الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
ويلتحق بالتأكيد الصناعي أمور :

أحدها : تأكيد الفعل بالمصدر ، ومنه قوله - تعالى - : جزاؤكم جزاء موفورا ( الإسراء : 63 ) . وقوله - تعالى - : وكلم الله موسى تكليما ( النساء : 164 ) ، وسلموا تسليما ( الأحزاب : 56 ) وقوله - تعالى - : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا ( الطور : 9 و 10 ) [ ص: 492 ] وهي تمر مر السحاب ( النمل : 88 ) . فدكتا دكة واحدة ( الحاقة : 14 ) ، إذا زلزلت الأرض زلزالها ( الزلزلة : 1 ) ، فيكيدوا لك كيدا ( يوسف : 5 ) وهو كثير .

قالوا : وهو عوض عن تكرار الفعل مرتين ؛ فقولك : ضربت ضربا بمنزلة قولك : ضربت ضربت ، ثم عدلوا عن ذلك ، واعتاضوا عن الجملة بالمفرد .

وليس منه قوله - تعالى - : وتظنون بالله الظنون ( الأحزاب : 10 ) بل هو جمع ظن ، وجمع لاختلاف أنواعه ، قاله ابن الدهان .

ثم اختلفوا في فائدته ، فقيل : إنه يرفع المجاز عن الفاعل ، فإنك تقول : ضرب الأمير اللص ، ولا يكون باشر بل أمر به ؛ فإن قلت : ضربا ، علم أنه باشر .

وممن نص على ذلك ثعلب في " أماليه " ، وابن عصفور في شرح الجمل الصغير .

والصواب أنه إنما يرفع الوهم عن الحديث لا عن المحدث عنه ؛ فإذا قلت : ضرب الأمير ، احتمل مجازين : أحدهما إطلاق الضرب على مقدماته ، والثاني : إطلاق الأمير على أمره ، فإذا أردت رفع الأول أتيت بالمصدر ، فقلت : ضربا ، وإن أردت الثاني قلت : نفسه أو عينه .

ومن هذا يعلم ضعف استدلال أصحابنا على المعتزلة في إثبات كلام الله [ ص: 493 ] لموسى في قوله - تعالى - : وكلم الله موسى تكليما ( النساء : 164 ) فإنه لما أريد كلام الله نفسه ، قال : ( تكليما ) ودل على وقوع الفعل حقيقة ؛ أما تأكيد فاعله فلم يتعرض له . ولقد سخف عقل من تأوله على أنه كلمه بأظفار المحن ؛ من الكلم ؛ وهو الجرح لأن الآية مسوقة في بيان الوحي .

ويحكى أنه استدل بعض علماء السنة على بعض المعتزلة في إثبات التكليم حقيقة بالآية من جهة أن المجاز لا يؤكد ، فسلم المعتزلي له هذه القاعدة ، وأراد دفع الاستدلال من جهة أخرى ، فادعى أن اللفظ إنما هو ( وكلم الله موسى ) بنصب لفظ الجلالة ، وجعل موسى فاعلا بـ " كلم " وأنكر القراءة المشهورة وكابر ، فقال السني : فماذا تصنع بقوله - تعالى - : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ( الأعراف : 143 ) فانقطع المعتزلي عند ذلك .

قال ابن الدهان : ومما يدل على أن التأكيد لا يرفع المجاز قول الشاعر :


قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج ويوم اللوى حتى قسرت الهوى قسرا

قلت : وكذا قوله : ومكروا مكرا ومكرنا مكرا ( النمل : 50 ) وأما قوله - تعالى - : ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ( نوح : 9 ) فمفعول ( أسررت ) محذوف ، أي الدعاء والإنذار ونحوه .

فإن قلت : التأكيد ينافي الحذف ، فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن المصدر لم يؤت به هنا للتأكيد ، وإن كان بصورته ؛ لأن المعنى ليس على ذلك ، وإنما أتي به لأجل الفواصل ، ولهذا لم يؤت بمصدر ( أعلنت ) وهو مثله .

[ ص: 494 ] والثاني : أن " أسر " وإن كان متعديا في الأصل ، إلا أنه هنا قطع النظر عن مفعوله ، وجعل نسيا ، كما في قوله : فلان يعطى ويمنع . فصار لذلك كاللازم ، وحينئذ فلا منافاة بين المجيء به بالمصدر لو كان .

ثم التأكيد بالمصدر تارة يجيء من لفظ الفعل كما سبق ، وتارة يجيء من مرادفه ، كقوله - تعالى - : إني دعوتهم جهارا ( نوح : 8 ) فإن الجهار أحد نوعي الدعاء وقوله : ليا بألسنتهم ( النساء : 46 ) فإنه منصوب بقوله : يحرفون الكلم ( النساء : 46 ) لأن ( ليا ) نوع من التحريف .

ويحتمل أن يكون منه : أتأخذونه بهتانا ( النساء : 20 ) لأن البهتان ظلم ، والأخذ على نوعين : ظلم وغيره .

وزعم الزمخشري قوله : نافلة لك ( الإسراء : 79 ) وضع موضع " تهجدا " ؛ لأن التهجد عبادة زائدة ، فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد .

وقوله : وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ( النساء : 122 ) قيل : كان الأصل تكرار الصدق بلفظه ، فاستثقل التكرار للتقارب ، فعدل إلى ما يجاريه خفة ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحد ، خفة ووزنا ، إحرازا للتناسب .

وأما قوله : والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ( نوح : 17 و 18 ) ففائدة ( إخراجا ) أن المعاد في الأرض هو الذي يخرجكم منها بعينه ، دفعا لتوهم من يتوهم أن المخرج منها أمثالهم ؛ وأن المبعوث الأرواح المجردة .

فإن قيل : هذا يبطل بقوله - تعالى - : أنبتكم من الأرض نباتا ( نوح : 17 ) فإنه أكد بالمصدر ، وليس المراد حقيقة النبات .

قلت : لا جرم حيث لم يرد الحقيقة هنا لم يؤكده بالمصدر الحقيقي القياسي ؛ بل عدل به إلى غيره ، وذلك لأن مصدر أنبت الإنبات ، والنبات اسمه لا هو ، كما قيل في الكلام والسلام اسمان للمصدر الأصلي الذي هو التكليم والتسليم ؛ وأما قوله : [ ص: 495 ] وتبتل إليه تبتيلا ( المزمل : 8 ) وإن لم يكن جاريا على تبتل لكنه ضمن معنى بتل نفسك تبتلا .

ومثله قوله - تعالى - : سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ( الإسراء : 43 ) قال أبو البقاء : هو موضع تعاليا لأنه مصدر قوله : ( وتعالى ) ويجوز أن يقع مصدرا في موضع آخر من معناه ، وكذا قال الراغب . قال : وإنما عدل عنه ؛ لأن لفظ التفاعل من التكلف ، كما يكون من البشر .

وأما قوله : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا ( الطور : 9 و 10 ) فقال بعضهم : الجملة الفاعلية تحتمل المجاز في مفرديها جميعا ، وفي كل منهما ؛ مثاله هاهنا أنه يحتمل إن المجاز في ( تمور ) وأنها ما تمور ، بل تكاد ، أو يخيل إلى الناظر أنها تمور ، ويحتمل أن المجاز في السماء وأن المور الحقيقي لسكانها وأهلها لشدة الأمر .

وكذلك الكلام في : وتسير الجبال سيرا ( الطور : 10 ) فإذا رفع المجاز عن أحد جزأي الجملة نفي احتماله في الآخر ، فلم تحصل فائدة التأكيد .

وأجيب بهذه القاعدة وهي أن ( مورا ) في تقدير تمور ، فكأنه قال : تمور السماء ، تمور السماء . وتسير الجبال ، تسير الجبال . فأكد كلا من الجزأين بنظيره ، وزال الإشكال .

وأما قوله - تعالى - : إلا أن يشاء ربي شيئا ( الأنعام : 80 ) فيحتمل أن يكون ( شيئا ) من تأكيد الفعل بالمصدر ، كقوله : بعت بيعا ويجوز أن يكون الشيء بمنزلة الأمر والتبيان ؛ [ ص: 496 ] والمعنى : إلا أن يشاء ربي أمرا ، أو وضع موضع المصدر . وانظر كيف ذكر مفعول المشيئة . وقول البيانيين : إنه يجب حذفه إذا كان عاما ، وأما قوله - تعالى - : دكا دكا ( الفجر : 21 ) فالمراد به التتابع ، أي دكا بعد دك ، وكذا قوله : صفا صفا ( الفجر : 22 ) أي صفا يتلوه صف ، ولو اقتصر على الواحد لا يحتمل صفا واحدا .

وأما قوله - تعالى - : إذا زلزلت الأرض زلزالها ( الزلزلة : 1 ) فإن إضافة الزلزال إليها يفيد معنى ذاتها ، وهو زلزالها المختص بها ، المعروف منها ، المتوقع كما تقول : غضب زيد غضبه ، وقاتل زيد قتاله ، أي غضبه الذي يعرف منه ، وقتاله المختص به ، كقوله :


أنا أبو النجم وشعري شعري

واعلم أن القاعدة في المصدر والمؤكد أن يجيء اتباعا لفعله ، نحو : وكلم الله موسى تكليما ( النساء : 164 ) وقد يخرج عنها ، نحو قوله - تعالى - : وتبتل إليه تبتيلا ( المزمل : 8 ) وقوله - تعالى - : فإني أعذبه عذابا ( المائدة : 115 ) وقوله - تعالى - : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ( الحديد : 11 ) وقوله - تعالى - : أنبتكم من الأرض نباتا ( نوح : 17 ) ولم يقل تبتلا وتعذيبا وإقراضا وإنباتا .

واختلف في ذلك على أقوال :

أحدها : أنه وضع الاسم منها موضع المصدر .

والثاني : أنه منصوب بفعل مضمر يجرى عليه المصدر ؛ ويكون ذلك الفعل الظاهر دليلا على المضمر ، فالمعنى : والله أنبتكم من الأرض نباتا ( نوح : 17 ) فنبتم نباتا ، وهو [ ص: 497 ] قول المبرد ، واختاره ابن خروف ، وزعم أنه مذهب سيبويه ، وكذا قال ابن يعيش ، ونازعه ابن عصفور .

والثالث : أنها منصوبة بتلك الأفعال الظاهرة ، وإن لم تكن جارية عليها .

والرابع : التفصيل بين أن يكون معنى الفعل غير معبر بمعنى مصدر ذلك الفعل الظاهر فهو منصوب بفعل مضمر ، يدل عليه ذلك الفعل الظاهر ، كقوله - تعالى - : والله أنبتكم من الأرض نباتا ( نوح : 17 ) أي ونبتم ؛ أي وساغ إضماره ؛ لأنهم إذا أنبتوا فقد نبتوا ، ولا يجوز في غير ذلك أن ينصب بالظاهر ؛ لأن الغرض من المصدر تأكيد الفعل الذي نصبه ، أو تبيين معناه . وإذا كان المصدر مغايرا لمعنى الفعل الظاهر لم يحصل بذلك الغرض المقصود ؛ لأن النبات ليس بمعنى الإنبات ، وإذا لم يكن بمعناه ، فكيف يؤكده أو يبينه .

وأما قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ( البقرة : 282 ) فإنما ذكر قوله : ( بدين ) مع ( تداينتم ) يدل عليه لوجوه :

أحدها : ليعود الضمير في ( فاكتبوه ) عليه إذ لو لم يذكره لقال : فاكتبوا [ ص: 498 ] الدين ، ذكره الزمخشري ؛ وهو ممنوع لأنه كان يمكن أن يعود على المصدر المفهوم من ( تداينتم ) لأنه يدل على الدين .

الثاني : أن ( تداينتم ) مفاعلة من الدين ، ومن الدين ، فاحتيج إلى قوله : ( بدين ) ليبين أنه من الدين لا من الدين . وهذا أيضا فيه نظر ؛ لأن السياق يرشد إلى إرادة الدين .

الثالث : أن قوله : ( بدين ) إشارة إلى امتناع بيع الدين بالدين ، كما فسر قوله - صلى الله عليه وسلم - ، هو بيع الكالئ بالكالئ ، ذكره الإمام فخر الدين .

وبيانه أن قوله - تعالى - : ( تداينتم ) مفاعلة من الطرفين ، وهو يقتضي وجود الدين من الجهتين ، فلما قال : بدين ، علم أنه دين واحد من الجهتين .

الرابع : أنه أتي به ليفيد أن الإشهاد مطلوب ، سواء كان الدين صغيرا أو كبيرا ؛ كما سبق نظيره في قوله - تعالى - : فإن كانتا اثنتين ( النساء : 176 ) ويدل على هذا هاهنا قوله بعد ذلك : ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ( البقرة : 282 ) .

الخامس : أن ( تداينتم ) مشترك بين الاقتراض والمبايعة والمجازاة ، وذكر الدين لتمييز المراد ، قال الحماسي :

[ ص: 499 ]

ولم يبق سوى العدوا     ن دناهم كما دانوا

ونظير هذه الآية في التصريح بالمصدر مع ظهوره فيما قبله ، قوله - تعالى - : فتقبلها ربها بقبول حسن ( آل عمران : 37 ) وقوله - تعالى - : فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ( التوبة : 111 ) وقوله : سأل سائل ( المعارج : 1 ) فيقال : ما الحكمة في التصريح بالمصدر فيهما ، أو بضميره مع أنه مستفاد مما قبله ؟

وقد يجيء التأكيد به لمعنى الجملة ، كقوله - تعالى - : صنع الله الذي أتقن كل شيء ( النمل : 88 ) فإنه تأكيد لقوله - تعالى - : تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ( النمل : 88 ) لأن ذلك صنع الله ، وقوله - تعالى - : وعد الله ( الروم : 6 ) تأكيد لقوله : ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ( الروم : 4 ، 5 ) لأن هذا وعد الله .

وقوله - تعالى - : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ( آل عمران : 145 ) انتصب ( كتابا ) على المصدر بما دل عليه السياق ، تقديره : وكتب الله لأن قوله : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ( آل عمران : 145 ) يدل على كتب .

وقوله - تعالى - كتاب الله عليكم ( النساء : 24 ) تأكيد لقوله : حرمت عليكم ( النساء : 23 ) الآية ؛ لأن هذا مكتوب علينا ، وانتصب المصدر بما دل عليه سياق الآية ، فكأنه فعل تقديره : كتب الله عليكم .

وقال الكسائي : انتصب بعليكم على الإغراء ، وقدم المنصوب ، والجمهور على منع التقدير .

وقوله : صبغة الله ( البقرة : 138 ) تأكيد لقوله : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ( البقرة : 137 ) لأن هذا دين الله ، وقيل : منصوبة على الأمر .

وقوله - تعالى - : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( الزمر : 3 ) منصوبة على المصدر بما دل عليه الكلام ؛ لأن الزلفى مصدر كالرجعى ، ( ويقربونا ) يدل على يزلفونا ، فتقديره : يزلفونا زلفى .

[ ص: 500 ] وقد يجيء التأكيد به مع حذف عامله ، كقوله : فإما منا بعد وإما فداء ( محمد - صلى الله عليه وسلم - : 4 ) والمعنى : فإما تمنوا منا ، وإما إن تفادوا فداء ، فهما مصدران منصوبان بفعل مضمر .

وجعل سيبويه من المصدر المؤكد لنفسه قوله - تعالى - : الذي أحسن كل شيء خلقه ( السجدة : 7 ) لأنه إذا أحسن كل شيء فقد خلقه خلقا حسنا ، فيكون ( خلقه ) على معنى خلقه خلقا ، والضمير هو الله - تعالى .

ويجوز أن يكون بدل اشتمال ؛ أي أحسن خلق كل شيء .

قال الصفار : والذي قاله سيبويه أولى لأمرين : أن في هذا إضافة المصدر إلى المفعول ، وإضافته إلى الفاعل أكثر ، وأن المعنى الذي صار إليه أبلغ في الامتنان ، وذلك أنه إذا قال : أحسن كل شيء فهو أبلغ من قولك : أحسن خلق كل شيء ؛ لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة ، ولا يكون الشيء في نفسه حسنا ، وإذا قال : أحسن كل شيء ، اقتضى أن كل شيء خلقه حسن ؛ بمعنى أنه وضع كل شيء موضعه ، فهو أبلغ في الامتنان .

فائدتان

الأولى : هل الأولى التأكيد بالمصدر أو الفعل ؟ قال بعضهم : المصدر أولى ؛ لأنه اسم وهو أخف من الفعل ، وأيضا فلأن الفعل يحتمل الضمير فيكون جملة ، فيزداد ثقلا ؛ ويحتمل أن الفعل أولى لدلالته على الاستمرار .

الثانية : حيث أكد المصدر النوعي ، فالأصل فيه أن ينعت بالوصف المراد منه ، نحو : قمت قياما حسنا ، وسرحوهن سراحا جميلا ( الأحزاب : 49 ) وقوله : اذكروا الله ذكرا كثيرا ( الأحزاب : 41 ) .

وقد يضاف الوصف إلى المصدر فيعطى حكم المصدر ، قال - تعالى - : اتقوا الله حق تقاته ( آل عمران : 102 ) .

[ ص: 501 ] الثاني : الحال المؤكدة ، وهي الآتية على حال واحدة ، وعكس المبينة ، فإنها لا تكون إلا منتقلة ، وهي لتأكيد الفعل كما سبق في المصدر المؤكد لنفسه ؛ وسميت مؤكدة لأنها تعلم قبل ذكرها ، فيكون ذكرها توكيدا ؛ لأنها معلومة من ذكر صاحبها .

كقوله - تعالى - : ويوم أبعث حيا ( مريم : 33 ) . وقوله : ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( العنكبوت : 36 ) . فتبسم ضاحكا من قولها ( النمل : 19 ) لأن معنى تبسم : ضحك مسرورا .

وقوله : وأرسلناك للناس رسولا ( النساء : 79 ) . ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ( البقرة : 83 ) وذكر الإعراض للدلالة على تناهي حالهم في الضلال . ومثله : أقررتم وأنتم تشهدون ( البقرة : 84 ) إذ معنى الإقرار أقرب من الشهادة ولأن الإعراض والشهادة حالان لهم عند التولي والإقرار .

وقوله : وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ( ق : 31 ) . وقوله : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ( هود : 108 ) فإنه حال مؤكدة ، لقوله : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ( هود : 108 ) وبهذا يزول الإشكال في أن شرط الحال الانتقال ، ولا يمكن ذلك هنا ، فإنا نقول : ذلك شرط في غير المؤكدة ، ولما لم يقف ابن جني على ذلك قدر محذوفا ؛ أي معتقدا خلودهم فيها ؛ لأن اعتقاد ذلك أمر ثابت عند غير المؤمنين ، فلهذا ساغ مجيئها غير منتقلة .

ومنهم من نازع في التأكيد في بعض ما سبق ؛ لأن الحال المؤكدة مفهومها مفهوم عاملها ، وليس كذلك التبسم والضحك ، فإنه قد يكون من غير ضحك ؛ بدليل قوله : تبسم تبسم الغضبان .

وكذلك : التولية والإدبار في قوله - تعالى - : ولى مدبرا ( النمل : 10 ) ، ثم وليتم مدبرين ( التوبة : 25 ) فإنهما بمعنيين مختلفين ، فالتولية أن يولي الشيء ظهره ، والإدبار أن يهرب منه ، فليس كل مول مدبرا ، ولا كل مدبر موليا .

ونظيره قوله - تعالى - : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ( النمل : 80 ) فلو كان أصم مقبلا لم يسمع ، فإذا ولى ظهره كان أبعد له من السماع ، فإذا [ ص: 502 ] أدبر مع ذلك كان أشد لبعده عن السماع . ومن الدليل على أن التولي لا يتضمن الإدبار قوله : فول وجهك شطر المسجد الحرام ( البقرة : 144 ) فإنه بمعنى الإقبال ، وقوله : ولم يعقب ( النمل : 10 ) إشارة إلى استمراره في الهروب ، وعدم رجوعه ، يقال : فلان ولى إذا رجع ، وكل راجع معقب ، وأهل التفسير يقولون : لم يقف ولم يلتفت ، وكذلك قوله : وأرسلناك للناس رسولا ( النساء : 79 ) قيل : ليست بمؤكدة ؛ لأن الشيء المرسل قد لا يكون رسولا ، كما قال - تعالى - : إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ( الذاريات : 41 ) .

وقوله : وهو الحق مصدقا ( البقرة : 91 ) جعلها كثير من المعربين مؤكدة ؛ لأن صفة الحق التصديق .

قيل : ويحتمل أن يريدوا به تأكيد العامل ، وأن يريدوا به تأكيد ما تضمنته الجملة .

ودعوى التأكيد غير ظاهرة ؛ لأنه يلزم من كون الشيء حقا في نفسه أن يكون مصدقا لغيره ، والفرض أن القرآن العزيز فيه الأمران ، وهو كونه حقا وكونه مصدقا لغيره من الكتب ، فالظاهر أن ( مصدقا ) حال مبينة لا مؤكدة ، ويكون العامل فيها الحق ، لكونه بمعنى الثابت ، وصاحب الحال الضمير الذي تحمله " الحق " لتأوله بالمشتق .

وقوله : قائما بالقسط ( آل عمران : 18 ) فقائما حال مؤكدة ؛ لأن الشاهد به لا إله إلا هو قائم بالقسط ، فهي لازمة مؤكدة ، وقد وقعت بعد الفعل والفاعل .

قال ابن أبي الربيع : ويجوز أن يكون حالا على جهة أخرى ، على معنى شهد الله أنه منفرد بالربوبية ، وقائم بالقسط ، فإنه - سبحانه وتعالى - بالصفتين لم ينتقل عنهما ، فهو متصف بكل واحدة منهما في حال الاتصاف بالأخرى ، وهو - سبحانه - لم يزل بهما لأن صفاته ذاتية قديمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية