الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب اللعان

قال الله عز وجل : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم إلى آخر القصة . قال أبو بكر : كان حد قاذف الأجنبيات والزوجات الجلد ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك ابن سحماء : ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك ، وقال الأنصار : أيجلد هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين فثبت بذلك أن حد قاذف الزوجات كان كحد قاذف الأجنبيات وأنه نسخ عن الأزواج الجلد باللعان ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية حين نزلت آية اللعان : ائتني بصاحبتك فقد أنزل الله فيك وفيها قرآنا ولاعن بينهما ، وروي نحو ذلك في حديث عبد الله بن مسعود في الرجل الذي قال : أرأيتم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ فدلت هذه الأخبار على أن حد قاذف الزوجة كان الجلد وأن الله تعالى نسخه باللعان ، ومن أجل ذلك قال أصحابنا : إن الزوج [ ص: 134 ] إذا كان عبدا أو محدودا في قذف فلم يجب اللعان بينهما أن عليه الحد ، كما أنه إذا أكذب نفسه فسقط اللعان من قبله كان عليه الحد ، وقالوا : لو كانت المرأة هي المحدودة في القذف أو كانت أمة أو ذمية أنه لا حد على الزوج ؛ لأنه قد سقط اللعان من قبلها فكان بمنزلة تصديقها الزوج بالقذف لما سقط اللعان من جهتها لم يجب على الزوج الحد .

واختلف الفقهاء فيمن يجب بينهما اللعان من الزوجين ، فقال أصحابنا جميعا أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد : ( يسقط اللعان بأحد معنيين أيهما وجد لم يجب معه اللعان ، وهو أن يكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد إذا كان أجنبيا نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية أو قد وطئت وطئا حراما في غير ملك ، والثاني أن يكون أحدهما من غير أهل الشهادة بأن يكون محدودا في قذف أو كافرا أو عبدا ، فأما إذا كان أحدهما أعمى أو فاسقا فإنه يجب اللعان ) . وقال ابن شبرمة : ( يلاعن المسلم زوجته اليهودية إذا قذفها ) .

وقال ابن وهب عن مالك : ( الأمة المسلمة والحرة والنصرانية واليهودية تلاعن الحر المسلم ، وكذلك العبد يلاعن زوجته اليهودية ) . وقال ابن القاسم عن مالك : ( ليس بين المسلم والكافر لعان إذا قذفها إلا أن يقول رأيتها تزني فتلاعن سواء ظهر الحمل أو لم يظهر لأنه يقول أخاف أن أموت فيلحق نسب ولدها بي ، وإنما يلاعن المسلم الكافر في دفع الحمل ولا يلاعنها فيما سوى ذلك ، وكذلك لا يلاعن زوجته الأمة إلا في نفي الحمل ) قال : ( والمحدود في القذف يلاعن ، وإن كان الزوجان جميعا كافرين فلا لعان بينهما ، والمملوكان المسلمان بينهما لعان إذا أراد أن ينفي الولد ) .

وقال الثوري والحسن بن صالح : ( لا يجب اللعان إذا كان أحد الزوجين مملوكا أو كافرا ويجب إذا كان محدودا في قذف ) . وقال الأوزاعي : ( لا لعان بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته ) .

وقال الليث في العبد إذا قذف امرأته الحرة وادعى أنه رأى عليها رجلا : ( يلاعنها ؛ لأنه يحد لها إذا كان أجنبيا ؛ فإن كانت أمة أو نصرانية لاعنها في نفي الولد إذا ظهر بها حمل ولا يلاعنها في الرؤية لأنه لا يحد لها ، والمحدود في القذف يلاعن امرأته ) . وقال الشافعي : ( كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن إذا كانت ممن يلزمها الفرض ) قال أبو بكر : فأما الوجه الأول من الوجهين اللذين يسقطان اللعان فإنما وجب ذلك به من قبل أن اللعان في الأزواج أقيم مقام الحد في الأجنبيات ، وقد كان الواجب على قاذف الزوجة والأجنبية جميعا الجلد بقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا [ ص: 135 ] بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ثم نسخ ذلك عن الأزواج وأقيم اللعان مقامه ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك ابن سحماء : ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك وقول الرجل الذي قال : أرأيتم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت عن غيظ فأنزلت آية اللعان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية : قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فأتني بها فلما كان اللعان في الأزواج قائما مقام الحد في الأجنبيات لم يجب اللعان على قاذف من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي . وأيضا فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم اللعان حدا ؛ حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن أحمد بن نصر الخراساني قال : حدثنا عبد الرحمن بن موسى قال : حدثنا روح بن دراج عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المرأة وزوجها فرق بينهما وقال : إن جاءت به أرح القدمين يشبه فلانا فهو منه قال : فجاءت به يشبهه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا ما مضى من الحد لرجمتها ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اللعان حد ، ولما كان حدا لم يجز إيجابه على الزوج إذا كانت المرأة مملوكة ؛ إذ كان حدا مثل حد الجلد ، ولما كان حدا لم يجب على قاذف المملوك .

فإن قيل : لو كان حدا لما وجب على الزوج إذا قذف امرأته الحرة الجلد إذا أكذب نفسه بعد اللعان ؛ إذ غير جائز أن يجتمع حدان بقذف واحد ، وفي إيجاب حد القذف عليه عند إكذابه نفسه دليل على أن اللعان ليس بحد .

قيل له : قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حدا ، وغير جائز استعمال النظر في دفع الأثر ، ومع ذلك فإنما يمتنع اجتماع الحدين عليه إذا كان جلدا فأما إذا كان أحدهما جلدا والآخر لعانا فإنا لم نجد في الأصول خلافه ؛ وأيضا فإن اللعان إنما هو حد من طريق الحكم ، فمتى أكذب نفسه وجلد الحد خرج اللعان من أن يكون حدا ؛ إذ كان ما يصير حدا من طريق الحكم فجائز أن يكون تارة حدا وتارة ليس بحد ، فكذلك كل ما تعلق بالشيء من طريق الحكم فجائز أن يكون تارة على وصف وأخرى على وصف آخر . وإنما قلنا إن من شرط اللعان أن يكون الزوجان جميعا من أهل الشهادة لقوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إلى آخر القصة ؛ فلما سمى الله لعانهما شهادة ثم قال في المحدود في القذف : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وجب بمضمون الآيتين انتفاء اللعان عن المحدود في القذف ، وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في سائر [ ص: 136 ] من خرج من أن يكون من أهل الشهادة مثل العبد والكافر ونحوهما ، ومن جهة أخرى أنه إذا ثبت أن المحدود في القذف لا يلاعن وجب مثله في سائر من ليس هو من أهل الشهادة ؛ إذ لم يفرق أحد بينهما لأن كل من لا يوجب اللعان على المحدود لا يوجبه على من ذكرنا .

ووجه آخر من دلالة الآية ، وهو قوله تعالى : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فلا يخلو المراد به من أن يكون الأيمان فحسب من غير اعتبار معنى الشهادة فيه أو أن يكون أيمانا ليعتبر فيها معنى الشهادة على ما نقوله ، فلما قال تعالى : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم علمنا أنه أراد أن يكون الملاعن من أهل الشهادة ؛ إذ غير جائز أن يكون المراد ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم ؛ إذ كل أحد لا يحلف إلا عن نفسه ولا يجوز إحلاف الإنسان عن غيره ، ولو كان المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم لاستحال وزالت فائدته ، فثبت أن المراد أن يكون الشاهد في ذلك من أهل الشهادة وإن كان ذلك يمينا . ويدل على ذلك قوله تعالى : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله فلم يخل المراد من أن يكون الإتيان بلفظ الشهادة في هذه الأيمان أو الحلف من كل واحد منهما سواء كان بلفظ الشهادة أو بغيرها بعد أن يكون حلفا ، فلما كان قول القائل بجواز قبول اليمين منهما على أي وجه كانت كان مخالفا للآية وللسنة لأن الله تعالى قال : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله كما قال تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم وقال : فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ولم يجز الاقتصار على الإخبار دون إيراده بلفظ الشهادة ، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين لاعن بين الزوجين أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على لفظ اليمين دونها ، ولما كان ذلك كذلك علمنا أن شرط هذه الأيمان أن يكون الحالف بها من أهل الشهادة ويلاعنان .

فإن قيل : الفاسق والأعمى ليسا من أهل الشهادة ويلاعنان قيل له : الفاسق من أهل الشهادة من وجوه :

أحدها : أن الفسق الموجب لرد الشهادة قد يكون طريقه الاجتهاد في الرد والقبول .

والثاني : أنه غير محكوم ببطلان شهادته ؛ إذ الفسق لا يجوز أن يحكم به الحاكم ، فلما لم تبطل شهادته من طريق الحكم لم يخرج من أن يكون من أهل الشهادة . والثالث : أن فسقه في حال لعانه غير متيقن ؛ إذ جائز أن يكون تائبا فيما بينه وبين الله تعالى فيكون عدلا مرضيا عند الله ، وليس هذه الشهادة يستحق بها على الغير فترد من أجل ما علم من ظهور فسقه بديا ، فلم يمنع فسقه من قبول لعانه وإن كان من شرطه كونه من أهل الشهادة ، وليس كذلك [ ص: 137 ] الكفر لأن الكافر لو اعتقد الإسلام لم يكن مسلما إلا بإظهاره إذا أمكنه ذلك فكان حكم كفره باقيا مع اعتقاده لغيره ما لم يظهر الإسلام ؛ وأيضا فإن العدالة إنما تعتبر في الشهادة التي يستحق بها على الغير فلا يحكم بها للتهمة .

والفاسق إنما ردت شهادته في الحقوق للتهمة ، واللعان لا تبطله التهمة ، فلم يجب اعتبار الفسق في سقوطه ؛ وأما الأعمى فإنه من أهل الشهادة كالبصير لا فرق بينهما ، إلا أن شهادته غير مقبولة في الحقوق لأن بينه وبين المشهود عليه حائلا ، وليس شرط شهادة اللعان أن يقول : ( رأيتها تزني ) ؛ إذ لو قال : ( هي زانية ولم أر ذلك ) لاعن ، فلما لم يحتج إلى الإخبار عن معاينة المشهود به لم يبطل لعانه لأجل عماه .

وقد روي في معنى مذهب أصحابنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار ، منها ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا أحمد بن داود السراج قال : حدثنا الحكم بن موسى قال : حدثنا عتاب بن إبراهيم عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أربع من النساء ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة : اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحرة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر

وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا أحمد بن حمويه بن سيار قال : حدثنا أبو سيار التستري قال : حدثنا الحسن بن إسماعيل عن مجالد المصيصي قال : أخبرنا حماد بن خالد عن معاوية بن صالح عن صدقة أبي توبة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أربع ليس بينهن ملاعنة : اليهودية والنصرانية تحت المسلم والمملوكة تحت الحر والحرة تحت المملوك .

فإن قيل : اللعان إنما يجب في نفي الولد لئلا يلحق به نسب ليس منه وذلك موجود في الأمة وفي الحرة قيل له : لما دخل في نكاح الأمة لزمه حكمه ، ومن حكمه أن لا ينتفي منه نسب ولدها كما لزمه حكمه في رق ولده

التالي السابق


الخدمات العلمية