الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5959 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : إن من نعم الله علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري ، وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته ، دخل علي عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيته ينظر إليه ، وعرفت أنه يحب السواك ، فقلت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم فتناولته ، فاشتد عليه ، وقلت : ألينه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم ، فلينته ، فأمره وبين يديه ركوة فيها ماء ، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ، ويقول : ( لا إله إلا الله ، إن للموت سكرات ) ، ثم نصب يديه ، فجعل يقول : ( في الرفيق الأعلى ) . حتى قبض ومالت يده . رواه البخاري .

التالي السابق


5959 - ( وعن عائشة قالت : إن من نعم الله علي ) ، أي : خاصة ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتي ) ، أي : لا في غيبتي ( وفي يومي ) ، أي : نوبتي لأكون متشرفة بخدمته . وفي جامع الأصول : كان ابتداء مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - من صداع عرض له ، وهو في بيت عائشة ، ثم اشتد به ، وهو في بيت ميمونة ، ثم استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة ، فأذن له ، وكان مدة مرضه اثني عشر يوما ، ومات يوم الاثنين ضحى من ربيع الأول ، فقيل : لليلتين خلتا منه ، وقيل : لاثنتى عشرة خلت منه وهو الأكثر ، ( وبين سحري ونحري ) : بفتح فسكون فيهما ، وهو يدل على كمال قولي وقربتي ، والمعنى أنه توفي وهو مستند إلى صدرها ، وما يحاذي سحرها منه ، إذ السحر الرئة على ما في النهاية ، وقيل : السحر ما لصق بالحلقوم من أعلى البطن . وقال ابن الملك : النحر موضع القلادة من أعلى الصدر ، وقال ابن حجر : السحر هو الصدر ، وهو في الأصل الرئة ، والمراد بالنحر موضعه اه . وجاء في رواية : بين حاقني وذاقني أي : كان رأسه بين حنكها وصدرها ، ولا يعارضه ما للحاكم وابن سعد من طرق أن رأسه الكريم كان في حجر علي - كرم الله وجهه - ; لأن كل طريق منها لا يخلو عن شيء كذا قاله الحافظ ابن حجر ، وعلى تقدير صحتها يجمع بأنه كان في حجره قبل الوفاة . ( وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته ) . قالوا : الصواب بفتح أن عطفا على أن رسول الله . كذا ذكره الجزري ، وسبب ذلك أنه حينئذ يدخل تحت نعم الله بخلافه إذا كسر ، فإنه يكون عطفا على أن من نعم الله ، فيكون مجرد إخبار ، وأقول : لو صحت الرواية بالكسر لكان الوجه أن يقال الواو للحال ، ثم الريق بالكسر ماء الفم ، ولما كان الجمع بينهما يحتاج إلى بيان سبب قالت بطريق الاستئناف ( دخل علي ) ، أي : عندي ( عبد الرحمن بن أبي بكر ) : والمراد به أخوها ( وبيده ) ، أي : بيد عبد الرحمن ( سواك ) ، أي : غير مستعمل لما سيأتي ( وأنا مسندة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، بالإضافة ، وفي نسخة بتنوين مسندة ، ونصب الرسول وهو بضم الميم وكسر النون يقال : سند إليه استند وأسندته أنا كذا في القاموس ( فرأيته ) ، أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ينظر إليه ) ، أي : إلى السواك أو إلى صاحبه ( وعرفت ) ، أي : والحال أني قد عرفت في الماضي من طبعه ( أنه يحب السواك ) ، أي : مطلقا أو عند تغير الفم خصوصا ( فقلت : آخذه لك ) ، أي : منه ( فأشار برأسه أن نعم ) ، أي : نعم [ ص: 3846 ] فأن مفسرة ( فتناولته ) ، أي : أخذته منه وناولته إليه فاستعمله ( فاشتد ) ، أي : السواك ( عليه ) ، أي : لأنه شديد ( وقلت ) : وفي نسخة فقلت : ( ألينه لك ) ؟ بتشديد الياء المكسورة ( فأشار برأسه أن نعم ، فلينته ) ، أي : لينت السواك بريقي ، وأعطيته النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فأمره على أسنانه ) : بتشديد الراء ماض من الإمرار ، والمعنى فاجتمع الريقان في حلقي ، وكذا في حلقه عند موته ، وفيه إيماء إلى رضاه عنها حتى عند انقطاع حياته ( وبين يديه ركوة ) ، أي : ظرف ( فيها ماء ، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ) ، وإيرادها بلفظ التثنية إشعار بنهاية حرارته ، وإيماء إلى إظهار عجزه وعبوديته . قيل : وسببه أنه كان يغمى عليه من شدة الوجع ، ثم يفيق ويؤخذ منه أنه ينبغي فعل ذلك لكل مريض ، فإن لم يفعله فعل به ; لأن فيه نوع تخفيف الكرب كالتجريع ، بل يجب التجريع إذا اشتدت حاجة المريض إليه .

( ويقول : ( لا إله إلا الله ) ، أي : الواحد القهار الذي قهر العباد بالموت ، وهو الحي الذي لا يموت ( إن للموت سكرات ) : بفتحات جمع سكرة أي : شدائد ومشقات عظيمات من حرارات ومررات طبيعيات ، حتى للأنبياء ، وأرباب الكمالات ، فاستعدوا لتلك الحالات ، واطلبوا من الله تهوينه للأموات . وفي شمائل الترمذي عنها قالت : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالموت أي : مشعول أو متلبس ، وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده في القدح ، ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول : ( اللهم أعني على منكرات الموت ) أو قال : ( على سكرات الموت ) . والمراد بمنكرات الموت شدائده ومكروهاته ، وما يحصل للعقل من التغطية المشابهة للسكر ، فهو بمعنى سكرات الموت ، والشك إنما هو في اللفظ ، ثم في تلك السكرات زيادة رفع الدرجات . ( ثم نصب يده ) ، أي : رفعها بطريق الدعاء أو على وجه الإيماء إلى جهة السماء ( فجعل يقول ) ، أي : مكررا ( في الرفيق الأعلى ) . متعلق بمحذوف أي اجعلني في الرفيق الأعلى ، وهم هنا الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين اسم جاء على فعيل يقع على الواحد والجماعة كالصديق والخليط ، والمراد هنا الجمع كقوله تعالى : وحسن أولئك رفيقا والرفيق المرافق في الطريق ، وقيل : التقدير اجعلني في مكان رفيق الأعلى ، وأراد بالمكان المقام المحمود المخصوص به ، فالمعنى اجعلني ساكنا فيه قائما به . وقال الجوهري : الرفيق الأعلى الجنة ذكره ابن حجر ، وهو لا يخلو عن غلو وقيل : الرفيق الأعلى من أسمائه تعالى من الرفق والرأفة فعيل بمعنى فاعل ; لأنه سبحانه رفيق بعباده ، واختار لفظة ( في ) للدلالة على زيادة القرب المشعر بالاستغراق في حضرة الرب والفناء في مقام بقاء الحب مع ما فيه من الإشارة إلى التوحيد المفيد لتأكيد التأبيد ، وقد غفل الأزهري عن هذا المعنى الأظهر ، والمعنى الأنور ، وغلط قائل ذلك على ما نقله ابن حجر فتأمله وتدبر . ثم رأيت التوربشتي قال : قد ذهب بعضهم في الرفيق الأعلى أنه اسم من أسماء الله ، تعالى . قال الأزهري : غلط قائل هذا ، وقوله : إن الله رفيق لم يوجب إطلاق هذا الاسم عليه ، كما لم يوجب أن الله حيي ستير إطلاق ذلك عليه ، وإنما أراد به إيضاح معنى لم يكن يقع في الأفهام إلا من هذا الطريق . قال الفاضل الطيبي : لم لا يجوز أن يستدل بهذا الحديث على إطلاق هذا الاسم عليه ، وما المانع ؟ وليس هذا نحو قوله : إن الله حيي لأن ذلك إخبار . وقول صاحب النهاية : إنه اختار ما عند الله - تعالى - تصريح بأن المراد منه القرب والزلفى عند الله ، تعالى ، فلو أريد به الملائكة والنبيون لقيل من عند الله ، ويؤيده حديث أبي سعيد أن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء ، وبين ما عنده ، فاختار ما عنده . وحديث جعفر في آخر الفصل الثالث من هذا الباب : يا محمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك . الحديث . ولأن حصول هذه البغية مستلزم لحصول تلك المنزلة ، كما قال تعالى : ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك وفي إدخال في على الريق إيذان بغاية القرب ، وشدة تمكنه فيه ، وحلول رضوانه عليه ، وإليه الإشارة بقوله : راضية مرضية قلت : ويؤيده رواية عائشة الآتية : اللهم الرفيق الأعلى ، ثم المعنى كان هذا حاله ومقاله ( حتى قبض ومالت يده ) . أي : عن يمينه أو شماله ، أو عن الطريقين إيماء إلى الإغماض عن الكونين ، والميل إلى المكون الذي لقاؤه قرة العينين ، ولذا كان سيد الثقلين . ( رواه البخاري ) .

[ ص: 3847 ]



الخدمات العلمية