الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5430 - وعن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " دعوا الحبشة ما ودعوكم ، واتركوا الترك ما تركوكم " . رواه أبو داود ، والنسائي .

التالي السابق


5430 - ( وعن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم : " دعوا الحبشة " ) أي : اتركوهم ( " ما ودعوكم " ) : بتخفيف الدال أي : ما تركوكم . قال التوربشتي : قلما يستعملون الماضي منه ، إلا ما روي في بعض الأشعار كقول القائل :

غاله في الحب حتى ودعه

ويحتمل أن يكون الحديث ما وادعوكم أي : ما سالموكم ، فسقط الألف من قلم بعض الرواة . قال الطيبي - رحمه الله : لا افتقار إلى هذا الطعن مع وروده في التنزيل الكشاف في قوله تعالى : ما ودعك ربك وقرئ بالتخفيف يعني ما تركك ، قال : وثم ودعنا إلى عمر وعامر ، ولأن لفظ الازدواج ورد العجز على الصدر يجوز لذلك ، وقد جاء في كلامهم : إني لآتيه بالغدايا والعشايا ، وقوله : " ارجعن مأزورات غير مأجورات " . قال المظهر : كلام النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - متبوع لا تابع ، بل فصحاء العرب عن آخرهم بالإضافة إليه بأقل ، وأيضا فلغات العرب مختلفة منهم من انقرضت لغته فأتى - صلى الله تعالى عليه وسلم - بها . قال شمر : زعمت النحوية أن العرب أماتوا مصدره وماضيه ، والنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أفصح . أقول : فأحياهما باستعمال الماضي في هذا الحديث ، وبالمصدر في الحديث الذي رواه أحمد ومسلم وغيرهما ، عن ابن عباس وابن عمر مرفوعا : " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات ، أو ليختمن الله على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين " ، هذا وهو من باب الشاذ الموافق للقياس المخالف للاستعمال كالمسجد ونظائره . ( " واتركوا الترك ما تركوكم " ) ، قال الخطابي : علم أن الجمع بين قوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة وبين هذا الحديث أن الآية مطلقة ، والحديث مقيد ، فيحمل المطلق على المقيد ، ويجعل الحديث مخصصا لعموم الآية ، كما خص ذلك في حق المجوس ، فإنهم كفرة ، ومع ذلك أخذ منهم الجزية ; لقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " .

[ ص: 3421 ] قال الطيبي - رحمه الله : ويحتمل أن تكون الآية ناسخة للحديث ; لضعف الإسلام ، وأما تخصيص الحبشة والترك بالترك والودع ; فلأن بلاد الحبشة وغيره بين المسلمين وبينهم مهامه وقفار ، فلم يكلف المسلمين دخول ديارهم ; لكثرة التعب وعظمة المشقة ، وأما الترك فبأسهم شديد وبلادهم باردة ، والعرب وهم جند الإسلام كانوا من البلاد الحارة ، فلم يكلفهم دخول البلاد ، فلهذين السرين خصصهم ، وأما إذا دخلوا بلاد المسلمين قهرا - والعياذ بالله - فلا يجوز لأحد ترك القتال ; لأن الجهاد في هذه الحالة فرض عين ، وفي الحالة الأولى فرض كفاية . قلت : وقد أشار - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلى هذا المعنى ; حيث قال : " ما تركوكم " ، وحاصل الكلام أن الأمر في الحديث للرخصة والإباحة لا للوجوب ابتداء أيضا ، فإن المسلمين قد حاربوا الترك والحبشة بادين ، وإلى الآن لا يخلو زمان عن ذلك ، وقد أعز الله الإسلام وأهله فيما هنالك . ( رواه أبو داود ، والنسائي ) ، وروى الطبراني ، عن ابن مسعود مرفوعا ، ولفظه : " اتركوا الترك ما تركوكم ; فإن أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء " ، ففي النهاية هي جارية إبراهيم الخليل ، ولدت له أولادا منهم الترك والصين اهـ . وسيأتي زيادة تحقيق لهذا في حديث أبي بكرة .




الخدمات العلمية