؟ فقال : إن كان بمعنى " مفعول " ارتفع الضمير فيه ارتفاع الضمير في اسم الفاعل ، وإن جاء على لفظ اسم الفاعل .

ومنه " فعيل " بمعنى " مفعول " كقوله : وكان الكافر على ربه ظهيرا ( الفرقان : 55 ) [ ص: 400 ] أي مظهورا فيه ، ومنه ظهرت به فلم ألتفت إليه . أما نحو : فله عذاب أليم ( البقرة : 178 ) فقال بعض النحويين : إنه بمعنى " مؤلم " ورده النحاس ، بأن " مؤلما " يجوز أن يكون قد آلم ثم زال ، وأليم أبلغ لأنه يدل على الملازمة ، قال : ولهذا منع النحويون إلا سيبويه أن يعدى فعيل .

ومنه مجيء المصدر على فعول كقوله - تعالى - : لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ( الفرقان : 62 ) ، وقوله : لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ( الإنسان : 9 ) فإنه ليس المراد الجمع هنا ، بل المراد : لا نريد منكم شكرا أي أصلا ، وهذا أبلغ في قصد الإخلاص في نفي الأنواع .

وزعم السهيلي أنه جمع شكر ، وليس كذلك لفوات هذا المعنى .

ومنها إقامة الفاعل مقام المصدر نحو : ليس لوقعتها كاذبة ( الواقعة : 2 ) أي تكذيب ، وإقامة المفعول مقام المصدر نحو : بأييكم المفتون ( القلم : 6 ) أي الفتنة .

ومنه وصف الشيء بالمصدر ، كقوله - تعالى - : فإنهم عدو لي ( الشعراء : 77 ) قالوا : إنما وحده ، لأنه في معنى المصدر ، كأنه قال : فإنهم عداوة .

ومجيء المصدر بمعنى المفعول ، كقوله - تعالى - : ولا يحيطون بشيء من علمه ( البقرة : 255 ) أي من معلومه .

وقوله : ذلك مبلغهم من العلم ( النجم : 30 ) أي من العلوم وقوله : صنع الله ( النمل : 88 ) أي مصنوعه .

وقوله : هذا رحمة من ربي ( الكهف : 98 ) أي مترحم : قاله الفارسي .

وكذا قوله : فأعينوني بقوة ( الكهف : 95 ) أي مقوى به ، ألا ترى أنه أراد منهم زبر الحديد والنفخ عليها .

وقوله : وقد خاب من حمل ظلما ( طه : 111 ) أي مظلوما فيه .

[ ص: 401 ] وقوله - تعالى - : وجاءوا على قميصه بدم كذب ( يوسف : 18 ) أي مكذوب فيه ، وإلا لو كان على ظاهره لأشكل ؛ لأن الكذب من صفات الأقوال لا الأجسام . وقال الفراء : يجوز في النحو : بدم كذبا بالنصب على المصدر ؛ لأن جاءوا فيه معنى كذبوا كذبا ، كما قال - تعالى - : والعاديات ضبحا ( العاديات : 1 ) لأن العاديات بمعنى الضابحات . وعكسه : وإنه لذو علم لما علمناه ( يوسف : 68 ) .

ومنه " فعيل " بمعنى الجمع ، كقوله - تعالى - : والملائكة بعد ذلك ظهير ( التحريم : 4 ) . وقوله : خلصوا نجيا ( يوسف : 80 ) . وقوله : وحسن أولئك رفيقا ( النساء : 69 ) . وشرط بعضهم أن يكون المخبر عنه جمعا ، وأنه لا يجيء ذلك في المثنى ، ويرده قوله - تعالى - : عن اليمين وعن الشمال قعيد ( ق : 17 ) فإنه نقل الواحدي عن المبرد ، وابن عطية ، عن الفراء ، أن " قعيد " أسند لهما .

وقد يقع الإخبار بلفظ الفرد عن لفظ الجمع ، وإن أريد معناه لنكتة ، كقوله - تعالى - : أم يقولون نحن جميع منتصر ( القمر : 44 ) فإن سبب النزول ، وهو قول أبي جهل : نحن ننتصر اليوم ، يقضي بإعراب " منتصر " خبرا .

ومنه إطلاق الخبر وإرادة الأمر كقوله - تعالى - : والوالدات يرضعن أولادهن ( البقرة : 233 ) أي ليرضع الوالدات أولادهن .

وقوله : يتربصن بأنفسهن ( البقرة : 234 ) أي تتربص المتوفى عنها .

وقوله : تزرعون سبع سنين دأبا ( يوسف : 47 ) والمعنى ازرعوا سبع سنين ، بدليل قوله : فذروه في سنبله ( يوسف : 47 ) .

[ ص: 402 ] وقوله : تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون ( الصف : 11 ) معناه آمنوا وجاهدوا ، ولذلك أجيب بالجزم في قوله : تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات ( الصف : 12 ) ولا يصح أن يكون جوابا للاستفهام في قوله : هل أدلكم ( الصف : 10 ) لأن المغفرة وإدخال الجنان لا يترتبان على مجرد الدلالة ، قاله أبو البقاء والشيخ عز الدين .

والتحقيق ما قاله النيلي : أنه جعل الدلالة على التجارة سببا لوجودها ، والتجارة هي الإيمان ، ولذلك فسرها بقوله : تؤمنون ( الصف : 11 ) فعلم أن التجارة من جهة الدلالة هي الإيمان فالدلالة سبب الإيمان ، والإيمان سبب الغفران ، وسبب السبب سبب ، وهذا النوع فيه تأكيد ، وهو من مجاز التشبيه ، شبه الطلب في تأكده بخبر الصادق الذي لا بد من وقوعه ، وإذا شبهه بالخبر الماضي كان آكد .

ومنه عكسه كقوله - تعالى - : فليمدد له الرحمن مدا ( مريم : 75 ) والتقدير : مده الرحمن مدا .

وقوله : اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ( العنكبوت : 12 ) أي نحمل .

قال الكواشي : والأمر بمعنى الخبر أبلغ من الخبر لتضمنه اللزوم ، نحو : إن زرتنا [ ص: 403 ] فلنكرمك . يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم ، كذا قال الشيخ عز الدين ؛ مقصوده تأكيد الخبر ؛ لأن الأمر للإيجاب يشبه الخبر في إيجابه .

وجعل الفارسي منه قوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن ( النحل : 40 ) قال : ( كن ) لفظه أمر ، والمراد الخبر ، والتقدير : يكون فيكون ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، قال : ولهذا أجمع القراء على رفع ( فيكون ) ورفضوا فيه النصب إلا ما روي عن ابن عامر ، وسوغ النصب لكونه بصيغة الأمر ، قال : ولا يجوز أن يكون معطوفا على ( نقول ) فيجيء النصب على الفعل المنصوب بأن ؛ لأن ذلك لا يطرد ، بدليل قوله : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ( آل عمران : 59 ) إذ لا يستقيم هنا العطف المذكور ؛ لأن ( قال ) ماض ، ( ويكون ) مضارعا ، فلا يحسن عطفه عليه لاختلافهما .

قلت : وهذا الذي قاله الفارسي ضعيف مخالف لقواعد أهل السنة .

ومنه إطلاق الخبر وإرادة النهي ، كقوله : لا تعبدون إلا الله ( البقرة : 83 ) ومعناه لا تعبدوا .

وقوله : لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم ( البقرة : 84 ) أي لا تسفكوا ولا تخرجوا .

وقوله : وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ( البقرة : 272 ) أي ولا تنفقوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية