الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وممن أخرج المبهمات في المراسيل أبو داود ، وكذا أطلق النووي في غير موضع على رواية المبهم مرسلا ، وكل من هذين القولين خلاف ما عليه الأكثر ; فإن الأكثرين من علماء الرواية وأرباب النقل - كما حكاه الرشيد العطار في كتابه الغرر المجموعة عنهم - على أنه متصل في إسناده مجهول ، واختاره [ ص: 190 ] العلائي في جامع التحصيل ، وأشار إليه بعض تلامذة الناظم بقوله : قلت : الأصح أنه متصل لكن في إسناده من يجهل .

ولكن ليس ذلك على إطلاقه ، بل هو مقيد بأن يكون المبهم صرح بالتحديث ونحوه ; لاحتمال أن يكون مدلسا وهو ظاهر ، وكذا قيد القول بإطلاق الجهالة ; بما إذا لم يجئ مسمى في رواية أخرى .

وإذا كان كذلك ، فلا ينبغي المبادرة إلى الحكم عليه بالجهالة ، إلا بعد التفتيش ; لما ينشأ عنه من توقف الفقيه عن الاستدلال به للحكم مع كونه مسمى في رواية أخرى ، وليس بإسناده ولا متنه ما يمنع كونه حجة ، ولذا كان الاعتناء بذلك من أهم المبهمات ، كما سيأتي .

وكلام الحاكم في المنقطع يشير إليه ; فإنه قال : وقد يروى الحديث وفي إسناده رجل غير مسمى ، وليس بمنقطع ، ثم ذكر مثالا من وجهين ، سمي الراوي في أحدهما ، وأبهم في الآخر ، كما وقع للبخاري ; فإنه أورد حديثا من وجهين إلى أيوب السختياني ، قال في أحدهما : عن رجل عن أنس ، وفي الآخر : عن أبي قلابة عن أنس .

ثم قال الحاكم : وهذا لا يقف عليه إلا الحافظ الفهم المتبحر في الصنعة ، وبذلك صرح في المعضل كما سيأتي ، ثم إن صورة المسألة في وقوع ذلك من غير التابعي ، فأما لو قال التابعي : عن رجل ، فلا يخلو إما أن يصفه بالصحبة أم لا ، [ ص: 191 ] فإن لم يصفه بها ، فلا يكون ذلك متصلا ; لاحتمال أن يكون تابعيا آخر ، بل هو مرسل على بابه .

وإن وصفه بالصحبة ، فقد وقع في أماكن من السنن وغيرها للبيهقي تسميته أيضا مرسلا ، ومراده مجرد التسمية ، فلا يجري عليه حكم الإرسال في نفي الاحتجاج ، كما صرح بذلك في القراءة خلف الإمام من " معرفته " عقب حديث رواه عن محمد بن أبي عائشة عن رجل من الصحابة ; فإنه قال : وهذا إسناد صحيح ، وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم ثقة ، فترك ذكر أسمائهم في الإسناد لا يضر ، إذا لم يعارضه ما هو أصح منه . انتهى .

وبهذا القيد ونحوه يجاب عما توقف عن الاحتجاج به من ذلك ، لا لكونه لم يسم ولو لم يصرح به ، ويتأيد كون مثل ذلك حجة بما روى البخاري عن الحميدي قال : إذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من الصحابة ، فهو حجة وإن لم يسم .

وكذا قال الأثرم : قلت لأحمد : إذا قال رجل من التابعين : حدثني رجل من الصحابة ولم يسمه ، فالحديث صحيح ؟ قال : نعم ، ولكن قيده ابن الصيرفي بأن يكون صرح بالتحديث ونحوه ، أما إذا قال : عن رجل من الصحابة ، وما أشبه ذلك ، فلا يقبل .

قال : لأني لا أعلم أسمع ذلك التابعي منه أم لا ؟ إذ قد يحدث التابعي عن رجل ، وعن رجلين ، عن الصحابي ، ولا أدري هل أمكن لقاء ذلك [ ص: 192 ] الرجل أم لا ، فلو علمت إمكانه فيه ، لجعلته كمدرك العصر .

قال الناظم : وهو حسن متجه ، وكلام من أطلق محمول عليه .

وتوقف شيخنا في ذلك ; لأن التابعي إذا كان سالما من التدليس ، حملت عنعنته على السماع ، وهو ظاهر .

قال : ولا يقال : إنما يتأتى هذا في حق كبار التابعين الذين جل روايتهم عن الصحابة بلا واسطة ، وأما صغار التابعين الذين جل روايتهم عن التابعين ; فلا بد من تحقق إدراكه لذلك الصحابي ، والفرض أنه لم يسمه ; حتى نعلم هل أدركه أم لا ؟ لأنا نقول : سلامته من التدليس كافية في ذلك ; إذ مدار هذا على قوة الظن ، وهي حاصلة في هذا المقام .

التالي السابق


الخدمات العلمية