الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 7 ] ( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما بين أن الجنة معدة للمتقين ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الإنسان من اكتساب الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات .

                                                                                                                                                                                                                                            فالصفة الأولى : قوله : ( الذين ينفقون في السراء والضراء ) وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المعنى أنهم في حال الرخاء واليسر والقدرة والعسر لا يتركون الإنفاق ، وبالجملة فالسراء هو الغنى ، والضراء هو الفقر . يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة ، وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها تصدقت بحبة عنب .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن المعنى أنهم سواء كانوا في سرور أو في حزن أو في عسر أو في يسر فإنهم لا يدعون الإحسان إلى الناس .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : المعنى أن ذلك الإحسان والإنفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم ، أو ساءهم بأن كان على خلاف طبعهم فإنهم لا يتركونه ، وإنما افتتح الله بذكر الإنفاق ؛ لأنه طاعة شاقة ولأنه كان في ذلك الوقت أشرف الطاعات لأجل الحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الثانية : قوله تعالى : ( والكاظمين الغيظ ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : يقال : كظم غيظه إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل قال : المبرد تأويله أنه كتم على امتلائه منه ، يقال : كظمت السقاء إذا ملأته وسددت عليه ، ويقال : فلان لا يكظم على جرته إذا كان لا يحتمل شيئا ، وكل ما سددت من مجرى ماء أو باب أو طريق فهو كظم ، والذي يسد به يقال له الكظامة والسدادة ، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض كظامة ، لامتلائها بالماء كامتلاء القرب المكظومة ، ويقال : أخذ فلان بكظم فلان إذا أخذ بمجرى نفسه ؛ لأنه موضع الامتلاء بالنفس ، وكظم البعير كظوما إذا أمسك على ما في جوفه ولم يجتر ، ومعنى قوله : ( والكاظمين الغيظ ) الذين يكفون غيظهم عن الإمضاء يردون غيظهم في أجوافهم ، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم وهو كقوله : ( وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) [الشورى : 37] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا " وقال عليه السلام : لأصحابه " تصدقوا " فتصدقوا بالذهب والفضة والطعام ، وأتاه الرجل بقشور التمر فتصدق به ، وجاءه آخر فقال : والله ما عندي ما أتصدق به ، ولكن أتصدق بعرضي فلا أعاقب أحدا بما يقوله في حديثه ، فوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوم ذلك الرجل وفد ، فقال عليه السلام : " لقد تصدق منكم رجل بصدقة ولقد قبلها الله منه تصدق بعرضه " وقال عليه السلام : " من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء " وقال عليه السلام : " ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء ، ومن جرعة غيظ كظمها " وقال عليه السلام " ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب " .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 8 ] الصفة الثالثة : قوله تعالى : ( والعافين عن الناس ) قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا ، فنهي المؤمنون عن ذلك وندبوا إلى العفو عن المعسرين .

                                                                                                                                                                                                                                            قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين : ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم ) [البقرة : 280] ويحتمل أن يكون كما قال في الدية : ( فمن عفي له من أخيه شيء ) [البقرة : 178] إلى قوله : ( وأن تصدقوا خير لكم ) [البقرة : 280] ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مثلوا بحمزة وقال : " لأمثلن بهم " فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة ، فكان تركه فعل ذلك عفوا ، قال تعالى : في هذه القصة ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) [النحل : 126] قال صلى الله عليه وسلم : " لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ، ويعفو عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه " وروي عن عيسى ابن مريم صلوات الله عليه : ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ، ذلك مكافأة ، إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( والله يحب المحسنين ) فاعلم أنه يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون ، وأن تكون للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الإحسان إلى الغير إما أن يكون بإيصال النفع إليه أو بدفع الضرر عنه . أما إيصال النفع إليه فهو المراد بقوله : ( الذين ينفقون في السراء والضراء ) ويدخل فيه إنفاق العلم ، وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين ، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا ، وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الإساءة بإساءة أخرى ، وهو المراد بكظم الغيظ ، وإما في الآخرة وهو أن يبرئ ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة ، وهو المراد بقوله تعالى : ( والعافين عن الناس ) فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير ، ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال : ( والله يحب المحسنين ) فإن محبة الله للعبد أعم درجات الثواب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية