الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي [ ص: 159 ] وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " ويجادل الذين كفروا بالباطل " قال ابن عباس: يريد: المستهزئين والمقتسمين وأتباعهم، وجدالهم بالباطل أنهم ألزموه أن يأتي بالآيات على أهوائهم ; " ليدحضوا به الحق " ; أي: ليبطلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل: جدالهم: قولهم: أإذا كنا عظاما ورفاتا [ الإسراء: 49 ]، أإذا ضللنا في الأرض [ السجدة: 10 ]، ونحو ذلك ليبطلوا به ما جاء في القرآن من ذكر البعث والجزاء . قال أبو عبيدة: ومعنى " ليدحضوا " : ليزيلوا ويذهبوا، يقال: مكان دحض ; أي: مزل لا يثبت فيه قدم ولا حافر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " واتخذوا آياتي " يعني: القرآن . " وما أنذروا " ; أي: خوفوا به من النار والقيامة، " هزوا " ; أي: مهزوءا به .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " ومن أظلم " قد شرحنا هذه الكلمة في ( البقرة: 114 ) . و " ذكر " بمعنى: وعظ . وآيات ربه: القرآن، وإعراضه عنها: تهاونه بها . " ونسي ما قدمت يداه " ; أي: ما سلف من ذنوبه، وقد شرحنا ما بعد هذا في ( الأنعام: 21 ) إلى قوله: وإن تدعهم إلى الهدى وهو الإيمان والقرآن، " فلن يهتدوا " هذا إخبار عن علمه فيهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " وربك الغفور ذو الرحمة " إذ لم يعاجلهم بالعقوبة . " بل لهم [ ص: 160 ] موعد " للبعث والجزاء، " لن يجدوا من دونه موئلا " قال الفراء: الموئل: المنجى، وهو الملجأ في المعنى ; لأن المنجى ملجأ، والعرب تقول: إنه ليوائل إلى موضعه ; أي: يذهب إلى موضعه، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      لا واءلت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم



                                                                                                                                                                                                                                      يريد: لا نجت نفسك، وأنشد أبو عبيدة للأعشى:


                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخالس رب البيت غفلته     وقد يحاذر مني ثم ما يئل



                                                                                                                                                                                                                                      أي: ما ينجو . وقال ابن قتيبة: الموئل: الملجأ، يقال: وآل فلان إلى كذا: إذا لجأ .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: ظاهر هذه الآية يقتضي أن تأخير العذاب عن الكفار برحمة الله، ومعلوم أنه لا نصيب لهم في رحمته ؟

                                                                                                                                                                                                                                      فعنه جوابان: أحدهما: [ أن ] الرحمة هاهنا بمعنى النعمة، ونعمة الله لا يخلو منها مؤمن ولا كافر . فأما الرحمة التي هي الغفران والرضى، فليس للكافر فيها نصيب . والثاني: أن رحمة الله محظورة على الكفار يوم القيامة، فأما في الدنيا فإنهم ينالون منها العافية والرزق .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " وتلك القرى " يريد: التي قصصنا عليك ذكرها، والمراد: أهلها ; ولذلك قال: " أهلكناهم " والمراد: قوم هود وصالح، ولوط وشعيب . قال الفراء: قوله: " لما ظلموا " معناه: بعدما ظلموا . [ ص: 161 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " وجعلنا لمهلكهم " قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام . قال الزجاج: وفيه وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن يكون مصدرا، فيكون المعنى: وجعلنا لإهلاكهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن يكون وقتا، فالمعنى: لوقت هلاكهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم واللام، وهو مصدر مثل الهلاك . وقرأ حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام، ومعناه: لوقت إهلاكهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية