الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( فائدة ) : قال ابن عبد السلام : لما ذكر كراهة المصبوغ لمن يقتدى به ، ولهذا قال غير واحد من أهل المذهب وغيرهم إن العالم المقتدى به يترك من المباح ما يشبه الممنوع مما لا يفرق بينهما إلا العلماء لئلا يقتدي به في ذلك من لا يعرفه ، وإن لم يلزم غيره الكف عنه انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : والظاهر أن أمر العالم بالكف عن ذلك أمر ندب لا إيجاب كما يفهم من هذه المسألة ، والله أعلم ، وقال في المدونة : ولا بأس أن يحرم الرجل في البركانات والطيالسة الكحلية وفي ألوان جميع الثياب إلا المعصفر المفدم الذي ينتفض ، وما صبغ بالورس والزعفران ، فإن مالكا كرهه ، ولم يكره شيئا من الصبغ غيره ، ثم قال : ولا بأس بالمورد والممشق ، ولا بأس بالإحرام في الثياب الهروية إن كان صبغها بغير الزعفران ، وإن كان بالزعفران ، فلا يصلح انتهى والبركانات بفتح الموحدة وتشديد الراء قال في التنبيهات مثل الأكسية وأهل اللغة يقولون ثوب بركاني انتهى .

                                                                                                                            وقال سند البركان كساء أسود مربع من ناعم الصوف يجوز لبسه ، والإحرام فيه إجماعا انتهى .

                                                                                                                            والطيالسة جمع طيلسان بفتح اللام قال في الصحاح والعامة تقول طيلسان بكسر اللام قال : والطاء في الطيالسة للعجمة أنه فارسي معرب انتهى . وقال في القاموس إنه مثلث اللام وعن عياض وغيره : أنه معرب أصله تالسان ويقال فيه : طالسان وطيلس قاله كراع ولم يفسره في الصحاح وكأنه معرب وقال المطرزي : في المغرب هو من لباس العجم مدور أسود ، ومنه قولهم في الشتم يا ابن الطيلسان يريد أنك أعجمي انتهى والثياب الهروية ثياب من رقيق القطن يصفر سدادها بالزعفران ، أو الكمون ونحوه ، فتأتي إلى الصفرة ، فكرهها لقوله عليه الصلاة والسلام { لا تلبسوا شيئا مسه الزعفران } ، وهذا مسه الزعفران ، فإن وقع نظرت إلى الثوب ، فإن كان ريح الزعفران فيه تعلقت بلبسه الفدية ، وإن لم يظهر ريحه فيه بوجه كان مكروها أما غير الزعفران والورس والعصفر من المشق والبقم والفوه وسائر المصبغات ، فلا فدية فيه انتهى ، وقال قبله ، وسئل ابن القاسم عن الإحرام في عصب اليمن وسائر الألوان فقال : لم يكن مالك يكره شيئا ما خلا الورس والزعفران والمعصفر والمفدم الذي ينتفض قال [ ص: 150 ] سند : العصب ثياب قطن مرتفعة فيها خطوط مصبوغة ، وهي الحبرة تصبغ باليمن ليس فيها ورس ولا زعفران انتهى .

                                                                                                                            وقال في التوضيح : قال الباجي : وأما المورد بالعصفر والمصبوغ بالمغرة ، أو المشق ابن المواز والأصفر بغير زعفران ، ولا ورس ، فليس بممنوع لبسه للمحرم ; لأنه ليس فيه طيب ، ولا يفعل غالبا إلا إبقاء للثوب ، فيكره للإمام ، ومن يقتدى به أن يفعله لئلا يلبس على من لا يعرف فيقتدي به في لبس المصبوغ الممنوع لبسه رواه أشهب ومحمد انتهى . ثم ذكر بعد ذلك أن المذهب كراهة ما صبغ من الأصفر بغير زعفران ولا ورس لمن يقتدى به ، ثم قال بعد ذلك : قال في الاستذكار : ولم يختلف في جواز لبس المصبوغ بالمدر ، ثم قال بعده خليل : يريد في حق من لا يقتدى به ، ثم اعترض على ابن راشد في حمله قول ابن الحاجب بخلاف المورد والممشق لا غير على المشهور على أنه مراده أن المورد والممشق يجوز الإحرام فيهما ، ولا يلحق بهما غيرهما من الألوان على المشهور بل الإحرام فيما عداهما مكروه ; ولأن المستحب أن يحرم في البياض فقال : ليست تمشيته بجيدة ; لأنه لا يختلف في جواز المصبوغ بالمدر على ما نقل ابن عبد البر ولا يكره الإحرام في غيرهما كما نص عليه ابن الجلاب واللخمي ، وغيرهما انتهى .

                                                                                                                            . ولفظ ابن الجلاب ، ولا بأس أن يلبس الثياب السود والكحليات والدكن والخضر وتقدم لفظ اللخمي ، وقوله لا يختلف في جواز المصبوغ بالمدر يريد في حق من لا يقتدى به كما تقدم في كلامه ، وقال ابن عبد السلام المذهب جواز المورد والممشق مع كراهته لمن يقتدى به انتهى .

                                                                                                                            وقوله في التوضيح ، ولا يكره الإحرام في غيرهما يريد وإن كان خلاف الأفضل ; لأن الأفضل البياض كما تقدم ، وبهذا يقيد قوله في المدونة ، ولا بأس بالمورد والممشق فيقال يريد في حق من لا يقتدى به ، ويقيد قوله : ولا بأس بالإحرام في جميع الألوان إلخ فيقال يريد أن ذلك جائز وإن كان خلاف الأولى ; لأن البياض أفضل والله أعلم .

                                                                                                                            وظاهر كلام التلمساني أن المصبوغ يكره لبسه للمقتدى به مطلقا سواء أشبه لونه لون المصبوغ بالطيب ، أو لم يشبه ، فإنه قال الجائز : من المصبوغ ما لا يكون صباغه من ناحية الطيب كالأخضر والأزرق ، وما أشبه ذلك ، فيجوز للعامة ويكره لمن يقتدى به انتهى ونحوه للقرافي في شرح الجلاب فتحصل من هذا أن البياض أفضل من كل شيء وأن المصبوغ بغير طيب ، ولا يشبه لون صبغه لون المصبوغ بالطيب جائز لمن يقتدى به ، ولمن لا يقتدى به من غير كراهة لكنه خلاف الأولى إلا على ظاهر التلمساني المتقدم والقرافي وأن المصبوغ بغير طيب ولكنه يشبه لون صبغه لون المصبوغ بالطيب ، والمصبوغ بالطيب إذا غسل حتى ذهب منه ريح الطيب ، وبقي لونه يكره لمن يقتدى به ، ويجوز لغير من يقتدى به ، وأن المصبوغ بالطيب حرام ، فإذا علم ذلك ، فتعين تقييد كلام المصنف بما قيدناه به ، وأن المراد بقوله مصبوغ المصبوغ بغير طيب إذا كان لون صباغه يشبه لون المصبوغ بغير طيب وكأن المصنف استغنى عن التقييد بغير الطيب بما سيذكره من أن استعمال الطيب في الإحرام حرام ، واستعمال الثوب المطيب كاستعمال الطيب واستغنى عن التقييد بكون لون صباغه يشبه لون المصبوغ بالطيب ، فإن ذلك يفهم من التفريق بين من يقتدى به ، ومن لا يقتدى به ، فإن قيل لم لا يحمل كلام المصنف على عمومه من كراهة المصبوغ مطلقا ; لأنه خلاف الأولى ; لأن الأفضل البياض ، وخلاف الأولى لا بد فيه من كراهة ( قلت ) : يمنع من ذلك تقييده الكراهة بمن يقتدى به إلا أنه موافق لظاهر كلام التلمساني والقرافي ، فحاصله أن الإحرام في غير البياض خلاف المستحب في حق كل أحد فتأمله والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثالث ) قال ابن الحاج : وجميع الألوان واسع [ ص: 151 ] قال في التوضيح : يعني بالتوسعة الإباحة ، والمذهب استحباب البياض انتهى .

                                                                                                                            هكذا في النسخ التي وقفت عليها من التوضيح والظاهر أنه سقطت منه لفظة لا من أوله ليوافق قوله بعده : والمذهب استحباب البياض ويوافق كلام ابن عبد السلام فإنه قال : لا يريد بالتوسعة الإباحة مطلقا ، فإن المذهب استحباب البياض ، ويقع في بعض النسخ جائز بدل واسع ، ولفظة واسع هنا أنسب انتهى . ونحوه لابن فرحون والله أعلم .

                                                                                                                            ( الرابع ) : قال ابن فرحون : تعقب صاحب التوضيح كلام ابن راشد بقوله في الاستذكار لم يختلف في جواز لبس المصبوغ بالمدر ، وما قاله صاحب التوضيح غير ظاهر ; لأن المصبوغ بالمدر هو الممشق ، فيكون موافقا لما قاله المؤلف نعم كلام ابن راشد مشكل من جهة قوله الإحرام فيما عداهما مكروه ، وفي الجلاب لا بأس أن يلبس الثياب السود والكحليات والدكن والخضر ، فقد نفى الكراهة عن هذه الألوان ، وظاهر كلام ابن راشد أنه يجوز الإحرام في المورد والممشق بلا كراهة مطلقا ، والمذهب أن الممشق مكروه للإمام ومن يقتدى به انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : كلام ابن فرحون يقتضي أن المصنف في التوضيح إنما تعقب كلام ابن راشد من جهة كونه مخالفا لكلام ابن عبد البر فقط ، وليس كذلك ، فقد تقدم أنه تعقبه بوجهين : مخالفته لكلام ابن عبد البر بالوجه الذي ذكره ابن فرحون فتأمله وإنما تعقب صاحب التوضيح كلام ابن راشد لكونه مخالفا لكلام ابن عبد البر ; لأنه فهم أن قوله على المشهور يعود إلى جواز الإحرام في الممشق والمورد ، وإلى كراهة الإحرام في غيرهما ، فاقتضى ذلك أن في الإحرام في الممشق خلافا ، وهو مخالف لقول ابن عبد البر لم يختلف في جوازه ، فظهر حينئذ الاعتراض على كلام ابن راشد فتأمله والله أعلم .

                                                                                                                            ( الخامس ) : كلام الشارح في الأوسط يقتضي أن الباجي أطلق في كراهة المصبوغ لمن يقتدى به سواء كان المصبوغ مما فيه دلسة بالمصبوغ بالطيب أم لا ، والذي تقدم في كلامه الذي نقله المصنف في التوضيح يقتضي أن الكراهة إنما هي فيما فيه دلسة فتأمله ، ثم قال الشارح : بعد أن ذكر عن الباجي ما قدمناه عن ابن عبد البر ، ولا خلاف أنه لا يجوز انتهى ، وهو مشكل ; لأنه يقتضي أن ابن عبد البر قال في المصبوغ بغير طيب : إنه لا يجوز لبسه فإن الشارح قيد كلام المصنف بالمصبوغ بغير طيب وابن عبد البر إنما قال : لا خلاف أنه لا يجوز للمحرم لبسه في المصبوغ بالطيب كما تقدم في كلام المصنف في التوضيح ، ولعله سقط من كلام الشارح شيء وأن أصله ، وأما ما صبغ بطيب فقال ابن عبد البر إلخ . ويؤيد ذلك أنه قال في الشرح الصغير : أي ويكره للإمام ، ومن يقتدى به لبس ثوب صبغ بما عدا الورس والزعفران ، وأما ما صبغ بالورس والزعفران ، فإنه ممنوع انتهى فتأمله ، وهذا المحل من الشرح الكبير لم يوجد فيه شيء ، فكتب فيه كلامه في الأوسط

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية