الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ما يضرب من أعضاء المحدود

قال الله سبحانه وتعالى : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولم يذكر ما يضرب منه ، وظاهره يقتضي جواز ضرب جميع الأعضاء . وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار فيه ، فروى ابن أبي ليلى عن عدي بن ثابت عن المهاجر بن عميرة عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل سكران أو في حد ، فقال : " اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير " . وروى سفيان بن عيينة عن أبي عامر عن عدي بن ثابت عن مهاجر بن عميرة عن علي رضي الله عنه أنه قال : اجتنب رأسه ومذاكيره وأعط كل عضو حقه " ، فذكر في هذا الحديث الرأس وفي الحديث الأول الوجه ، وجائز أن يكون قد استثناهما جميعا . وروي عن عمر أنه أمر بالضرب في حد فقال : " أعط كل عضو حقه " ولم يستثن شيئا .

وروى المسعودي عن [ ص: 102 ] القاسم قال : أتي أبو بكر برجل انتفى من ابنه ، فقال أبو بكر : " اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس " . وقد روي عن عمر : " أنه ضرب صبيغ بن عسيل على رأسه حين سأل عن الذاريات ذروا على وجه التعنت " . وروي عن ابن عمر أنه لا يصيب الرأس . وقال أبو حنيفة ومحمد : " يضرب في الحدود الأعضاء كلها إلا الفرج والرأس والوجه " . وقال أبو يوسف : " يضرب الرأس أيضا " . وذكر الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران عن أصحاب أبي يوسف : " أن الذي يضرب به الرأس من الحد سوط واحد " . وقال مالك : " لا يضرب إلا في الظهر " . وذكر ابن سماعة عن محمد في التعزير : أنه يضرب الظهر بغير خلاف وفي الحدود يضرب الأعضاء إلا ما ذكرنا . وقال الحسن بن صالح : " يضرب في الحد والتعزير الأعضاء كلها ولا يضرب الوجه ولا المذاكير " . وقال الشافعي : " يتقى الوجه والفرج " . قال أبو بكر : اتفق الجميع على ترك ضرب الوجه والفرج .

وروي عن علي استثناء الرأس أيضا ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه .

وإذا لم يضرب الوجه فالرأس مثله ؛ لأن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه ، وإنما أمر باجتناب الوجه لهذه العلة ولئلا يلحقه أثر يشينه أكثر مما هو مستحق بالفعل الموجب للحد . والدليل على أن ما يلحق الرأس من ذلك هو كما يلحق الوجه أن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس والوجه سواء وفارقا سائر البدن من هذا الوجه ؛ لأن الموضحة فيما سوى الرأس والوجه إنما تجب فيه حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة الواقعة في الرأس والوجه ، فوجب من أجل ذلك استواء حكم الرأس والوجه في اجتناب ضربهما . ووجه آخر ، وهو أنه ممنوع من ضرب الوجه لما يخاف فيه من الجناية على البصر ، وذلك موجود في الرأس ؛ لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر وربما حدث منه الماء في العين وربما حدث منه أيضا اختلاط في العقل ، فهذه الوجوه كلها تمنع ضرب الرأس .

وأما اجتناب الفرج فمتفق عليه ، وهو أيضا مقتل فلا يؤمن أن يحدث أكثر مما هو مستحق بالفعل . وقال أبو حنيفة وأصحابه والليث والشافعي : " الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود ، إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه وينزع عنه الحشو والفرو " وقال بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة : " يضرب التعزير في إزار ولا يفرق في التعزير خاصة في الأعضاء " . وقال أبو يوسف ضرب ابن أبي ليلى المرأة القاذفة قائمة فخطأه أبو حنيفة . وقال الثوري : " لا يجرد الرجل ولا [ ص: 103 ] يمد ، وتضرب المرأة قاعدة والرجل قائما " . قال أبو بكر : في حديث رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين قال : " رأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة " وهذا يدل على أن الرجل كان قائما ، والمرأة قاعدة .

وروى عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي قال : أتي عمر بسوط فيه شدة فقال : أريد ألين من هذا ، فأتي بسوط فيه لين فقال : أريد أشد من هذا ، فأتي بسوط بين السوطين فقال : اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه وعن ابن مسعود أنه ضرب رجلا حدا ، فدعا بسوط فأمر فدق بين حجرين حتى لان ثم قال : اضرب ولا تخرج إبطك وأعط كل عضو حقه وعن علي أنه قال للجلاد : أعط كل عضو حقه وروى حنظلة السدوسي عن أنس بن مالك قال : " كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين ثم يضرب به ، وذلك في زمن عمر بن الخطاب " .

وروي عن أبي هريرة أنه جلد رجلا قائما في القذف . قال أبو بكر : هذه الأخبار تدل على معان : منها اتفاقهم على أن ضرب الحدود بالسوط ، ومنها أنه يضرب قائما ؛ إذ لا يمكن إعطاء كل عضو حقه إلا وهو قائم ، ومنها أنه يضرب بسوط بين سوطين . وإنما قالوا : " إنه يضرب مجردا " ليصل الألم إليه ، ويضرب القاذف وعليه ثيابه ؛ لأن ضربه أخف . وإنما قالوا : " لا يمد " ؛ لأن فيه زيادة في الإيلام غير مستحق بالفعل ولا هو من الحد .

وروى يزيد بن هارون عن الحجاج عن الوليد بن أبي مالك : " أن أبا عبيدة بن الجراح أتي برجل في حد ، فذهب الرجل ينزع قميصه وقال : ما ينبغي لجسدي هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص فقال أبو عبيدة : لا تدعوه ينزع قميصه فضربه عليه " . وروى ليث عن مجاهد ومغيرة عن إبراهيم قالا : " يجلد القاذف وعليه ثيابه " .

وعن الحسن قال : " إذا قذف الرجل في الشتاء لم يلبس ثياب الصيف ولكن يضرب في ثيابه التي قذف فيها ، إلا أن يكون عليه فرو وحشو يمنعه من أن يجد وجع الضرب فينزع ذلك عنه " وقال مطرف عن الشعبي مثل ذلك .

وروى شعبة عن عدي بن ثابت عمن شهد عليا رضي الله عنه : " أنه أقام على رجل الحد فضربه على قباء أو قرطق " . ومذهب أصحابنا موافق لما روي عن السلف في هذه الأخبار ، ويدل على صحته أن من عليه حشو أو فرو فلم يصل الألم أن الفاعل لذلك غير ضارب في العادة ، ألا ترى أنه لو حلف أن يضرب فلانا فضربه وعليه حشو أو فرو فلم يصل إليه الألم أنه لا يكون ضاربا ولم يبر في يمينه ولو وصل إليه الألم كان ضاربا ؟

[ ص: 104 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية