الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
نفي الولد

قال أبو حنيفة : ( إذا ولدت المرأة فنفى ولدها حين يولد أو بعده بيوم أو يومين لاعن وانتفى الولد ، وإن لم ينفه حين يولد حتى مضت سنة أو سنتان ثم نفاه لاعن ولزمه الولد ) ، ولم يوقت أبو حنيفة لذلك وقتا ، ووقت أبو يوسف ومحمد مقدار النفاس أربعين ليلة ؛ وقال أبو يوسف : ( إن كان غائبا فقدم فله أن ينفيه فيما بينه وبين مقدار النفاس منذ قدم ما كان في الحولين ، فإن قدم بعد خروجه من الحولين لم ينتف أبدا ) .

وقال هشام : سألت محمدا عن أم ولد لرجل جاءت بولد والمولى شاهد فلم يدعه ولم ينكره ، فقال : ( إذا مضى أربعون يوما من يوم ولدته فإنه يلزمه وهي بمنزلة الحرة ) ، قال : قلت : فإن كان المولى غائبا فقدم وقد أتت له سنون ؟ فقال محمد : ( إن كان الابن نسب إليه حتى عرف به فإنه يلزمه ) وقال محمد : ( وإن لم ينسب إليه وقال هذا لم أعلم بولادته فإن سكت أربعين يوما من يوم قدم لزمه الولد ) . وقال مالك : ( إذا رأى الحمل فلم ينفه حين وضعته لم ينتف بعد ذلك وإن نفاه حرة كانت أو أمة ، فإن انتفى منه حين ولدته وقد رآها حاملا فلم ينتف منه فإنه يجلد الحد لأنها حرة مسلمة فصار قاذفا لها ، وإن كان غائبا عن الحمل وقدم ثم ولدته فله أن ينفيه ) .

وقال الليث فيمن أقر بحمل امرأته ثم قال بعد ذلك رأيتها تزني : ( لاعن في الرؤية ويلزمه الحمل ) . وقال [ ص: 141 ] الشافعي : ( إذا علم الزوج بالولد فأمكنه الحاكم إمكانا بينا فترك اللعان لم يكن له أن ينفيه كالشفعة ) ، وقال في القديم : ( إن لم ينفه في يوم أو يومين لم يكن له أن ينفيه ) .

قال أبو بكر : ليس في كتاب الله عز وجل ذكر نفي الولد ، إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نفي الولد باللعان إذا قذفها بنفي الولد ؛ حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر : أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال : جاء هلال بن أمية من أرضه عشيا ، فوجد عند أهله رجلا ، وذكر الحديث إلى آخر ذكر اللعان ، قال : ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب .

قال أبو بكر : وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا نفى ولدها أنه يلاعن ويلزم الولد أمه وينتفي نسبه من أبيه ، إلا أنهم اختلوا في وقت نفي الولد على ما ذكرنا ، وفي خبر ابن عمر الذي ذكرنا في أن رجلا انتفى من ولدها فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالأم دليل على أن نفي ولد زوجته من قذف لها لولا ذلك لما لاعن بينهما ؛ إذ كان اللعان لا يجب إلا بالقذف ، وأما توقيت نفي الولد فإن طريقه الاجتهاد وغالب الظن فإذا مضت مدة قد كان يمكنه فيها نفي الولد وكان منه قبول للتهنئة أو ظهر منه ما يدل على أنه غير ناف له لم يكن له بعد ذلك أن ينفيه عند أبي حنيفة ، وتحديد الوقت ليس عليه دلالة فلم يثبت ، واعتبر ما ذكرنا من ظهور الرضا بالولد ونحوه .

فإن قيل : لما لم يكن سكوته في سائر الحقوق رضا بإسقاطها كان كذلك نفي الولد .

قيل له : قد اتفق الجميع على أن السكوت في ذلك إذا مضت مدة من الزمان بمنزلة الرضا بالقول ، إلا أنهم اختلفوا فيها ، وأكثر من وقت فيها أربعين يوما ، وذلك لا دليل عليه ، وليس اعتبار هذه المدة بأولى من اعتبار ما هو أقل منها . وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن الأربعين هي مدة أكثر النفاس ، وحال النفاس هي حال الولادة ، فما دامت على حال الولادة قبل نفيه .

وهذا ليس بشيء ؛ لأن نفي الولد لا تعلق له بالنفاس . وأما قول مالك : ( إنه إذا رآها حاملا فلم ينتف منه ثم نفاه بعد الولادة فإنه يجلد الحد ) فإنه قول واه لا وجه له من وجوه :

أحدها : أن الحمل غير متيقن فيعتبر نفيه ، والثاني : أنه ليس بآكد ممن ولدت امرأته ولم يعلم بالحمل فعلم به وسكت زمانا يلزمه الولد ، وإن نفاه بعد ذلك [ ص: 142 ] لاعن ولم ينتف نسب الولد منه ؛ إذ لم تكن صحة اللعان متعلقة بنفي الولد ولم يكن منه إكذاب لنفسه بعد النفي ، فكيف يجوز أن يجلد وأيضا قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم الآية ، فأوجب اللعان بعموم الآية على سائر الأزواج فلا يخص منه شيء إلا بدليل ، ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه من ذلك على وجوب الحد وسقوط اللعان

التالي السابق


الخدمات العلمية