الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 252 ] فصل

[ الإقالة ]

الإقالة جائزة ، وتتوقف على القبول في المجلس ، وهي فسخ في حق المتعاقدين ( سم ) بيع جديد في حق ثالث ( ز ) ، وهلاك المبيع يمنع صحة الإقالة ، وهلاك بعضه يمنع بقدره ، وهلاك الثمن لا يمنع .

التالي السابق


فصل

( الإقالة جائزة ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " من أقال نادما بيعته أقال الله عثرته يوم [ ص: 253 ] القيامة " ولأن للناس حاجة إليها كحاجتهم إلى البيع فتشرع ، ولأنها ترفع العقد فصارت كالطلاق مع النكاح .

( وتتوقف على القبول في المجلس ) لأنها بمنزلة البيع لما فيها من معنى التمليك ، وتصح بلفظين يعبر بأحدهما عن المستقبل لأنها لا يحضرها السوم غالبا كالنكاح . وقال محمد : لا بد من لفظين ماضيين لأنها تمليك بعوض كالبيع ، وجوابه ما مر ، ولا تصح إلا بلفظ الإقالة ، فلو تقايلا بلفظ البيع كان بيعا بالإجماع ، لأن الإقالة تنبئ عن الرفع ، والبيع عن الإثبات فتتنافيا; ولا تبطل بالشروط الفاسدة عند أبي حنيفة ، وتبطل عند أبي يوسف .

قال : ( وهي فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق ثالث ) عند أبي حنيفة ، فإن تعذر جعلها فسخا بطلت . وقال أبو يوسف : بيع جديد في حق الكل ، فإن تعذر ففسخ ، فإن لم يمكن بطل . وقال محمد : فسخ ، فإن تعذر فبيع ، فإن لم يمكن بطل . وقال زفر : فسخ في حق المتعاقدين وغيرهما ، وصورته : لو تقايلا قبل القبض فهو فسخ بالإجماع ، ويبطل شرط الزيادة والنقصان ، أما عندهما فظاهر ، وكذا عند أبي يوسف لأنه تعذر جعله بيعا إلا في العقار حيث يجوز بيعه قبل القبض عنده . ولو تقايلا بعد القبض فهو فسخ عند أبي حنيفة ، ويلزمه الثمن الأول جنسا ووصفا وقدرا ، ويبطل ما شرطه من الزيادة والنقصان والتأجيل والتغيير ، لأن الإقالة رفع فيقتضي رفع الموجود ، والزيادة لم تكن فلا ترفع إلا إذا حدث بالمبيع عيب ، فيجوز بأقل من الثمن الأول ، لأن النقصان في مقابلة العيب ، ولو حدثت الزيادة في المبيع كالولد ونحوه بعد القبض بطلت الإقالة عنده لتعذر الفسخ بسبب الزيادة ، وعند أبي يوسف الإقالة جائزة بما سميا كالبيع الجديد ، وحدوث الزيادة بعد القبض لا يمنع ذلك . وعند محمد إن سكت أو سمى الثمن الأول أو أقل أو دخله عيب فهو فسخ ، أما إذا سمى الأقل فلأنه سكوت عن البعض ، ولو سكت عن الكل كان فسخا فكذا عن البعض ، وأما إذا ذكر الثمن الأول فظاهر ، وأما إذا دخله عيب فلما مر .

وإن سميا أكثر أو خلاف الجنس أو حدثت الزيادة فهو بيع جديد لتعذر الفسخ . وجه قول محمد أنه فسخ بصيغته ، لأن الإقالة تنبئ عن الرفع ، ومنه : أقلني عثرتي بمعنى الرفع والإزالة ، [ ص: 254 ] وفيه معنى البيع لكونه مبادلة المال بالمال ، فإذا أمكن العمل بالصيغة يعمل بها وإلا يعمل بالمعنى ، فإذا سكت أو سمى الثمن الأول أو أقل منه أو دخله عيب فقد أمكن العمل بالصيغة لما بينا .

ولأبي يوسف أنه بيع لأنه مبادلة المال بالمال عن تراض فيعمل به إلا إذا تعذر فيعمل بالصيغة ، وإنما يتعذر عنده في الإقالة في المنقول قبل القبض على ما تقدم .

ولأبي حنيفة أن الإقالة تنبئ عن الفسخ والإزالة لما بينا ، فلا تحتمل معنى آخر نفيا للاشتراك ، والأصل العمل بحقيقة اللفظ ، فإذا تعذر لا يجعل بيعا مبتدأ لأنه ضد الرفع فيبطل .

وأما كونه بيعا في حق ثالث وهو الشفيع ، فصورته : باع دارا فسلم الشفيع الشفعة ثم تقايل البائع والمشتري ، فللشفيع الشفعة خلافا لزفر ، لأن ما هو فسخ في حقهما فهو فسخ في حق غيرهما كالرد بخيار الشرط . وجوابه أن الإقالة نقل ملك بإيجاب وقبول بعوض مالي وهو سبب وجوب الشفعة ، وهما عبرا عنه بالإقالة لإسقاط حقه ، ولا يملكان ذلك ، وكذا لو وهبه شيئا وقبضه فباعه الموهوب له ثم تقايلا ، ليس للواهب الرجوع ويصير الموهوب له كالمشتري .

قال : ( وهلاك المبيع يمنع صحة الإقالة ) لأن الفسخ يقتضي قيام البيع وهو ببقاء المبيع .

( وهلاك بعضه يمنع بقدره ) لقيام البيع في الباقي .

( وهلاك الثمن لا يمنع ) لقيام البيع بدونه ، وإن تقايضا فهلاك أحدهما لا يمنع الإقالة ، لأن كل واحد منهما مبيع ، فيكون البيع قائما ، ويرد قيمة الهالك أو مثله ؛ لأنه إذا انفسخ في الباقي ينفسخ في الهالك ضرورة ، وقد عجز عن رده فيرد عوضه ، ولو هلك العوضان لا تصح الإقالة وتصح لو هلك البدلان في الصرف ، والفرق أن العقد يتعلق بالعين في العروض دون الأثمان فكذا في الإقالة ، والله أعلم .




الخدمات العلمية