الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
17 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من القوم ؟ أو : من الوفد ؟ " قالوا : ربيعة . قال : " مرحبا بالقوم - أو : بالوفد - غير خزايا ولا ندامى . قالوا : يا رسول الله ، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام ، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر ، فمرنا بأمر فصل نخبره من وراءنا وندخل به الجنة ، وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع ؛ أمرهم بالإيمان بالله وحده ، قال : ( أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم . قال ( شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، وأن تعطوا من المغنم الخمس ) . ونهاهم عن أربع : عن الحنتم ، والدباء ، والنقير ، والمزفت ، وقال : ( احفظوهن ، وأخبروا بهن من وراءكم ) . متفق عليه ، ولفظه للبخاري .

التالي السابق


17 - ( وعن ابن عباس ) : هو عبد الله بن عباس ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمه لبابة بنت الحارث أخت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وقيل : خمس عشرة سنة ، وقيل : عشر . كان حبر هذه الأمة وعالمها ، ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة ، والفقه ، والتأويل ، ورأى جبريل - عليه السلام - مرتين ، وكان عمر بن الخطاب يقربه ويشاوره بين أجلة الصحابة ، وكف بصره في آخر عمره ، ومات بالطائف سنة ثمان وستين [ ص: 88 ] في أيام ابن الزبير وهو ابن إحدى وسبعين سنة . وروى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين . ( قال : إن وفد عبد القيس ) الوفد : جمع وافد ، وهو الذي أتى إلى الأمير برسالة من قوم ، وقيل : رهط كرام . وعبد القيس أبو قبيلة عظيمة تنتهي إلى ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ، وربيعة قبيلة عظيمة في مقابلة مضر ، وكان قبيلة عبد القيس ينزلون البحرين وحوالي القطيف ، وما بين هجر إلى الديار المضرية ، وكانت وفادتهم سنة ثمان ، وسببها أن منقذ بن حبان منهم كان يتجر إلى المدينة ، فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه فسأله عن أشراف قومه مسميا له بأسمائهم فأسلم ، وتعلم الفاتحة واقرأ باسم ربك ، ثم رحل إلى هجر ومعه كتابه - عليه الصلاة والسلام - فكتمه أياما لكن أنكرت زوجته صلاته ومقدماتها ، فذكرت ذلك لأبيها المنذر رئيسهم فتجاذبا فوقع الإسلام في قلبه ، ثم ذهب بالكتاب إلى قومه وقرأه عليهم ، فأسلموا وأجمعوا على المسير إليه - عليه الصلاة والسلام - فتوجه منهم أربعة عشر راكبا ، فحين قربوا من المدينة قال - عليه الصلاة والسلام - لجلسائه : ( أتاكم وفد عبد القيس خير أهل المشرق وفيهم الأشج ) أي المنذر ، سماه - عليه الصلاة والسلام - بذلك لأثر بوجهه . وروي أنهم أربعون ، وجمع بأن لهم وفادتين ، أو بأن أشرافهم أربعة عشر . ( لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي حضروه ( قال ) أي رسول الله كما في نسخة ( - صلى الله عليه وسلم - : من القوم ؟ ) بفتح الميم ( أو : من الوفد ) ؟ شك من الراوي ، والظاهر أنه ابن عباس ، والسؤال إنما هو للاستئناس ( قالوا : ربيعة ) أي قال بعض الوفد : نحن ربيعة ، أو وفد ربيعة ، أو قال بعض الصحابة : هم ربيعة ، أو وفد ربيعة على حذف مضاف ، وفي نسخة بالنصب أي تسمى ربيعة ، أو يسمون ربيعة ( قال : مرحبا بالقوم ) أو ( بالوفد ) أي أصاب الوفد رحبا وسعة ، أو أتى القوم موضعا واسعا ، فالباء زائدة في الفاعل ، ومرحبا مفعول به لمقدر ، أو أتى الله بالقوم مرحبا ، فالباء للتعدية ، ومرحبا مفعول مطلق ، وقيل : هو من المفاعيل المنصوبة بمضمر وجوبا لكثرة دورانه على الألسنة ، ويقال هذا للتأنيس وإزالة الحزن والاستحياء عن نفس من أتاهم من وافد ، أو باغي خير ، أو قاصد حاجة ، وتقدير ابن حجر : صادفتم ، أو أصبتم غير ظاهر مع وجود القوم . ( غير خزايا ) بفتح الخاء جمع خزيان ، من الخزي وهو الذل والإهانة ، ونصبه على الحال من الوفد ، والعامل فيه الفعل المقدر في مرحبا . وفي رواية للبخاري : ( بالوفد الذين جاءوا غير خزايا ) وجوز جره على أنه بدل من القوم ، وأغرب ابن حجر فقال : وروي بالكسر صفة ، ووجه غرابته أن المحققين على أن " غير " متوغلة في النكرة بحيث إنها لا تصير معرفة بالإضافة ، ولو إلى المعرفة ( ولا ندامى ) : جمع ندمان بمعنى نادم ، أو جمع نادم على غير قياس ، إذ قياسه : ( نادمين ) ازدواجا للخزايا ، والمعنى ما كانوا بالإتيان إلينا خاسرين خائبين ؛ لأنهم ما تأخروا عن الإسلام ، ولا أصابهم قتال ولا سبي فيوجب استحياء أو افتضاحا أو ذلا أو ندما ( قالوا : يا رسول الله ، إنا لا نستطيع أن نأتيك ) أي في جميع الأزمنة ( إلا في الشهر ) من الشهرة ، والظهور ( الحرام ) : والمراد به الجنس ، لأن الأشهر الحرم أربعة : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم متوالية ، ورجب فرد . قال تعالى : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ) وإنما قالوا ذلك اعتذارا عن عدم الإتيان إليه - عليه الصلاة والسلام - في غير هذا الوقت ؛ لأن الجاهلية كانوا يحاربون بعضهم بعضا ويكفون في الأشهر الحرم ؛ تعظيما لها وتسهيلا على زوار البيت الحرام من الحروب والغارات الواقعة منهم في غيرها ، فلا يأمن بعضهم بعضا في المسالك والمراحل إلا فيها ، ومن ثم كان يمكن مجيء هؤلاء إليه - عليه الصلاة والسلام - فيها دون ما عداها ؛ لأمنهم فيها من كفار مضر الحاجزين بين منازلهم وبين المدينة ، [ ص: 89 ] وكان هذا التعظيم في أول الإسلام ، ثم نسخ بقوله تعالى : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ( وبيننا وبينك هذا الحي ) : الجملة حال من فاعل " نأتيك " ، أو بيان لوجه عدم الاستطاعة ، وأصل الحي منزل القبيلة ، سميت به اتساعا لأن بعضهم يحيا ببعض ، أو يحمس بعضهم بعضا ( من كفار مضر ) : تبعيضية ، أو بيانية وهو الأظهر ، ومضر غير منصرف على الأصح ، وهو ابن نزار بن معد بن عدنان ، فهو أخو ربيعة أبي عبد القيس ( فمرنا بأمر ) : الأظهر أن الأمر بمعنى الشأن ، واحد الأمور ، والباء صلة ، والتنكير للتعظيم ، والمراد به معنى اللفظ ومورده ، وقيل : الأمر واحد الأوامر ، أي القول الطالب للفعل ، والتنكير للتقليل ، والباء للاستعانة ، والمراد به اللفظ ، والمأمور به محذوف أي مرنا نعمل بقولك : آمنوا ، أو قولوا آمنا ، وأغرب ابن حجر في قوله : ومن ثم قال الراوي : أمرهم بالإيمان اهـ . فإنه يدل على أن الأمر بمعنى الشأن ؛ لأنه لو كان كما قال لقال الراوي : قال - عليه الصلاة والسلام - لهم : آمنوا ، أو قولوا : آمنا . ( فصل ) : بمعنى فاصل بين الحق والباطل ، وهو صفة لأمر أي أمر قاطع ، أو بمعنى مفصل لتفصيله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بأركانه الخمسة ، أو مفصول أي مبين واضح به المراد من غيره ، وحكى الإضافة ( نخبر ) : بالرفع على أنه صفة ثانية لأمر أو استئناف ، وبالجزم على جواب الأمر ( به ) : بسببه كذا قيل ، والظاهر أنها للتعدية ( من وراءنا ) : بفتح الميم والهمزة ، أي من خلفنا من قومنا ، أو من بعدنا ممن يدركنا ، قال ابن حجر : وفي رواية أخرى بكسرها اهـ .

وهو غير موجود في النسخ المصححة ، ويحتاج إلى تقدير المفعول . ( وندخل ) عطفا على نخبر بصيغة الفاعل ، وفي نسخة بصيغة المفعول ( به ) أي بسبب قبول أمرك والعمل به ، أو بالإخبار به المفهوم من " نخبر " ( الجنة ) أي مع الفائزين ، وقال ابن حجر : مع الناجين اهـ . وفيه مناقشة لا تخفى ، ودخول الجنة إنما هو بفضل الله لكن العمل الصالح سببه كما أن الأكل سبب الشبع ، والمشبع هو الله تعالى بفضله ؛ إذ لا يجب على الله سبحانه ، أو المضاف مقدر أي درجاتها فإنها في مقابلة الأعمال ، ودخول الجنة بالإفضال . قال ابن حجر : وهذا على حد : ( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ) أي بعملكم ، ولا ينافيه خبر : ( لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله ) ; لأن المراد نفي كون العمل سببا مستقلا في الدخول ، بدليل قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) . وهذا أولى من الجواب بأن الباء في الآية للملابسة أي أورثتموها ملابسة لأعمالكم ، أي لثوابها ، أو للمقابلة كـ " بعته بدرهم " ، أو المراد الجنة العالية ، أو بأن درجاتها بالعمل ودخولها بالفضل . وقال النووي : الدخول بسبب العمل ، والعمل من رحمته تعالى أي فلم يقع الدخول إلا برحمة الله ، واعترض بأن المقدمة الأولى خلاف صريح الحديث ، ويدفع بأن المراد به ما تقرر من انتفاء كونه سببا مستقلا مع قطع النظر عن كونه من الرحمة ، إذ القصد به الرد على من يرى عمله متكفلا بدخولها من غير ملاحظة لكونه من جملة رحمة الله . اهـ .

والتحقيق أن المراد بالحديث انتفاء دخولها بالعمل على وجه العدل ، وإثباته على طريق الفضل فما بينهما تناف يقبل الفصل . ( وسألوه ) أي الوفد ( عن الأشربة ) - جمع شراب ، وهو يشرب - أي عن حكم ظروفها بحذف المضاف ، أو الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة ، بحذف الصفة ، والمراد : عن حكمها ( فأمرهم بأربع ) أي بأربع خصال تنبيها على أنها الأهم بالسؤال ، والأتم في تحصيل الكمال ( ونهاهم عن أربع ) أي أربع خصال ، وهي أنواع الشرب باعتبار أصناف الظروف الآتية . ( أمرهم بالإيمان بالله وحده ) : نصب على الحال أي واحدا في الذات منفردا في الصفات لا شريك له في الأفعال . وهذا الأمر توطئة ، فإن الأمر والنهي من فروع التكاليف ، وهي موقوفة على الإيمان ، فإنه شرط صحتها ، ومبدأ ثبوتها ( قال : أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ ) ذكره تنبيها لهم على تفريغ أذهانهم لضبط ما يلقى إليهم فيكون أوقع في نفوسهم ( قالوا : الله ورسوله أعلم ) تأدبا وطلبا للسماع منه - صلى الله عليه وسلم - لأن القوم كانوا مؤمنين ، فلا وجه لقول ابن حجر : هو بمعنى عالم على حد : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ثم أغرب [ ص: 90 ] في قوله : ويؤخذ منه الرد على من نازع في قول الفقهاء عقب نحو فتاويهم وأبحاثهم : والله أعلم ، وعلى من فصل فقال : يقول المجيب في العقائد : وبالله التوفيق ، وفي الفروع : والله أعلم اهـ . فإنه تناقض بين تأويله وأخذه . ( قال ) : قيل أي الإيمان بالله وحده الذي هو بمعنى الإسلام ؟ إذ كل يطلق بمعنى الآخر ، ومن ثم فسره - عليه الصلاة والسلام - في بعض الأحاديث بما فسر به الإيمان هنا . كذا قاله ابن حجر ، وهو تأويل حسن لولا قوله : بالله وحده قال : ( شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ) : برفع شهادة لا غير على أنها خبر مبتدأ محذوف هو : هو ( وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ) : بجر الثلاثة ، وهو الأظهر ، أو برفعها على ما سيأتي بيانها . قال القاضي عياض : وإنما لم يذكر الحج لأن وفادة عبد القيس كانت عام الفتح ، ونزلت فريضة الحج سنة تسع بعدها على الأشهر ( وأن تعطوا من المغنم ) بفتح الميم والنون أي الغنيمة ( الخمس ) بضم الميم ، وسكونها . قال ابن الصلاح : " وأن تعطوا " عطف على قوله : بأربع ، فلا يكون واحدا منها ، وإن كان واحدا من مطلق شعب الإيمان اهـ . فيكون هذا من باب زيادة الإفادة . قال الطيبي : في الحديث إشكالان ، أولهما : أن المأمور به واحد ، والأركان تفسير للإيمان ؛ بدلالة قوله : أتدرون ما الإيمان ؟ وثانيهما : أن الأركان أي المذكورة خمسة ، وقد ذكر أربعة أي أولا . وأجيب عن الأول بأنه جعل الإيمان أربعا نظرا إلى أجزائه المفصلة ، وعن الثاني بأن عادة البلغاء إذا كان الكلام منصبا لغرض من الأغراض جعلوا سياقه له وكأن ما سواه مطروح ، فهاهنا ذكر الشهادتين ليس مقصودا ؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمة الشهادة ؛ بدليل قولهم : الله ورسوله أعلم اهـ .

ويدل عليه ما جاء في رواية للبخاري : أمرهم بأربع ، ونهاهم عن أربع : ( أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، وأعطوا خمس ما غنمتم ، ولا تشربوا في الدباء ، والحنتم ، والنقير ، والمزفت ) اهـ .

وبهذه الرواية تندفع الإشكالات وترجع إليها التأويلات ، لكني ما أقول ما قاله الطيبي من أن ذكر الشهادتين ليس مقصودا ، بل أقول : هو المقصود بالذات ، وإنما المذكورات بيان شعبها المعظمة ، وأركانها المفخمة ، ومحمل كلام الطيبي أنه ليس مقصودا من الأربع ، بل هو جملة معترضة بين الأربع وبين مبينها . قال السيد جمال الدين : قيل هذا الحديث لا يخلو عن إشكال ؛ لأنه إن قرئ : وأقام الصلاة إلخ بالرفع على أنها معطوفة على شهادة ليكون المجموع هـو الإيمان فأين الثلاثة الباقية ؟ وإن قرئت بالجر على أنها معطوفة على قوله : بالإيمان يكون المذكور خمسة لا أربعة . وأجيب على التقدير الأول بأن الثلاثة الباقية حذفها الراوي اختصارا أو نسيانا ، وعلى التقدير الثاني بأنه عد الأربع التي وعدهم ، ثم زادهم خامسة ، وهي أداء الخمس ؛ لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر ، وكانوا أهل جهاد وغنائم اهـ .

والأظهر اختيار الجار ، والمجرورات الأربعة بالعطف هي المأمورات ، ويكون ذكر الإيمان لشرفه وفضله ، وبيان أساسه وأصله ، سواء كانوا مؤمنين أو مرتدين ، ويكون قوله : أمرهم بالإيمان إلى آخر الشهادتين كجملة معترضة ، ويكون التقدير أمرهم بالإيمان أيضا بدليل اتفاق أهل السنة على أن الأركان ليست من أجزاء الإيمان ، وللرواية السابقة عن البخاري : ( ونهاهم عن أربع ) أي خصال ، وهي الانتباذ في الظروف الأربعة والشرب منها ( عن الحنتم ) : بدل بإعادة الجار ، وهو - بفتح الحاء - الجرة مطلقا ، أو خضراء أو حمراء ، أعناقها في جنوبها ، يجلب فيها الخمر من مضر ، أو أفواهها في جنوبها يجلب فيها الخمر من الطائف ، أو جرار تعمل من طين وأدم وشعر - أقوال للصحابة وغيرهم - ولعلهم كانوا ينتبذون في ذلك كله . ( والدباء ) بضم الدال وتشديد الباء ، ويمد ويقصر - وعاء القرع ، وهو اليقطين اليابس ( والنقير ) بفتح فكسر - جذع ينقر وسطه وينبذ فيه ( والمزفت ) : بتشديد الفاء المفتوحة - المطلي بالزفت ، ويقال له : القار والقير ، وربما قال ابن عباس : " المقير " بدل المزفت ، والمراد بالنهي ليس استعمالها مطلقا ، بل النقيع فيها والشرب منها ما يسكر ، وإضافة الحكم إليها خصوصا إما لاعتيادهم استعمالها في المسكرات ، أو لأنها أوعية تسرع بالاشتداد فيما يستنقع ؛ لأنها غليظة لا يترشح منها الماء ولا ينفذ فيه الهواء ، فلعلها تغير النقيع في زمان قليل ، ويتناوله صاحبه على غفلة بخلاف السقاء فإن التغير فيه يحدث على مهل ، والدليل على ذلك ما روي أنه قال : ( نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء ، فاشربوا في الأسقية كلها ، ولا تشربوا مسكرا ) . وقيل : هذه الظروف كانت مختصة بالخمر ، فلما حرمت الخمر حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمال هذه الظروف ، إما لأن في استعمالها تشبيها بشرب الخمر ، وإما لأن هذه الظروف كانت فيها أثر الخمر ، فلما مضت مدة أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمال هذه الظروف ، فإن أثر الخمر زال عنها ، وأيضا في ابتداء تحريم شيء يبالغ ويشدد [ ص: 91 ] ليتركه الناس مرة ، فإذا تركه الناس واستقر الأمر يزول التشديد بعد حصول المقصود ، هذا وذهب مالك وأحمد إلى أن تحريم الانتباذ في هذه الظروف باق لم ينسخ ؛ لأن ابن عباس استفتي عن الانتباذ فذكره ، فلو نسخ لم يذكره ، ويرد بأنه لم يبلغه النسخ ، فلا يكون إيراده له حجة على من بلغه . ( وقال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( احفظوهن ) أي الكلمات المذكورات من المأمورات والمنهيات واعملوا بهن ، ( وأخبروا بهن ) أي أعلموهن ( من وراءكم ) أي الذين خلفكم من القوم ؛ لتكونوا عالمين معلمين وكاملين مكملين ، وفي بعض النسخ بكسر الميم وجر ما بعده ، وهو غير ظاهر ؛ لاحتياجه إلى تقدير المفعول ( متفق عليه ) : ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ( ولفظه ) أي لفظ الحديث للبخاري ، يعني ولمسلم معناه ، فبهذا المعنى صار الحديث متفقا عليه .




الخدمات العلمية