الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب استئذان المماليك والصبيان استئذان المماليك والصبيان قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم الآية .

روى ليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر وسفيان عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن : ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم قالا : ( هو في النساء خاصة والرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار ) .

قال أبو بكر : أنكر بعضهم هذا التأويل ، قال : لأن النساء لا يطلق فيهن ( الذين ) إذا انفردن ، وإنما يقال : ( اللائي ) كما قال تعالى : واللائي يئسن من المحيض

قال أبو بكر : هذا يجوز إذا عبر بلفظ المماليك ، كما أن النساء إذا عبر عنهن بالأشخاص ؛ وكذلك جائز أن تذكر الإناث إذا عبر عنهن بلفظ المماليك دون النساء ودون الإماء ؛ لأن التذكير والتأنيث يتبعان اللفظ كما تقول : ( ثلاث ملاحف ) فإذا عبرت بالأزر ذكرت فقلت : ( ثلاثة أزر ) فالظاهر أن المراد الذكور والإناث من المماليك وليس العبيد ؛ لأن العبيد مأمورون بالاستئذان في كل وقت ما يوجب الاقتصار بالأمر في العورات الثلاث على الإماء دونهم ؛ إذ كانوا مأمورين في سائر الأوقات ، ففي هذه الأوقات الثلاثة أولى أن يكونوا مأمورين به .

حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا ابن السرح والصباح بن سفيان وابن عبدة وهذا حديثه قال : أخبرنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال : سمعته يقول : ( لم يؤمر بها أكثر الناس آية الإذن ، وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي ) .

وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبي قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا : يا ابن عباس كيف ترى هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد ، قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات الآية ، إلى قوله : عليم حكيم ؟ قال ابن عباس : ( إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر ، وكان الناس ليس لبيوتهم ستر ولا حجاب فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله ، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات ، فجاءهم [ ص: 192 ] الله بالستور والخير فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد ) .

قال أبو بكر : وفي بعض ألفاظ حديث عباس هذا ، وهو حديث سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو : " فلما أتى الله بالخير واتخذوا الستور والحجاب رأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به " فأخبر ابن عباس أن الأمر بالاستئذان في هذه الآية كان متعلقا بسبب ، فلما زال السبب زال الحكم . وهذا يدل على أنه لم ير الآية منسوخة ، وأن مثل ذلك السبب لو عاد لعاد الحكم وقال الشعبي أيضا إنها ليست بمنسوخة .

وهذا نحو ما فرض الله تعالى من الميراث بالموالاة بقوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فكانوا يتوارثون بذلك ، فلما أوجب التوارث بالنسب جعل ذوي الأنساب أولى من مولى الموالاة ، ومتى فقد النسب عاد ميراث المعاقدة والولاء .

وقال جابر بن زيد في قوله : ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ( أبناؤهم الذين عقلوا ولم يبلغوا الحلم من الغلمان والجواري يستأذنون على آبائهم قبل صلاة الفجر وحين يقيلون ويخلون وبعد صلاة العشاء وهي العتمة فإذا بلغوا الحلم استأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ، إخوانهم إذا كانوا رجالا ونساء لا يدخلون على آبائهم إلا بإذن ساعة يدخلون أي ساعة كانت ) .

وروى ابن جريج عن مجاهد : ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم قال : ( عبيدكم ) والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات قال : ( من أحراركم ) ؛ وروي عن عطاء مثله .

وأنكر بعضهم هذا التأويل ؛ لأن العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته ، فكيف يجمع إلى الصبيان الذين هم غير مكلفين قال : فالأظهر أن يكون المراد العبيد الصغار والإماء وصغارنا الذين لم يبلغوا الحلم . وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : ( ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم ) . وقال سعيد بن جبير والشعبي : ( هذا مما تهاون به الناس وما نسخت ) . وقال أبو قلابة : " ليس بواجب وهو كقوله تعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم " . وقال القاسم بن محمد : ( يستأذن عند كل عورة ، ثم هو طواف بعدها ) ؛ يعني أنه يستأذن عند أوقات الخلوة والتفضل في الثياب وطرحها وهو طواف بعدها ؛ لأنها أوقات الستر ، ولا يستطيع الخادم والغلام والصبي الامتناع من الدخول كما قال صلى الله عليه وسلم في الهرة : إنها من الطوافين عليكم والطوافات يعني أنه لا يستطاع الامتناع منها . وروي أن رجلا قال لعمر : أستأذن على أمي ؟ قال : نعم ؛ وكذلك قال ابن عباس وابن مسعود

[ ص: 193 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية