الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني عن أبيه أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري قال له إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          153 150 - ( مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ) بمهملات مفتوحات إلا العين الأولى فساكنة عمرو بن زيد ( الأنصاري ثم المازني ) بالزاي والنون من بني مازن بن النجار من الثقات مات في خلافة المنصور ( عن أبيه ) عبيد الله المدني من ثقات التابعين ، زاد ابن عيينة : وكان يتيما في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد أخرجه ابن خزيمة ، ومات أبو صعصعة في الجاهلية وابنه عبد الرحمن صحابي .

                                                                                                          ( أنه أخبره أن أبا سعيد ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي ( الخدري قال له ) أي لعبد الله بن عبد الرحمن : ( إني أراك تحب الغنم والبادية ) أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى وهو الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها .

                                                                                                          ( فإذا كنت في غنمك أو باديتك ) يحتمل أن " أو " شك من الراوي وأنها للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية ، وقد يكون في البادية حيث لا غنم ، قاله الحافظ وغيره .

                                                                                                          ( فأذنت بالصلاة ) أي أعلمت بوقتها ، وفي رواية للبخاري للصلاة باللام بدل الموحدة أي لأجلها .

                                                                                                          ( فارفع صوتك بالنداء ) أي الأذان ، وفيه إشعار بأن أذان مريد الصلاة كان مقررا عندهم [ ص: 271 ] لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين ، وفيه استحباب أذان المنفرد وهو الراجح عند الشافعية والمالكية إن سافر بناء على أن الأذان حق الوقت ولو لم يرج حضور من يصلي معه ; لأنه إن فاته دعاء المصلين لم تفته شهادة من سمعه من غيرهم .

                                                                                                          وقيل لا يستحب بناء على أنه لاستدعاء الجماعة ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة فيستحب ومن لا فلا .

                                                                                                          ( فإنه لا يسمع مدى ) بفتح الميم والقصر ، أي : غاية ( صوت المؤذن ) قال البيضاوي : غاية الصوت يكون للمصغي أخفى من ابتدائه فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته ، فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى ( جن ) ، قال الرافعي : يشبه أن يريد مؤمني الجن وأما غيرهم فلا يشهدون للمؤذن بل يفرون وينفرون من الأذان .

                                                                                                          ( ولا إنس ) قيل خاص بالمؤمنين فأما الكافر فلا شهادة له ، قال عياض : وهذا لا يسلم لقائله لما جاء في الآثار من خلافه .

                                                                                                          ( ولا شيء ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات فهو من العام بعد الخاص ويؤيده رواية ابن خزيمة لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس ، وله ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ : " المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس " ، ونحوه للنسائي من حديث البراء وصححه ابن السكن ، قال الخطابي : مدى الشيء غايته أي أنه يستكمل المغفرة إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت أو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو قدر أن يكون بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله تعالى له ، واستشهد المنذري لقوله الأول برواية : يغفر له مد صوته بتشديد الدال أي بقدر مد صوته ، قال الحافظ : فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله : " ولا شيء " ، وتكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على ما يقتضيه ظاهره ، فقال القرطبي : المراد بالشيء الملائكة وتعقب بأنهم دخلوا في الجن لأنهم يستخفون عن الأبصار .

                                                                                                          وقال غيره المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل ; لأنه الذي يصح أن يسمع صوته دون الجمادات ومنهم من حمله على ظاهره ، ولا يمتنع ذلك عقلا ولا شرعا .

                                                                                                          قال ابن بزيزة : تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي ، فهل ذلك حكاية على لسان الحال ، لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال بارئها ، أو هو على ظاهره ؟ ولا يمتنع عقلا أن الله يخلق فيها الحياة والكلام ، وتقدم البحث في ذلك في قول النار : أكل بعضي بعضا .

                                                                                                          وفي مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعا : " إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث " ، ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك أن قوله هنا " ولا شيء " نظير قوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ( سورة الإسراء : الآية 44 ) وتعقبه بأن الآية مختلف فيها ، وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال ونقل الاختلاف إلا [ ص: 272 ] أن يقول : إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث ( إلا شهد له يوم القيامة ) قال الزين بن المنير السرفي : هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب ، والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على أحكام نعت الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة .

                                                                                                          وقال التوربشتي : المراد من هذه الشهادة إشهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة ، وكما أن الله يفضح بالشهادة قوما فكذلك يكرم بالشهادة آخرين .

                                                                                                          وقال الباجي : فائدة ذلك أن من يشهد له يوم القيامة يكون أعظم أجرا في الآخرة ممن أذن فلم يسمعه من يشهد له .

                                                                                                          ( قال أبو سعيد سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي هذا الكلام الأخير وهو أنه لا يسمع . . . إلخ .

                                                                                                          فقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة بلفظ : قال أبو سعيد : إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا يسمع " فذكره .

                                                                                                          ورواه يحيى بن سعيد القطان عن مالك بلفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع فذكره ، فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف خلافا لإيراد الرافعي الحديث في الشرح بلفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي سعيد : " إنك رجل تحب الغنم . . . " ، وساقه إلى آخره ، وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمام الحرمين والقاضي حسين وغيرهم وتعقبهم النووي ، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قوله سمعته من رسول الله عائد إلى كل ما ذكر ولا يخفى بعده ، ذكره الحافظ بل تمنعه روايتا ابن عيينة والقطان ، وقد خالف الرافعي نفسه فقال في شرح المسند : قوله سمعته يعني قوله أنه لا يسمع إلخ . انتهى وهو الصواب .

                                                                                                          وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به ، وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح ، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن غلبة الجفا .

                                                                                                          قال ابن عبد البر فيه إباحة لزوم البادية ، ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل ، إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة وهي خير من خليط السوء ، والجليس الصالح خير من الوحدة .

                                                                                                          وقال - صلى الله عليه وسلم - : " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفر بدينه من الفتن " وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف ، وفي بدء الخلق عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ولم يخرجه مسلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية