الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر فالتمس الناس وضوءا فلم يجدوه فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء في إناء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده ثم أمر الناس يتوضئون منه قال أنس فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          64 62 - ( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد بن سهل عن أنس بن مالك قال ( رأيت ) أي أبصرت ( رسول الله صلى الله عليه وسلم و ) الحال أنه قد ( حانت ) بالحاء المهملة أي قربت ( صلاة العصر ) زاد في رواية الشيخين من طريق سعيد عن قتادة عن أنس وهو بالزوراء بفتح الزاي وسكون الواو ثم راء موضع بسوق المدينة ، وزعم الداودي أن الزوراء مكان مرتفع كالمنارة ، قال الحافظ : وكأنه أخذه من أمر عثمان بالتأذين على الزوراء وليس بلازم ، بل الواقع أن المكان الذي أمر بالتأذين فيه كان بالزوراء لا أنه الزوراء نفسها .

                                                                                                          ولأبي نعيم من طريق همام عن قتادة عن أنس : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عند الزوراء أو عند بيوت المدينة .

                                                                                                          ( فالتمس ) أي طلب ( الناس وضوءا ) بفتح الواو ما يتوضئون به ( فلم يجدوه ) أي لم يصيبوا الماء ، وفي رواية بحذف الضمير ، قال أبو عمر : فيه تسمية الشيء باسم ما قرب منه وكان في معناه وارتبط به لأنه سمى الماء وضوءا لأنه يقوم به الوضوء اه ، وكأنه قرأه بضم الواو .

                                                                                                          ( فأتي ) بضم الهمزة مبني للمفعول ( رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء في إناء ) وفي رواية : فجاء رجل بقدح فيه ماء ورد فصغر أن يبسط صلى الله عليه وسلم فيه كفه فضم أصابعه ، وروى المهلب أن الماء كان مقدار وضوء رجل واحد .

                                                                                                          ولأبي نعيم والحارث بن أبي أسامة من طريق شريك عن أنس أنه الآتي بالماء ولفظه : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق إلى بيت أم سلمة ، فأتيته بقدح ماء إما ثلثه وإما نصفه " الحديث وفيه : أنه رده بعد فراغهم إليها وفيه قدر ما كان فيه أولا .

                                                                                                          ( فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده ) اليمنى على الظاهر كما قال شيخ الإسلام الأنصاري .

                                                                                                          ( ثم أمر الناس يتوضئون ) وفي رواية : أن يتوضئوا ( منه ) أي من ذلك الإناء ، قال الباجي : هذا إنما يكون بوحي يعلم به أنه إذا وضع يده في الإناء نبع الماء حتى يعم أصحابه الوضوء .

                                                                                                          ( قال أنس : فرأيت الماء ينبع ) بفتح أوله وضم الموحدة ويجوز كسرها وفتحها أي يخرج ( من تحت ) وفي رواية : يفور من بين ( أصابعه ) قال القرطبي : لم نسمع بهذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم حيث نبع الماء من بين عظمه ولحمه ودمه .

                                                                                                          ونقل ابن عبد البر عن المزني أن نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغ في المعجزة من [ ص: 160 ] نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه ; لأن خروج الماء من الحجارة معهود بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم .

                                                                                                          ( فتوضأ الناس ) وكانوا ثمانين رجلا كما في رواية حميد عن أنس عند البخاري ، وله عن الحسن عن أنس كانوا سبعين أو نحوه ، وفي مسلم سبعين أو ثمانين ، وفي الصحيحين من طريق سعيد عن قتادة عن أنس : " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم " قال أي قتادة : فقلنا لأنس : كم كنتم ؟ قال : كنا ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة ، وللإسماعيلي ثلاثمائة بالجزم دون قوله : أو زهاء بضم الزاي أي مقارب ، وبهذا يظهر تعدد القصة إذ كانوا مرة ثمانين أو سبعين ومرة ثلاثمائة أو ما قاربها ، فهما كما قال النووي : قضيتان جرتا في وقتين حضرهما جميعا أنس .

                                                                                                          ( حتى توضئوا من عند آخرهم ) قال الكرماني : حتى للتدريج ومن للبيان أي توضأ الناس حتى توضأ الذين هم عند آخرهم وهو كناية عن جميعهم ، وعند بمعنى في لأن عند وإن كانت للظرفية الخاصة لكن المبالغة تقتضي أن تكون لمطلق الظرفية فكأنه قال : الذين هم في آخرهم .

                                                                                                          وقال التيمي : المعنى توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر .

                                                                                                          وقال النووي : من هنا بمعنى إلى وهي لغة ، وتعقبه الكرماني بأنها شاذة قال : ثم إن إلى لا يجوز أن تدخل على عند ويلزم عليه وعلى ما قاله التيمي أن لا يدخل الأخير ، لكن ما قاله الكرماني من أن إلى لا تدخل على عند لا يلزم مثله في من إذا وقعت بمعنى إلى ، وعلى توجيه النووي يمكن أن يقال عند زائدة .

                                                                                                          وفي الحديث دليل على أن المواساة مشروعة عند الضرورة لمن كان في مائه فضلة عن وضوئه ، وأن اغتراف المتوضئ من الماء لا يصيره مستعملا ، واستدل به الشافعي على أن الأمر بغسل اليد قبل إدخالها الإناء أمر ندب لا حتم .

                                                                                                          قال عياض : نبع الماء رواه الثقات من العدد الكثير والجم الغفير عن الكافة متصلة بالصحابة ، وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومجامع العساكر ، ولم يرد عن أحد منهم إنكار على راوي ذلك ، فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته .

                                                                                                          وقال القرطبي : نبع الماء من بين أصابعه تكرر في عدة مواطن في مشاهد عظيمة ، وورد من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي ، قال الحافظ : فأخذ القرطبي كلام عياض وتصرف فيه ، وحديث نبع الماء جاء من رواية أنس عند الشيخين وأحمد وغيرهم من خمسة طرق ، وعن جابر عندهم من أربعة ، وعن ابن مسعود في البخاري والترمذي ، وعن ابن عباس عند أحمد والطبراني من طريقين ، وعن أبي ليلى والد عبد الرحمن عند الطبراني فعد هؤلاء الصحابة أي الخمسة ليس كما يفهم من إطلاقهما .

                                                                                                          وأما تكثير الماء بأن لمسه بيده أو تفل فيه أو أمر بوضع شيء فيه كسهم من كنانته ، فجاء عن عمران في الصحيحين والبراء بن عازب [ ص: 161 ] في البخاري وأحمد من طريقين وأبي قتادة في مسلم وأنس في دلائل البيهقي ، وزياد بن الحارث الصدائي عنده وعن بريج بضم الموحدة وشد الراء الصدائي أيضا ، فإذا ضم هذا إلى هذا بلغ الكثرة المذكورة أو قاربها .

                                                                                                          وأما من رواها من أهل القرن الثاني فهم أكثر عددا وإن كان شطر طرقه أفرادا ، وبالجملة يستفاد منها رد قول ابن بطال : هذا الحديث شهده جمع من الصحابة إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس وذلك لطول عمره وطلب الناس علو السند ، وهذا ينادى عليه بقلة الاطلاع والاستحضار لأحاديث الكتاب الذي شرحه انتهى .

                                                                                                          وحديث الباب رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الفضائل من طريق معن بن عيسى ، وعبد الله بن وهب ، الثلاثة عن مالك به .




                                                                                                          الخدمات العلمية