الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر نزول بني قريظة على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورده الأمر إلى سعد بن معاذ - رضي الله عنه -

            فلما جهدهم الحصار ، نزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم بأسراهم فكتفوا رباطا ، وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة ، ونحوا ناحية ، وأخرجوا النساء والذرية من الحصون فكانوا ناحية واستعمل عليهم عبد الله بن سلام ، وجمعت أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث والثياب ، ووجدوا فيها ألفا وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع ، وألفي رمح ، وألفا وخمسمائة ترس وحجفة وأثاثا كثيرا ، وآنية كثيرة ، وخمرا ، وجرارا ، وسكرا فهريق ذلك كله . ولم يخمسه ووجد من الجمال النواضح عدة ، ومن الماشية شيئا كثيرا ، فجمع هذا كله .

            وتنحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلس وتواثبت الأوس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله حلفاؤنا دون الخزرج ، وقد رأيت ما صنعت ببني قينقاع بالأمس حلفاء ابن أبي وهبت له ثلاثمائة حاسر ، وأربعمائة دارع . وقد ندم حلفاؤنا على ما كان من نقضهم العهد فهبهم لنا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكت لا يتكلم حتى أكثروا عليه وألحوا ونطقت الأوس كلها ،

            فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم» ؟ قالوا :

            بلى . قال : «فذلك إلى سعد بن معاذ »
            .

            وقال ابن عقبة : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «اختاروا من شئتم من أصحابي»

            فاختاروا سعد بن معاذ ، فرضي بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم
            - وسعد يومئذ في المسجد بالمدينة ، في خيمة كعيبة بنت سعيد - بالتصغير فيهما - الأسلمية ، وكانت تداوي الجرحى وتلم الشعث ، وتقوم على الضائع الذي لا أحد له ، وكان لها خيمة في المسجد ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل سعد بن معاذ فيها ليعوده من قريب فلما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم إلى سعد خرجت الأوس حتى جاءوه فحملوه على حمار بأعرابي بشندة من ليف وعلى الحمار قطيفة فوق الشندة ، وخطامه من ليف ، وكان رجلا جسيما ، فخرجوا حوله يقولون : يا أبا عمرو ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ولاك أمر مواليك لتحسن فيهم ، فأحسن فقد رأيت ابن أبي وما صنع في حلفائه ، وأكثروا من هذا وشبهه ، وهو لا يتكلم ، حتى إذا أكثروا عليه قال سعد : قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم ، فقال الضحاك بن خليفة بن ثعلبة بن عدي بن كعب بن عبد الأشهل الأنصاري : وا قوماه! وقال غيره منهم نحو ذلك ثم رجع الضحاك إلى الأوس فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد ، عن كلمته التي سمع منه ، وأقبل سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم والناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس ، فلما طلع سعد بن معاذ -

            وفي الصحيحين - فلما دنا من المسجد : أي الذي كان فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعده ببني قريظة أيام حصارهم - للصلاة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «قوموا إلى سيدكم»
            وفي لفظ «خيركم»

            فأما المهاجرون من قريش فإنما يقولون : إنما أراد الأنصار ، وأما الأنصار فيقولون : قد عمم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين ، وعند الإمام أحمد «قوموا إلى سيدكم» فأنزلوه ، وكان رجال من بني عبد الأشهل يقولون : قمنا له على أرجلنا صفين ، يحييه كل رجل منا حتى انتهى إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

            وفي حديث جابر - رضي الله عنه : عند ابن عائذ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : - احكم فيهم يا سعد ، فقال : الله ورسوله أحق بالحكم . قال : «قد أمرك الله أن تحكم فيهم» .

            وقالت الأوس الذين بقوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يا أبا عمرو : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ولاك الحكم في أمر مواليك فأحسن فيهم ، واذكر بلاءهم عندك ، فقال سعد : أترضون حكمي لبني قريظة ؟ قالوا :

            نعم ، قد رضينا بحكمك ، وأنت غائب عنا ، اختيارا منا لك ، ورجاء أن تمن علينا كما فعل غيرك بحلفائه بني قينقاع ، وأثرنا عندك أثرنا ، وأحوج ما كنا اليوم إلى مجازاتك . فقال سعد : ما آلوكم جهدا ، فقالوا : ما يعني بقوله هذا ؟ ثم قال سعد : عليكم عهد الله وميثاقه ، أن الحكم فيهم ما حكمت ؟ قالوا : نعم ،

            ثم قال سعد للناحية التي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معرض عنها إجلالا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى من ها هنا مثل ذلك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه :

            «نعم»

            قال سعد : فإني أحكم فيهم أن يقتل كل من جرت عليه الموسى ، وتسبى النساء والذرية ، وتقسم الأموال وتكون الديار للمهاجرين دون الأنصار . فقالت الأنصار . إخواننا كنا معهم ، فقال : أحببت أن يستغنوا عنكم»

            فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات
            .

            وذكر ابن إسحاق في غير رواية البكائي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حكم سعد : «بذلك طرقني الملك سحرا» ،

            وكان سعد بن معاذ في الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم

            رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعا فقال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أقاتلهم من قوم كذبوا رسولك آذوه وأخرجوه ، وإن كانت الحرب قد وضعت أوزارها عنا وعنهم فاجعلها لي شهادة ، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة ، فأقر الله تعالى عينه منهم . فائدة في حكم من نقض العهد وأقر به الباقون فصل

            وكان هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا صالح قوما فنقض بعضهم عهده ، وصلحه ، وأقرهم الباقون ، ورضوا به ، غزا الجميع ، وجعلهم كلهم ناقضين ، كما فعل بقريظة ، والنضير ، وبني قينقاع ، وكما فعل في أهل مكة ، فهذه سنته في أهل العهد ، وعلى هذا ينبغي أن يجري الحكم في أهل الذمة كما صرح به الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم ، وخالفهم أصحاب الشافعي ، فخصوا نقض العهد بمن نقضه خاصة دون من رضي به وأقر عليه ، وفرقوا بينهما بأن عقد الذمة أقوى وآكد ، ولهذا كان موضوعا على التأبيد ، بخلاف عقد الهدنة والصلح .

            والأولون يقولون : لا فرق بينهما ، وعقد الذمة لم يوضع للتأبيد ، بل بشرط استمرارهم ودوامهم على التزام ما فيه ، فهو كعقد الصلح الذي وضع للهدنة بشرط التزامهم أحكام ما وقع عليه العقد ، قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت عقد الصلح والهدنة بينه وبين اليهود لما قدم المدينة ، بل أطلقه ما داموا كافين عنه ، غير محاربين له ، فكانت تلك ذمتهم ، غير أن الجزية لم يكن نزل فرضها بعد ، فلما نزل فرضها ، ازداد ذلك إلى الشروط المشترطة في العقد ، ولم يغير حكمه وصار مقتضاها التأبيد ، فإذا نقض بعضهم العهد ، وأقرهم الباقون ، ورضوا بذلك ، ولم يعلموا به المسلمين ، صاروا في ذلك كنقض أهل الصلح ، وأهل العهد والصلح سواء في هذا المعنى ، ولا فرق بينهما فيه ، وإن افترقا من وجه آخر يوضح هذا أن المقر الراضي الساكت إن كان باقيا على عهده وصلحه ، لم يجز قتاله ولا قتله في الموضعين ، وإن كان بذلك خارجا عن عهده وصلحه راجعا إلى حاله الأولى قبل العهد والصلح ، لم يفترق الحال بين عقد الهدنة وعقد الذمة في ذلك ، فكيف يكون عائدا إلى حاله في موضع دون موضع ، هذا أمر غير معقول . توضيحه : أن تجدد أخذ الجزية منه ، لا يوجب له أن يكون موفيا بعهده مع رضاه ، وممالأته ومواطأته لمن نقض ، وعدم الجزية يوجب له أن يكون ناقضا غادرا غير موف بعهده ، هذا بين الامتناع .

            فالأقوال ثلاثة : النقض في الصورتين ، وهو الذي دلت عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكفار ، وعدم النقض في الصورتين ، وهو أبعد الأقوال عن السنة ، والتفريق بين الصورتين ، والأولى أصوبها ، وبالله التوفيق .

            وبهذا القول أفتينا ولي الأمر لما أحرقت النصارى أموال المسلمين بالشام ودورهم ، وراموا إحراق جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته ، وكاد - لولا دفع الله - أن يحترق كله ، وعلم بذلك من علم من النصارى ، وواطئوا عليه وأقروه ورضوا به ، ولم يعلموا ولي الأمر ، فاستفتى فيهم ولي الأمر من حضره من الفقهاء ، فأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك ، وأعان عليه بوجه من الوجوه ، أو رضي به ، وأقر عليه ، وأن حده القتل حتما ، لا تخيير للإمام فيه كالأسير بل صار القتل له حدا ، والإسلام لا يسقط القتل إذا كان حدا ممن هو تحت الذمة ، ملتزما لأحكام الله بخلاف الحربي إذا أسلم ، فإن الإسلام يعصم دمه وماله ، ولا يقتل بما فعله قبل الإسلام ، فهذا له حكم ، والذمي الناقض للعهد إذا أسلم له حكم آخر ، وهذا الذي ذكرناه هو الذي تقتضيه نصوص الإمام أحمد وأصوله ، ونص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ، وأفتى به في غير موضع .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية