الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
163 - وعن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرم الله ; ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ، ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ، ومن نزل بقوم ، فعليهم أن يقروه ، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه ) .

رواه أبو داود ، وروى الدارمي نحوه ، وكذا ابن ماجه إلى قوله : ( كما حرم الله ) .

التالي السابق


163 - ( وعن المقدام ) : آخره ميم كأوله ، وهو أبو كريمة على الأشهر وهو كندي يعد في أهل الشام وحديثه فيهم ، روى عنه خلق كثير ، مات بالشام سنة سبع وثمانين ، وله إحدى وتسعون سنة ، ذكره المؤلف في الصحابة ( ابن معد يكرب ) : بفتح الكاف وكسر الراء وأما الباء فيجوز كسرها مع التنوين على الإضافة ، ويجوز فتحه على البناء كذا في تهذيب الأسماء ، والثاني هو الصحيح من النسخ ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ألا ) : حرف تنبيه ، أي : أنبهكم فتنبهوا ( إني أوتيت ) ، أي : أتاني الله ( القرآن ومثله ) ، أي : أعطيت القرآن ومثل القرآن - حال كونه منضما - ( معه ) : وهو يحتمل تأويلين : أحدهما : أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أعطي من الظاهر ، والثاني : أنه أوتي الكتاب وحيا وأوتي من التأويل مثله ، أي : أذن له أن يبين في الكتاب فيعمم ويخصص ويزيد وينقص ، فيكون ذلك في وجوب العمل ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن يعني : أوتيت القرآن وأحكاما ومواعظ وأمثالا تماثل القرآن في كونها واجبة القبول أو في المقدار ( ألا ) : في تكرير كلمة التنبيه توبيخ وتقريع نشأ من غضب عظيم على من ترك السنة والعمل بالحديث استغناء بالكتاب ، فكيف بمن رجح الرأي على الحديث . كذا ذكره الطيبي ، ولذا رجح الإمام الأعظم الحديث ولو ضعيفا على الرأي ولو قويا ( يوشك ) : بكسر الشين والفتح لغة رديئة ، أي : يقرب ( رجل شبعان ) : بالضم من غير تنوين .

قال القاضي : إنما وصفه بالشبع لأن الحامل له على هذا القول إما البلادة وسوء الفهم ، ومن أسبابه الشبع وكثرة الأكل ، وإما الحماقة والبطر ومن موجباته التنعم والغرور بالمال والجاه والشبع يكنى به عن ذلك ( على أريكته ) ، أي : متكئا أو جالسا عليها ، وفيه تأكيد لحماقة القائل وبطره وسوء أدبه .

[ ص: 247 ] قال الأبهري : المتكئ القاعد المتقوي على وطاء متمكنا ، والعامة لا تعرف المتكئ إلا من مال في قعوده معتمدا على أحد شقيه اهـ .

ولا شك أن الاتكاء عام في اللغة شامل لكلام الخاصة والعامة والمقام يخصه ، ولذا قال صاحب القاموس : فقوله عليه الصلاة والسلام : " أما أنا فلا آكل متكئا أي جالسا جلوس المتمكن المتربع ونحوه من الهيئات المستدعية لكثرة الأكل ، بل كان جلوسه للأكل مستوفزا مقعيا غير متربع ولا متمكن ، وليس المراد الميل على شق كما يظنه عوام الطلبة اهـ .

ولا يخفى أن مقامنا يقتضي الميل إلى أحد الشقين الناشئ عن التكبر ، وفيه إيماء إلى أن من كثر أكله لا يقدر على استمساك نفسه ، ويمكن أن يكون قوله " شبعان " كناية عن غروره بكثرة علمه وادعائه أن لا مزيد على فضله ، وفيه إشارة إلى أن السالك ينبغي أن يكون دائما حريصا في طلب العلم كالجيعان " في طلب الرزق . قال الله تعالى : وقل رب زدني علما وقال عليه الصلاة والسلام : منهومان لا يشبعان : طالب العلم وطالب الدنيا : وفيه دلالة على المباينة بينهما . ( يقول ) ، أي : لأصحابه وهو خبر يوشك ( عليكم بهذا القرآن ) ، أي : الزموه واعملوا به ولا تلتفتوا إلى غيره ( فما وجدتم فيه ) ، أي : في القرآن ( من حلال ) : بيان لما ( فأحلوه ) : أي اعتقدوه حلالا أو احكموا بأنه حلال واستعملوه ( وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ) ، أي : اجتنبوه أو انسبوه إلى الحرام اعتقادا وحكما . قال الخطابي : ذكره ردا على ما ذهب إليه الخوارج وأصحاب الظواهر فإنهم تعلقوا بظواهر القرآن وتركوا السنة التي تضمنت بيان القرآن فتحيروا وضلوا ( وإن ) : هذا ابتداء الكلام من النبي - صلى الله عليه وسلم - والواو للحال وفيه التفات ، ويحتمل أن يكون من كلام الراوي وهو بعيد ( ما حرم ) .

قال الأبهري : ما موصولة معنى مفصولة لفظا أي الذي حرمه ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، أي : في ( غير ) القرآن ( كما حرم الله ) ، أي : في القرآن وفي الاقتصار على التحريم من غير ذكر التحليل إشارة إلى أن الأصل في الأشياء إباحتها .

وقال ابن حجر ، أي : ما حرم وأحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرم وأحل الله ، وسيأتي الكلام عليه ( ألا لا يحل لكم الحمار ) : شروع في بيان ما ثبت بالسنة ، وليس له أثر في الكتاب على سبيل التمثيل لا التحديد كذا قاله الطيبي . وقوله : ليس له أثر أي أثر ظاهر وإلا ففي آية والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة الأثر وجود ولكنه خفي دقيق أدركه أبو حنيفة وكره لحم الخيل أيضا ، والله أعلم . ( الأهلي ) : التخصيص بالصفة لنفي عموم الحكم لأن البري حلال ( ولا كل ذي ناب من السباع ) ، أي : سباع الوحوش [ ص: 248 ] كالأسد والذئب أو ذي مخلب من الطيور كما في حديث آخر لأنها من الخبائث ، وقد قال تعالى : ويحرم عليهم الخبائث ( ولا لقطة ) : بضم اللام وفتح القاف ما يلتقط مما ضاع من شخص بسقوط أو غفلة ( معاهد ) ، أي : كافر بينه وبين المسلمين عهد بأمان في تجارة أو رسالة كذا قاله ابن الملك وفي معناه : الذمي ( إلا أن يستغني عنها صاحبها ) ، أي : يتركها لمن أخذها استغناء عنها بأن كانت شيئا حقيرا يعلم أن صاحبه لا يطلبه كالنواة وقشر الرمان ونحوهما ، فيجوز الانتفاع به ، وهذا تخصيص بالإضافة ويثبت الحكم في لقطة المسلم بطريق الأولى كذا قاله ابن الملك ، ويمكن أن يكون وجه التخصيص الاهتمام بشأن المعاهد لعهده لأن النفس ربما تتساهل في لقطته لكونه كافرا ولأنه بعيد عن المسامحة بخلاف المسلم والله أعلم .

قال ابن حجر : وهذه يمكن أخذها من عموم قوله تعالى : لها ما كسبت إذ الالتقاط اكتساب فاللقطة من الكسب ، ومن ثم صرح النووي في شرح مسلم بأن من تملك لقطة بشروطها لا يحاسب عليها لأنها من كسبه بخلاف الديون اهـ .

والظاهر أنها مأخوذة من قوله تعالى : أنفقوا من طيبات ما كسبتم فإن قوله تعالى : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت إنما هي في الأعمال من الطاعة والمعصية على ما عليه المفسرون من أن اللام للمنفعة وعلى للمضرة مع عدم ملاءمته لقوله : إذ الالتقاط اكتساب واللقطة من الكسب ( ومن نزل بقوم ) : أخرجه من سياق المنهيات حيث لم يقل : ولا يحل للمضيف أن لا يكرم ضيفه وأبرزه في معرض الشرط والجزاء دلالة على أنه ليس بمحرم ، ولكن خارج من سمت أهل المروءة وهدي أهل الإيمان ، ويستأهل صاحبه أن يخذل ويستهجن فعله ، ويجازى بكل قبيح ، والمعنى : من استضاف قوما ( فعليهم ) : أي على القوم ( أن يقروه ) : بفتح الياء وضم الراء أي يضيفوه من قريت الضيف قرى بالكسر والقصر وقراء بالفتح والمد إذا أحسنت إليه .

قال الأشرف ، أي : سنة واستحبابا لأن قرى الضيف غير واجب قطعا لحديث الأعرابي هل علي غيرهن ؟ قال : لا إلا أن تطوع " اهـ .

وقيل : واجب لأن كلمة على للوجوب وهو مذهب أحمد . وأجاب عنه الأكثرون القائلون بندب الإضافة لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس " ولقوله عز وجل لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم بأن هذا الحديث محمول على المضطر فإنه يجب إطعامه إجماعا ، وقيل هذا كان في بدء الإسلام فإنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث الجيوش إلى الغزو ، وكانوا يمرون في طريقهم بأحياء العرب ليس هناك سوق يشترون منه الطعام ولا معهم زاد ، فأوجب عليهم ضيافتهم لئلا ينقطعوا عن الغزو ، فلما قوي الإسلام وغلبت الشفقة والرحمة على الناس نسخ الوجوب وبقي الجواز والاستحباب ( فإن لم يقروه فله ) ، أي : للنازل ( أن يعقبهم ) : من الإعقاب بأن يتبعهم ويجازيهم من صنيعه يقال : أعقبه بطاعته إذا جازاه ، وروي بالتشديد ، وفي نسخة بفتح الياء وضم القاف ( بمثل قراه ) : بالكسر والقصر لا غير . قال في نهاية الجزري ، أي : فله أن يأخذ منهم عوضا عما حرموه من القرى ، يقال : عقبهم مشددا ومخففا ، وأعقبهم إذا أخذ منهم عقبى وعقبة ، وهو أن يأخذ منهم بدلا عما فاته ، وهذا في المضطر أو منسوخ ، ويؤيده حديث العرباض الآتي : وإن الله لم يحل لكم . . . . إلى قوله : إذا أعطوكم الذي عليهم ، وقيل : للضيف أن يأخذ من الذين [ ص: 249 ] نزل بهم من أهل الذمة من سكان البادية إذا وضع عليهم الإمام ضيافة المسلم المار بهم بقدر ضيافته بأي وجه يقدر قهرا أو خفية ، ويحتمل أن الأمر بأخذ مقدار القرى من مال المنزول به كان من جملة العقوبات التي نسخت بوجوب الزكاة ، ويرد بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال .

وقال ابن حجر فإن قلت : إنما ذكر - صلى الله عليه وسلم - ما حرمه فأين ما أحله ؟ قلت : قد ذكره أيضا بالنص حيث قال : إلا أن يستغني عنها صاحبها . وقال : فله أن يعقبهم . . . . إلخ . وعجيب من الطيبي حيث استشكل ذلك ، ثم أجاب عنه بما لا يدفعه مع ما فيه من النظر ، وهو أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما خصه الدليل لقوله تعالى : خلق لكم ما في الأرض جميعا فخصت منها أشياء بنص التنزيل وبقى ما عداها في معرض التحليل ، وخص منها بنص الحديث بعض فبقي سائرها على أصل الإباحة ، فكأنه عليه الصلاة والسلام نص على تحليلها فلا يزيد ولا ينقص اهـ .

وكلام الطيبي كالمسك لأن الاستثناء لا يدل على التحليل الابتدائي نصا ، بل فيه إشارة إلى علة التحريم في المستثنى منه ، وهو احتياج الناس إلى ما في أيديهم ، وأما قوله : فله أن يعقبهم تقريع على مخالفتهم في قبول الأمر الواجب ومجازاة لهم ، بل في الحقيقة إجازة لأن يأخذ حقه بيد القوة منهم ، فأين هذا من التحليل الذي هو جعل الشيء الحرام حلالا مع أن الجمهور على أن هذا مختص بالمضطر ، فيكون من باب الإباحة المعلوم من قوله تعالى : إلا ما اضطررتم إليه فكيف يقال : إنه تحليل مختص بالحديث مع نصه في الكتاب القديم ( رواه أبو داود ) ، والترمذي بهذا اللفظ ( وروى الدارمي نحوه ) ، بالمعنى ( وكذا ) : روى نحوه ( ابن ماجه ) ، لكن إلى قوله : ( كما حرم الله ) .




الخدمات العلمية