الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5397 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : كنت رديفا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ، على حمار ، فلما جاوزنا بيوت المدينة ، قال : " كيف بك يا أبا ذر ! إذا كان بالمدينة جوع تقوم عن فراشك ولا تبلغ مسجدك حتى يجهدك الجوع ؟ " قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : " تعفف يا أبا ذر ! " ، قال : " كيف بك يا أبا ذر ! إذا كان بالمدينة موت يبلغ البيت العبد حتى إنه يباع القبر بالعبد ؟ " قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : " تصبر يا أبا ذر ! " ، قال : " كيف بك يا أبا ذر ! إذا كان بالمدينة قتل تغمر الدماء أحجار الزيت ؟ " ، قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : " تأتي من أنت منه " ، قال : قلت : وألبس السلاح ؟ قال : " شاركت القوم إذا " قلت : فكيف أصنع يا رسول الله ؟ قال : " إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ناحية ثوبك على وجهك ليبوء بإثمك وإثمه " . رواه أبو داود .

التالي السابق


5397 - ( وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : كنت رديفا ) أي : راكبا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الطيبي - رحمه الله : ظرف وقع صفة مؤكدة لرديفا ، ( يوما على حمار ) فيه دلالة على كمال تواضعه - صلى الله عليه وسلم - وحسن معاشرته مع أصحابه ، وكمال قرب أبي ذر له حينئذ ، ولذا ذكره مع الإيماء إلى كمال حفظه القضية واستحضاره إياها ، ( فلما جاوزنا بيوت المدينة ، قال : " كيف بك " ) ، قال الطيبي - رحمه الله : مبتدأ وخبر ، والباء زائدة في المبتدأ ، أي : كيف أنت أي حالك ( يا أبا ذر ! إذا كان ) أي : وقع ( " بالمدينة جوع " ) أي : [ ص: 3393 ] خاص لك أو قحط عام ( " تقوم عن فراشك ولا تبلغ مسجدك " ) أي : الذي قصدته أن تصلي فيه ( " حتى يجهدك الجوع " ) : بضم الياء وكسر الهاء ، وفي نسخة بفتحهما أي يوصل إليه المشقة ويعجزك عن المشي من البيت إلى المسجد ( قال : قلت : الله ورسوله أعلم ) أي : بحالي وحال غيري في تلك الحال وسائر الأحوال ، ( قال : " تعفف " ) بصيغة الأمر أي : التزم العفة ( " يا أبا ذر ) : وهي الصلاح والورع والتصبر على أذى الجوع والتقوى ، والكف عن الحرام والشبهة ، وعن السؤال من المخلوق والطمع فيه والمذلة عنده ، ( قال : " كيف بك يا أبا ذر ! " ) ، في ندائه مكررا تنبيه له على أخذ الحديث مقررا ( " إذا كان بالمدينة موت " ) أي : بسبب القحط أو وباء من عفونة هواء أو غيرها ( " يبلغ البيت " ) أي : يصل موضع قبر الميت ( " العبد " ) أي : قيمته أو نفسه ( " حتى إنه " ) : بكسر الهمزة ويفتح أي الشأن ( " يباع القبر بالعبد " ) : هذا توضيح لما قبله من إيهام البيت ، ففي النهاية المراد بالبيت هاهنا القبر ، وأراد أن موضع القبور يضيق ; فيبتاعون كل قبر بعبد . قال التوربشتي - رحمه الله : وفيه نظر ; لأن الموت وإن استمر بالأحياء وفشا فيهم كل الفشو لم ينته بهم إلى ذلك ، وقد وسع الله عليهم الأمكنة ، اهـ كلامه .

وأجيب : بأن المراد بموضع القبور الجبانة المعهودة ، وقد جرت العادة بأنهم لا يتجاوزون عنها . وفي شرح السنة : قيل : معناه أن الناس يشتغلون عن دفن الموتى بما هم فيه ; حتى لا يوجد من يحفر قبر الميت فيدفنه إلا أن يعطى عبدا أو قيمة عبد . وقيل : معناه أنه لا يبقى في كل بيت كان فيه كثير من الناس إلا عبد يقوم بمصالح ضعفة أهل ذلك البيت . قال المظهر : يعني يكون البيت رخيصا فيباع بيت بعبد . قال الطيبي - رحمه الله : على الوجهين الأخيرين لا يحسن موقع حتى ، حسنها على الوجهين الأولين . قلت : بل لا يصح حينئذ وقوع حتى ، ولعلها غير موجودة في المصابيح . قال الخطابي : قد يحتج بهذا الحديث من يذهب إلى وجوب قطع النباش ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى القبر بيتا ; فدل على أنه حرز كالبيوت . قلت لا سيما وقد ثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - قطع النباش ، لكن حمله أصحابنا على أنه للسياسة ، والله سبحانه وتعالى أعلم . ( قال : قلت : الله ورسوله أعلم ) كما تقدم ، ( قال : " تصبر يا أبا ذر " ) : بتشديد الموحدة المفتوحة أمر من باب التفعل ، وفي نسخة : تصبر مضارع صبر على أنه خبر بمعنى الأمر ، أي : اصبر بالبلاء ، ولا تجزع في الضراء ، ولا تنس بقية النعماء والسراء ، وارض بما يجري من القضاء تصب الأجر من خالق الأرض والسماء . ( قال : " كيف بك يا أبا ذر ! إذا كان بالمدينة قتل " ) أي : سريع عظيم ( " تغمر " ) : بسكون الغين المعجمة وضم الميم ، أي تستر وتعلو ( " الدماء " ) أي : كثرة دماء القتلى ( أحجار الزيت ) ؟ قيل : هي محلة بالمدينة ، وقيل : موضع بها .

قال التوربشتي - رحمه الله : هي من الحرة التي كانت بها الوقعة زمن يزيد ، والأمير على تلك الجيوش العاتية مسلم بن عقبة المري المستبيح بحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان نزوله بعسكره في الحرة الغربية من المدينة ، فاستباح حرمتها وقتل رجالها وعاث فيها ثلاثة أيام ، وقيل خمسة ، فلا جرم أنه انماع كما ينماع الملح في الماء ، ولم يلبث أن أدركه الموت وهو بين الحرمين ، وخسر هنالك المبطلون . ( قال : " قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " تأتي من أنت منه " ) : خبر معناه أمر أي ائت من يوافقك في دينك وسيرتك . وقال القاضي : أي ارجع إلى من أنت جئت منه وخرجت من عنده يعني أهلك وعشيرتك . قال الطيبي - رحمه الله : لا يطابق على هذا سؤاله ( قال : قلت : وألبس السلاح ) ؟ . والظاهر أن يقال ارجع إلى إمامك ومن بايعته ; فحينئذ يتوجه أن يقول : وألبس السلاح وأقاتل معه . ( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( " شاركت القوم " ) أي : في الإثم ( " إذا " ) أي : إذا لبست السلاح ، المعنى : لا تلبس السلاح وكن مع الإمام وأرباب الصلاح ، ولا تقاتل حتى يحصل لك الفلاح . هذا حاصل كلام الطيبي رحمه [ ص: 3394 ] الله ، لكن فيه أن إمامه إذا قاتل كيف يجوز له أن يمتنع من المقاتلة معه ؟ وقال ابن الملك - رحمه الله : قوله : ( شاركت ) لتأكيد الزجر عن إراقة الدماء ، وإلا فالدفع واجب ، اهـ . وذكره الطيبي - رحمه الله - وقرره ، والصواب أن الدفع جائز إذا كان الخصم مسلما إن لم يترتب عليه فساد ، بخلاف ما إذا كان العدو كافرا فإنه يجب الدفع مهما أمكن . ( قلت : فكيف أصنع يا رسول الله ؟ قال : " إن خشيت أن يبهرك " ) بفتح الهاء أي : يغلبك ( " شعاع السيف " ) بفتح أوله أي : بريقه ولمعانه ، وهو كناية عن إعمال السيف ( " فألق " ) أمر من الإلقاء أي : اطرح ( " ناحية ثوبك " ) أي : طرفه ( " على وجهك " ) أي : لئلا ترى ولا تفزع ولا تجزع ، والمعنى : لا تحاربهم وإن حاربوك ، بل استسلم نفسك للقتل ; لأن أولئك من أهل الإسلام ، ويجوز معهم عدم المحاربة والاستسلام ، كما أشار إليه بقوله : ( " ليبوء " ) أي : ليرجع القاتل ( " بإثمك " ) أي : بإثم قتلك ( " وإثمه " ) أي : وبسائر إثمه . ( رواه أبو داود ) ، وكذا ابن ماجه ، والحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، نقله ميرك عن التصحيح .




الخدمات العلمية