الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          وهل تصح إمامة الفاسق والأقلف ؛ على روايتين . وفي إمامة أقطع اليدين وجهان

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          ( وهل تصح إمامة الفاسق والأقلف ، على روايتين ) إحداهما : لا تصح إمامة [ ص: 65 ] الفاسق مطلقا ، قاله أكثر الأصحاب ، وقدمه السامري وصاحب " الفروع " ، وذكر ابن هبيرة أنها الأشهر ، قال ابن الزاغوني : وهي اختيار المشايخ ; لقوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون [ السجدة : 18 ] ولما روى ابن ماجه عن جابر مرفوعا لا يؤمن امرأة رجلا ، ولا أعرابي مهاجرا ، ولا فاجر مؤمنا إلا أن يقهره سلطان يخاف سوطه وسيفه وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اجعلوا أئمتكم خياركم ، فإنهم وفدكم بينكم وبين ربكم قال البيهقي : إسناده ضعيف ، ولأنه لا يقبل إخباره لمعنى في دينه ، أشبه الكافر ، ولا يؤمن على شرائط الصلاة ، ولا فرق بين أن يكون فسقه من جهة الاعتقاد أو من جهة الأفعال ، فمتى كان يعلن ببدعته ، ويتكلم بها ، ويناظر عليها لم يصح . قال أحمد : لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية ، أي : يظهرها ، ويدعو إليها ، وعليه حمل المؤلف كلام الخرقي ، ومن صلى خلف من يعلن ببدعته أو بسكر أعاد ، فيكون موافقا لما اختاره الشيخان من أن البطلان مختص بظاهر الفسق دون خفيه ، قال في " الوجيز " : لا يصح خلف الفاسق المشهور فسقه ، لكن ظاهر كلامه ; - وهو المذهب - مطلقا . فعلى هذا تصح خلف عدل استنابه ، ولا إعادة في المنصوص ، وقيل : إن كان المستنيب وحده عدلا فوجهان ، صححه أحمد وخالف القاضي وغيره ، وظاهر كلامهم : لا يؤم فاسق فاسقا ، وقاله القاضي وغيره ، بخلاف الأمي ; لأنه لا يمكنه رفع ما عليه من النقص ، والفسق يزول بالتوبة ، ويعيد في المنصوص إذا علم فسقه [ ص: 66 ] ودخل في كلامه الجمعة ، والمذهب أنها تصلى خلفه لأنها تختص بإمام واحد ، فالمنع منها خلفه يؤدي إلى تفويتها دون سائر الصلوات ، نعم لو أقيمت في موضعين في أحدهما عدل فعلها وراءه ، ونقل ابن الحكم : أنه كان يصلي الجمعة ثم يصلي الظهر أربعا ، وذكر غير واحد الإعادة ظاهر المذهب كغيرها ، وصححه ابن عقيل : وعنه : لا إعادة ، قال في " الرعاية " : هي الأشهر لأنها صلاة مأمور بها كغيرها ، وكذا إن خاف فتنة أو أذى صلى خلفه وأعاد ، نص عليه ، فإن نوى الانفراد ووافقه في أفعالها ، لم يعد على الأصح ، وألحق المؤلف وصاحب " التلخيص " العيد بالجمعة ، والثانية : تصح مع الكراهة ، ذكر الشريف أنها قول أكثرهم ، روى ابن مسعود ، وواثلة ، وأبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا بأسانيد ضعيفة رواها الدارقطني ، وعن مكحول عن أبي هريرة : الصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برا كان أو فاجرا . رواه أبو داود ، والدارقطني ، وقال : مكحول لم يلق أبا هريرة ، ومن دونه ثقات ، وضعف في " التحقيق " إسناده ، وعن عمر مرفوعا : صلوا على من قال : لا إله إلا الله ، وصلوا خلف من قال : لا إله إلا الله رواه الخلال ، والدارقطني بإسناد ضعيف ، وكما تصح مع فسق المأموم ، وعنه : في نفل جزم به جماعة ، وذكره بعضهم رواية واحدة ، وأما إمامة الأقلف فعنه تصح مع الكراهة ، ذكره في " المحرر " ، وقدمه ابن تميم ، وصاحب " الفروع " ، وجزم في " الوجيز " ; لأنه إن أمكنه غسل النجاسة غسلها ، وإلا عفي عن إزالتها لعدم الإمكان ، والثانية : لا تصح ; لأنه حامل [ ص: 67 ] نجاسة ظاهرة يمكنه إزالتها ، وهل ذلك لترك الختان الواجب أو لعجزه عن غسل النجاسة ، فيه وجهان ، وقيل : إن كثرت إمامته لم تصح ، وعلى المنع تصح إمامته بمثله ، قاله جماعة ، زاد ابن تميم : إن لم يجب الختان ، وقيل : يصح في التراويح إذا لم يكن قارئ غيره . فروع : الأول : تصح خلف من خالف في فرع ، نص عليه ، لفعل الصحابة والتابعين ، مع شدة الخلاف ، ما لم يعلم أنهم تركوا ركنا أو شرطا ، وذكر ابن أبي موسى في الصلاة خلف شارب نبيذ معتقدا حله روايتين ، وذكر أنه لا يصلى خلف من يقول : الماء من الماء أو يجيز ربا الفضل .

                                                                                                                          الثاني : إذا ترك ركنا أو شرطا عند المأموم ، فعنه يعيد المأموم ، اختاره جمع ، وقدمه في " المستوعب " ، و " المحرر " لاعتقاده فساد صلاة إمامه ، كما لو اعتقد مجمعا عليه فبان خلافه ، وعنه : لا يعيد ، اختاره تقي الدين كالإمام ، وكعلم المأموم لما سلم في الأصح . الثالث : إذا ترك الإمام عمدا ما يعتقده وحده واجبا بطلت صلاتهما ، وقال السامري : تفسد صلاة المأموم إن علم في الصلاة بحال الإمام . الرابع : إذا ترك ركنا أو شرطا أو واجبا مختلفا فيه بلا تأويل ولا تقليد أعاد ، ذكره الآجري إجماعا لتركه فرضه ، ولهذا أمر عليه السلام الذي ترك الطمأنينة بالإعادة ، وعنه : لا ، لخفاء الطرق ، وعنه : إن طال .

                                                                                                                          [ ص: 68 ] الخامس : إذا فعل ما يعتقد تحريمه في غير الصلاة من المختلف فيه ، فإن داوم على ذلك فسق ، وإن لم يداوم ، فذكر المؤلف أنه لا بأس بالصلاة خلفه ; لأنه من الصغائر ، وذكر السامري أنه يفسق ، قال ابن عقيل : لو شرب النبيذ عامي بلا تقليد لعالم فسق ; وهو معنى كلام القاضي بناء على ما صرح به جماعة أنه لا يجوز أن يقدم على فعل لا يعلم جوازه ، ويفسق إن كان مما يفسق به . ( وفي إمامة أقطع اليدين ) أو أحدهما ( وجهان ) وقيل : روايتان ، حكاهما الآمدي ، إحداهما : يصح ، اختاره القاضي ، وجزم به في " الوجيز " ; لأنه لا يخل بركن في الصلاة كقطع الأنف ، والثاني : لا ، اختاره أبو بكر لإخلاله بالسجود على عضو ، وقيل : إن كثرت إمامته ، وحكم أقطع الرجلين أو أحدهما كذلك ، واختار في " المغني " ، و " الشرح " أنها لا تصح إمامته بمثله ، ذكره في " الكافي " ، وجزم ابن عقيل بأنها تكره إمامة من قطع أنفه



                                                                                                                          ولا تصح الصلاة خلف كافر . ولا أخرس ، ولا من به سلس البول ، ولا عاجز عن الركوع والسجود والقعود .

                                                                                                                          ولا تصلح خلف عاجز عن القيام ، إلا إمام الحي المرجو زوال علته ، ويصلون وراءه جلوسا . فإن صلوا قياما صحت صلاتهم في أحد الوجهين ، وإن ابتدأ بهم الصلاة قائما ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياما .

                                                                                                                          ( ولا تصح الصلاة خلف كافر ) وفاقا ; لأنها تفتقر إلى النية والوضوء ، وهما لا يصحان منه ، ولأنه ائتم بمن ليس هو من أهل الصلاة ، أشبه ما لو ائتم بمجنون ، وسواء علم بكفره في الصلاة أو بعد الفراغ منها ; لأن الكفر لا يخفى غالبا ، فالجاهل به مفرط ، وقيل : يصح إن كان يسره ، وعلى هذا لا إعادة على من صلى خلفه وهو لا يعلم ، كما لو ائتم بمحدث وهو لا يعلم .

                                                                                                                          وجوابه : بأن المحدث يشترط أن لا يعلم حدث نفسه ، والكافر يعلم حال نفسه .

                                                                                                                          [ ص: 69 ] تنبيه : إذا علمه مسلما فصلى خلفه فقال بعد الصلاة : هو كافر لم تبطل لأنها كانت محكوما بصحتها ; وهو ممن لا يقبل قوله ، وإن قال بعد سلامه هو كافر تهزؤا ، فنصه : يعيد المأموم ، كمن ظن كفره أو خلافه ، وقيل : لا ، كمن جهل حاله ; لأن الظاهر من المصلين الإسلام ، سيما إذا كان إماما ، وإن علم له حالان أو إفاقة وجنون لم يدر في أيهما ائتم ، وأم فيهما ، ففي الإعادة أوجه ، ثالثها : إن علم قبل الصلاة إسلامه ، وشك في ردته لم يعد ، وإلا أعاد ، ذكره في " الشرح " ( ولا أخرس ) لأنه أخل بفرض الصلاة ، كالمضطجع يؤم القائم ، وظاهره أنها لا تصح ولو بمثله ، نص عليه ، وقاله أكثر الأصحاب ; لأنه مأيوس من نطقه ، وفي " الأحكام السلطانية " ، و " الكافي " أنها تصح ، قال في " الشرح " : هو قياس المذهب قياسا على الأمي ، والعاجز عن القيام يؤم مثله ( ولا من به سلس البول ) لأن في صلاته خللا غير مجبور ببدل ; لكونه يصلي مع خروج النجاسة التي يحصل بها الحدث من غير طهارة ، أشبه ما لو ائتم بمحدث يعلم بحدثه ، وإنما صحت صلاته في نفسه للضرورة ، ولو عبر بمن حدثه مستمر كـ " الوجيز " ، و " الفروع " لكان أولى ، وتصح إمامته بمثله ، ذكره في " الشرح " ، وفي " الوجيز " ، وفي " الفروع " ، وجهان .

                                                                                                                          مسألة : لا يصح ائتمام المتطهر بعادم الطهورين ، ولا القادر على الاستقبال بالعاجز عنه ; لأنه تارك لشرط يقدر عليه المأموم ، أشبه ائتمام المعافى بمن حدثه مستمر ( ولا عاجز عن الركوع ، والسجود ، والقعود ) أي : لا تصح إمامة عاجز عن ركن أو شرط بالقادر عليه ، ذكره في " المحرر " ، و " الفروع " ; لأنه أخل [ ص: 70 ] بركن لا يسقط في النافلة ، فلم يجز كالقارئ بالأمي ، وقيل : يجوز ، واختاره الشيخ تقي الدين ، كالقاعد يؤم القائم ، وعلى الأول : ولا فرق فيه بين إمام الحي وغيره ، وقاس أبو الخطاب المنع على صلاة الجنازة والمربوط ، وأما القيام فهو أخف بدليل سقوطه في النافلة ، قال في " الشرح " : أمر النبي صلى الله عليه وسلم المصلين خلف الجالس بالجلوس ، ولا خلاف أن المصلي خلف المضطجع لا يضطجع ، وتصح إمامتهم بمثلهم ، جزم به في " الفروع " ، وفي " الشرح " أنه قياس المذهب ; لأنه عليه السلام صلى بأصحابه في المطر بالإيماء .

                                                                                                                          ( ولا تصح خلف عاجز عن القيام ) لأنه عجز عن ركن من أركان الصلاة فلم يصح الاقتداء به ، كالعاجز عن القراءة ( إلا إمام الحي ) وهو الإمام الراتب في المسجد لما في المتفق عليه من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بيته وهو شاك ، فصلى جالسا ، وصلى وراءه قوم قياما ، فأشار إليهم أن اجلسوا ، فلما انصرف قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به إلى قوله : وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون قال ابن عبد البر : روي هذا مرفوعا من طرق متواترة ، ولأن إمام الحي يحتاج إلى تقديمه بخلاف غيره ، والقيام أخف بدليل سقوطه في النفل ( المرجو زوال علته ) لئلا يفضي إلى ترك القيام على الدوام أو مخالفة الخبر ، ولا حاجة إليه ، والأصل فيه فعله عليه السلام ، وكان يرجى برؤه ، وعنه : يصح من غير إمام الحي ، وإن لم يرج زواله ( ويصلون وراءه جلوسا ) لما تقدم ، قال في الخلاف : هذا استحسان ، والقياس لا تصح ; لأنه عليه السلام صلى في مرض موته قاعدا ، وصلى أبو بكر ، والناس خلفه قياما متفق [ ص: 71 ] عليه من حديث عائشة ، وأجاب أحمد عنه بأنه لا حجة فيه ; لأن أبا بكر ابتدأ بهم قائما فيتمها كذلك ، والجمع أولى من النسخ ، ثم يحتمل أن أبا بكر كان هو الإمام ، قال ابن المنذر : وقد روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه خلف أبي بكر في ثوب متوشحا ورواه أنس أيضا ، وصححهما الترمذي ، قال : ولا نعرف أنه عليه السلام صلى خلف أبي بكر إلا في هذا الحديث ، قال مالك : العمل عليه عندنا ، لا يقال : لو كان هو الإمام لكان عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي الصحيح : أنه كان عن يسار أبي بكر ; لأنه يحتمل أنه فعل ذلك ; لأن خلفه صف ، وفعل مثل قولنا أسيد بن حضير ، وجابر ، وقيس بن فهر ، وأبو هريرة ، لكن المستحب له أن يستخلف ; لأن الناس مختلفون في صحة إمامته ، مع أن صلاة القائم أكمل ، وكمالها مطلوب ( فإن صلوا قياما صحت صلاتهم في أحد الوجهين ) هذا هو المشهور ، وصححه في " التلخيص " ، و " الفروع " ، وقدمه في " المحرر " ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى وراءه القوم قياما لم يأمرهم بالإعادة ، ولأن القيام هو الأصل ، وقد أتوا به ، والثاني : لا يصح ، أومأ إليه أحمد للنهي عنه ، وقيل : لا تصح صلاة مع علم وجوب الجلوس دون جهله ، كالراكع دون الصف .

                                                                                                                          فرع : إذا قدر المقتدي والمريض على الإتيان بجميع الأركان فلا بأس بإمامتهما ( وإن ابتدأ بهم الصلاة قائما ثم اعتل ) أي : حصل له علة ( فجلس أتموا خلفه قياما ) لقصة أبي بكر ، ولأن القيام هو الأصل ، فإذا بدأ به في الصلاة لزمه إذا قدر عليه ، كمن أحرم في الحضر ثم سافر ، قاله في " الشرح " [ ص: 72 ] وظاهره أنه لا يجوز الجلوس ، نص عليه ، وذكر الحلواني : ولم يكن إمام الحي




                                                                                                                          الخدمات العلمية