الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 68 ] فصل

[ الرجوع في الهبة ]

ويجوز الرجوع فيما يهبه للأجنبي ( ف ) ويكره ، فإن عوضه أو زادت زيادة متصلة أو مات أحدهما أو خرجت عن ملك الموهوب له فلا رجوع ، ولا رجوع فيما يهبه لذي رحم محرم منه أو زوجة أو زوج ، ولو قال الموهوب له خذ هذا بدلا عن هبتك أو عوضها أو مقابلها أو عوضه أجنبي متبرعا فقبضه سقط الرجوع ، ولو استحق نصف الهبة رجع ، وإن استحق جميع العوض رجع بالهبة ، والهبة بشرط العوض يراعى فيها حكم الهبة قبل القبض والبيع بعده ، ولا يصح الرجوع إلا بتراضيهما أو بحكم الحاكم ، وإن هلكت في يده بعد الحكم لم يضمن .

التالي السابق


فصل

[ الرجوع في الهبة ]

المعاني المانعة من الرجوع في الهبة : المحرمية من القرابة ، والزوجية ، والمعاوضة ، وخروجها من ملك الموهوب له ، وحدوث الزيادة أو التغيير في عينها ، وموت الواهب أو الموهوب له على ما نبينه - إن شاء الله تعالى - .

قال : ( ويجوز الرجوع فيما يهبه للأجنبي ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها " أي ما لم يعوض عنها ( ويكره ) ذلك لأنه من باب الخساسة والدناءة . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه " شبهه له لخساسة الفعل ودناءة الفاعل ، وتأويل قوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا يحل للواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما يهب لولده " أي لا يحل له الرجوع من غير قضاء ولا رضى إلا الوالد فإنه يحل له ذلك عند الحاجة ، فهذا الحمل أولى جمعا بين الحديثين .

قال : ( فإن عوضه أو زادت زيادة متصلة ) في نفسها ( أو مات أحدهما ، أو خرجت عن [ ص: 69 ] ملك الموهوب له فلا رجوع ) أما إذا عوضه فلما روينا من الحديث ، ولأن المقصود من الهبة التعويض عادة وقد حصل . وأما الزيادة كالسمن والكبر والبناء والغرس والصبغ والخياطة فلأنه لا يمكن الرجوع بدون الزيادة ، ولا سبيل إلى الرجوع مع الزيادة لأن العقد ما ورد عليها . وأما موت الواهب فلا سبيل للوارث عليها إذ هو أجنبي من العقد . وأما موت الموهوب له فللانتقال إلى ورثته ، والتمليك لم يوجد منه وصار كما إذا انتقل منه حال حياته وأما إذا خرجت من ملك الموهوب له فلأنه إنما أخرجها بتسليطه فلا يملك نقضه كالوكيل ، ونقصان الموهوب لا يمنع الرجوع بأن انتقصت قيمته أو انهدم البناء أو ولدت الجارية ، بنصف العوض ، وإن استحق بعض العوض لا يرجع بشيء منه ( ز ) ، إلا أنه لا يرجع فيها حتى يستغني عنها ولدها ، ولو وهبه عبدا فشب فازدادت قيمته ثم شاخ فنقصت لا يرجع فيه لأنه ازداد في بدنه وطال في جثته ثم انتقص بوجه آخر وهو شيخوخته فلا يرجع .

قال : ( ولا رجوع فيما يهبه لذي رحم محرم منه أو زوجة أو زوج ) ; لأن المقصود صلة الرحم وزيادة الألفة بين الزوجين ، وفي الرجوع قطيعة الرحم والألفة ; لأنها تورث الوحشة والنفرة فلا يجوز صيانة للرحم عن القطيعة وإبقاء للزوجية على الألفة والمودة وفي الحديث : " إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها " ، وسواء كان أحد الزوجين مسلما أو كافرا لشمول المعنى ، ولو وهبها ثم أبانها لم يرجع ، ولو وهب أجنبية ثم تزوجها له الرجوع ، والمعتبر المقصود وقت العقد ، وإن وهب لأخيه وهو عبد له الرجوع ، وكذلك إن وهب لعبد أخيه عند أبي حنيفة ، وقالا : لا رجوع له لأن الملك وقع للمولى فكان هبة للأخ ، وله أن الهبة وقعت للعبد حتى اعتبر قبوله ورده ، والملك يقع له ، ثم ينتقل إلى مولاه عند الفراغ من حاجته حتى لو كان مديونا لا ينتقل إلى مولاه ولا صلة بينه وبين العبد .

قال : ( ولو قال الموهوب له : خذ هذا بدلا عن هبتك أو عوضها أو مقابلها أو عوضه أجنبي متبرعا فقبضه سقط الرجوع ) ; لأن هذه الألفاظ في معنى المعاوضة ، وكذلك لو قال : خذ هذا مكان هبتك ، أو ثوابا منها ، أو كافأتك به ، أو جازيتك عليه ، أو أثبتك ، أو نحلتك هذا عن [ ص: 70 ] هبتك ، أو تصدقت به عليك بدلا عن هبتك فهذا كله عوض وحكمه حكم الهبة ، يصح بما تصح به الهبة ، ويبطل بما تبطل به ، ويتوقف الملك فيه على القبض ولا يكون في معنى المعاوضة أصلا ، وإن لم يضف العوض إلى الهبة بأن أعطاه شيئا ولم يقل عوضا عن هبتك لا يكون عوضا ولكل واحد منهما الرجوع ، فإن عوضه عن جميع الهبة بطل الرجوع في الجميع قل العوض أو كثر ، وإن عوضه عن نصفها فله الرجوع فيما بقي لأن المانع التعويض فيتقدر بقدره .

قال : ( ولو استحق نصف الهبة رجع بنصف العوض ) لأنه ما عوضه بهذا العوض إلا ليسلم له جميع الموهوب ولم يسلم إلا نصفه فيرجع بنصف ما عوضه ( وإن استحق بعض العوض لا يرجع بشيء منه ) وقال زفر : يرجع بحصته من الموهوب اعتبارا بالعوض الآخر . ولنا أنه لما استحق بعضه ظهر أنه ما عوضه إلا بالباقي وهو يصلح عوضا عن الكل ، فلا يرجع إلا أن يرد الباقي ثم يرجع ; لأنه ما أسقط حقه في الرجوع بقبول العوض إلا ليسلم له جميع العوض ولم يسلم فله رده ، وإذا رده بطل التعويض فعاد حق الرجوع .

قال : ( وإن استحق جميع العوض رجع بالهبة ) لما بينا . قال : ( والهبة بشرط العوض يراعى فيها حكم الهبة قبل القبض ) فلا يصح في المشاع ( و ) حكم ( البيع بعده ) رعاية للفظ والمعنى . وصورته : أن يهبه عبدا على أن يعوضه عنه ثوبا ، فلكل واحد منهما الامتناع ما لم يتقابضا كما في الهبة ، فإذا تقابضا صار بمنزلة البيع يردان بالعيب وتجب الشفعة ، وإن استحق ما في يد أحدهما رجع بعوضه إن كان قائما ، وبقيمته إن كان هالكا .

قال : ( ولا يصح الرجوع إلا بتراضيهما أو بحكم الحاكم ) ; لأنه فصل مجتهد فيه مختلف بين العلماء فله الامتناع ، وولاية الإلزام للقاضي ، وإن تراضيا فقد أبطل حقه فيجوز ( وإن هلكت في يده بعد الحكم ) بالرد ( لم يضمن ) ; لأنه أمانة في يده حيث قبضه لا على وجه الضمان .




الخدمات العلمية