الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة : إذا اختلفوا في مسألتين على قولين : فقالت طائفة في كل من المسألتين [ ص: 524 ] قولا ، وقالت الأخرى في كل منهما أيضا قولا ، ثم قام دليل عن نص على صحة قول أحديهما في إحدى المسألتين ، فهل يدل على صحة قولها في المسألة الأخرى أم لا ؟ اختلف في هذه المسألة داود وابنه ، فصار داود إلى أنه دليل على ذلك ، ومنعه ابنه . هكذا قال ابن حزم في الإحكام . ثم قال : ويقول ابنه : لأنه لو صح ما قاله داود لكانت الطائفة التي قام النص على صحة قولها في مسألة واحدة مصيبة في جميع مذاهبها ولا يقول به أحد . نعم إن صح إجماع الأمة يقينا على أن حكم المسألتين سواء ، ثم قام نص على صحة حكم ما في إحدى المسألتين ، فقد صح بلا شك أن حكم الأخرى كذلك ، والفرق أن المسألتين الأوليين لم يحفظ عنهم فيهما تسوية بين المسألتين ، بخلاف الثاني . ثم مثل المسألة بالمساقاة . فمنهم من منعها جملة ، ومنهم من أباحها جملة ، ومن مبيح لها في النخل والعنب خاصة ، ومانع لها في سواهما ، فلما صح القول بإباحتها ، وبطل إبطالها ، نظرنا في المساقاة بالثلث والربع ، فوجدنا الأمة مجمعة على أن حكم المساقاة على النصف كحكمها على جزء مسمى ، أي جزء كان ، وكذلك المزارعة ، الناس فيها على قولين : الإباحة والحظر ، فلما قام الدليل على صحتها ، نظرنا في المزارعة على النصف سواء ، وكل من تكلم في هذين الحكمين فقد أجمل ، فلما جاء النص بإباحة المساقاة والمزارعة على النصف ، وصح الإجماع على أن حكم المساقاة والمزارعة على جزء مسمى كحكمها على النصف ، صحت المزارعة على كل جزء مسمى . [ ص: 525 ]

                                                      فائدة [ معنى قولهم : هذا لا يصح بالإجماع ] إذا قلنا : هذا لا يصح بالإجماع احتمل أمرين . أحدهما : الإجماع على نفي الصحة . والثاني : نفي الإجماع على الصحة ، والثاني أعم من الأول ، فلا يلزم من نفي الإجماع على الصحة ، نفي الصحة ، لجواز أن يكون الحكم مختلفا فيه ، فهو صحيح على رأي . فالإجماع على الصحة منتف ، لكن هي غير منتفية مطلقا ، بل ثابتة على ذلك الرأي ، بخلاف الإجماع على نفي الصحة ، فإنه يقتضي نفيها مطلقا ، فإذا قلنا : الوضوء بدون مسح الرأس لا يصح بالإجماع ، كان هذا إجماعا على نفي الصحة ، وإذا قلنا : الوضوء بدون استيعاب الرأس بالمسح لا يصح بالإجماع ، كان هذا نفيا للإجماع على الصحة ، لا لحقيقة الصحة مطلقا ; لأن ذلك يصح عند أبي حنيفة والشافعي . والمثير لهذه المباحثة أن بعض الفضلاء رأى شافعيا قد توضأ ، ومسح بعض رأسه ، فمازحه ، وقال له : وضوءك هذا لا يصح بالإجماع ، فغضب من ذلك ، وقال تزعم أن الشافعي ليس بمعتبر القول . قال : لا وقال : كلامك يقتضي ذلك ، فبين له هذه النكتة فزال غضبه . وحاصله : أن المنفي هاهنا هو الصحة المطلقة ، أو المقيدة بكونها مجمعا عليها . فإن أريد الأول فهو إجماع على النفي ، وإن أريد الثاني فهو نفي الإجماع .

                                                      وحاصله من جهة العربية أن موضع الإجماع نصب ، لكن هو على التمييز أو الحال ؟ إن قلنا : على التمييز فهو إجماع على نفي الصحة ، إذ تقديره لا [ ص: 526 ] يصح إجماعا إذ التمييز رفع الإبهام عن الذات ، ونفي الصحة هنا يحتمل أنه إجماعي أو خلافي ، فبقولنا : إجماع ، رفعنا ذلك الإبهام ، وقلنا : إن نفي الصحة إجماعية ، وإن قلنا على الحال ، فهو نفي الإجماع على الصحة ، لا لنفي الصحة ; لأن الحال نعت للفاعل ، فتقديره هذا لا يصح مجمعا عليه ، ونفي الصفة لا يستلزم نفي الموصوف .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية