الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1934 - مسألة : ومن قال لامرأته : أنت علي حرام ، أو زاد على ذلك فقال : كالميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، أو ما قال من ذلك ، فهو كله باطل وكذب ، ولا تكون بذلك عليه حراما ، وهي امرأته كما كانت - نوى بذلك طلاقا أو لم ينو .

                                                                                                                                                                                          وقد اختلف الناس في هذا ، فقال علي ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر : هي بذلك القول طالق ثلاثا - وهو قول الحسن ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى - وروي عن الحكم بن عتيبة .

                                                                                                                                                                                          وقول آخر - أنها بذلك حرام عليه - ولم يذكروا طلاقا ، صح هذا عن علي بن أبي طالب ، وعن رجال لم يسموا من الصحابة - رضي الله عنهم - وعن أبي هريرة - وصح عن الحسن ، وخلاس بن عمرو ، وجابر بن زيد ، وقتادة : أنهم أمروه باجتنابها فقط .

                                                                                                                                                                                          وقول ثالث - روي عن ابن مسعود : إن كان نوى في التحريم الطلاق وإلا فهو يمين - وهو قول الحسن ، وطاوس ، والشافعي ، والزهري .

                                                                                                                                                                                          وقول رابع - رويناه عن إبراهيم قال : كان أصحابنا يقولون في الحرام : إن نوى ثلاثا فهي ثلاث ، وإن نوى واحدة فهي واحدة بائنة - وهو قول سفيان ، إلا أنه قال : وإن نوى يمينا فهي يمين ، وإن لم ينو شيئا فهي كذب لا شيء فيها .

                                                                                                                                                                                          وقول خامس - عن إبراهيم : إن نوى واحدة أو لم ينو شيئا فهي واحدة بائنة ، وإن نوى ثلاثا فثلاث - وقد روينا من طريق وكيع عن الحسن بن حي عن المغيرة عن إبراهيم : وإن نوى اثنتين فهي اثنتان .

                                                                                                                                                                                          وقول سادس - هو طلقة واحدة : رويناه عن عمر - وبه يقول حماد بن أبي سليمان .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 303 ] وقول سابع - وهو أنه ظهار ، فيه كفارة الظهار - صح ذلك عن ابن عباس من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال في الحرام ، والنذر : عتق رقبة ; أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الرجل إذا قال : حرام علي أن آكل ، أو قال : هذا الطعام علي حرام ؟ قال : يعتق رقبة ، أو يصوم شهرين متتابعين ، أو يطعم ستين مسكينا - وهو قول أبي قلابة ، وسعيد بن جبير ، ووهب بن منبه - وهو قول عثمان البتي ، وأحمد بن حنبل .

                                                                                                                                                                                          وقول ثامن - وهو أن التحريم يمين فيه كفارة يمين .

                                                                                                                                                                                          ثم اختلف هؤلاء : فقالت طائفة منهم : هي يمين مغلظة ليس فيها إلا عتق رقبة - روينا ذلك عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                          وقال آخرون : هي يمين فقط ، كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير ، وأيوب السختياني ، كلاهما عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال : هي يمين يعني التحريم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا المقدمي نا حماد بن زيد عن صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال : الحرام يمين - : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية القرشي نا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي نا أبو الوليد الطيالسي نا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن هبيرة عن قبيصة بن ذؤيب قال : سألت زيد بن ثابت وابن عمر عمن قال لامرأته : أنت علي حرام ؟ فقالا جميعا كفارة يمين .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أن ابن مسعود قال في التحريم : هي يمين يكفرها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم نا زهير بن حرب نا إسماعيل بن إبراهيم عن هشام الدستوائي قال : كتب إلي يحيى بن أبي كثير يحدث عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الحرام يمين يكفرها . [ ص: 304 ] وروي أيضا ذلك عن أبي بكر الصديق .

                                                                                                                                                                                          وعائشة أم المؤمنين - وهو قول عكرمة ، وعطاء روينا ذلك من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء : من قال لامرأته : أنت علي حرام ؟ قال : يمين قال ابن جريج فقلت له : وإن كان أراد الطلاق ؟ قال : قد علم مكان الطلاق ، قال عطاء : ولو قال : أنت علي كالدم ، أو كلحم الخنزير ؟ قال عطاء : هو كقوله : أنت علي حرام ، وهو قول مكحول ، وقتادة ، كقول عطاء في كل ما ذكرناه

                                                                                                                                                                                          ومن طريق قتادة عن الحسن أنه قال : كل حلال علي حرام ، فهي يمين - وبهذا كان يفتي قتادة - وهو قول الشعبي .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب قال : الحرام يمين يكفرها - وهو قول سليمان بن يسار ، وجابر بن زيد ، وسعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الحجاج بن المنهال نا جرير بن حازم قال : سألت نافعا مولى ابن عمر عن الحرام أطلاق هو ؟ قال : لا ، أوليس قد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته فأمره الله عز وجل أن يكفر يمينه ولم يحرمها عليه .

                                                                                                                                                                                          وروي عن طاوس أيضا فهو قول الأوزاعي ، وأبي ثور .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن الحسن أنه قال : هو في غير الزوجة يمين .

                                                                                                                                                                                          وقول تاسع - وهو التوقف ، كما روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان نا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : يقول رجال في الحرام : هي حرام حتى تنكح زوجا غيره ، ولا والله ما قال ذلك علي ، إنما قال علي : ما أنا بمحلها ولا بمحرمها عليك ، إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر . وقول عاشر - عن أبي حنيفة فإنه قال : إذا قال لامرأته : أنت علي حرام ، فإن نوى طلقة واحدة ، أو طلقتين ، أو طلاقا دون عدد ، فهو في كل ذلك طلقة واحدة بائنة ، لا أكثر ، فإن نوى ثلاثا فهي ثلاث ، فإن نوى يمينا فهي يمين فيه كفارة يمين ، فإن لم ينو شيئا فهو إيلاء فيه حكم الإيلاء ، فإن نوى الكذب صدق في الفتيا ، ولم يكن شيئا ، [ ص: 305 ] ولا ينوي في القضاء ، بل يكون إيلاء ولا بد ، ولا يكون ذلك ظهارا أصلا ، سواء نواه وقال ذلك ، أو لم ينوه ولا قاله . وقول حادي عشر - قاله مالك ، وهو أنه من قال لامرأته : أنت علي حرام ، فإن كان مدخولا بها فهي ثلاث طلقات لا ينوي في ذلك ، فإن كانت غير مدخول بها فإنه ينوي ، فإن قال نويت واحدة فهي واحدة ، وإن قال : نويت اثنتين فهي اثنتان ، وإن قال : نويت ثلاثا فهي ثلاث - قال : فإن قال ذلك لغير امرأته فليس بشيء ، سواء قال ذلك لأمته ، أو لطعام - قال : فلو قال : كل حل علي حرام : لم يحرم عليه بذلك شيء إلا زوجته فقط ، فإن قال : استثنيت نسائي ، أو امرأتي في نفسي ، صدق في ذلك . وقول ثاني عشر - ليس التحريم بشيء ، لا في الزوجة ولا في غيرها ، ولا يقع بذلك طلاق أصلا ، ولا إيلاء ، ولا ظهار ; ولا تحريم ; ولا تجب في ذلك كفارة أصلا . كما روينا من طريق البخاري نا الحسن بن الصباح سمع الربيع بن نافع نا معاوية - هو ابن سلام - عن يحيى بن أبي كثير عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يقول : إذا حرم امرأته ليس بشيء ، لكم في رسول الله أسوة حسنة . ومن طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق قال : ما أبالي حرمت امرأتي أو قصعة من ثريد . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن صالح بن مسلم عن الشعبي أنه قال في تحريم المرأة : لهي أهون علي من نعلي . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني عبد الكريم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال : ما أبالي حرمتها - يعني امرأته - أو حرمت ماء النهر . ومن طريق الحجاج بن المنهال نا همام بن يحيى أنا قتادة أن رجلا جعل امرأته عليه حراما ، فسأل عن ذلك حميد بن عبد الرحمن الحميري ؟ فقال له حميد : قال الله عز وجل : { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } وأنت رجل تلعب ، فاذهب فالعب . وهو قول أبي سليمان ، وجميع أصحابنا . [ ص: 306 ] قال أبو محمد : أما قول مالك ، وأبي حنيفة ، فما نعلم أحدا قبلهما قال بما قالا من تقسيم ما قسماه ، مع أنه لا يؤيد قولهما قرآن ، ولا سنة صحيحة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه ، وما يدري أحد وجه التفريق بين تحريم الزوجة ، وبين تحريم الأمة ، وغيرها - والأمة تحرم بالعتق كما تحرم الزوجة بالطلاق ، وكما يحرم المتاع بالصدقة به ، وببيعه ، وقد تحل المطلقة ثلاثا بعد زوج ، فهلا قالوا بتحريمها في الأبد ، كما قالوا في الناكح في العدة يدخل بها ، فكان يكون قد أتم في التحريم . وكذلك لا يعلم أحد وجه التفريق بين تحريم الزوجة التي أحلها الله عز وجل ، وبين تحريم الطعام الذي أحله الله تعالى - وقد سوى بين الأمرين عطاء ، وغيره . وأطرف شيء تفريقهم بين المدخول بها وغير المدخول بها ، وحجتهم في ذلك : أن التي لم يدخل بها تبينها الواحدة ؟ فقلنا لهم : والمدخول بها عندكم أيضا تبينها الواحدة البائنة ، فما الفرق ؟ إن هذا لعجب - وكذلك قول أبي حنيفة : إن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة وإن نوى ثلاثا فهي ثلاث - واحتجوا في ذلك بأن الطلاق البائن لا يرتدف على الطلاق البائن ، ونسوا قولهم : إن الخلع طلاق بائن ، وأنه إن طلقها في عدتها لحقتها طلقة أخرى بائنة ، فاعجبوا لتناقضهم ؟ ، وكذلك قوله : إن نوى إيلاء ; أو لم ينو شيئا فهو إيلاء ، وإن نوى الظهار لم يكن ظهارا ، ليت شعري . من أين خرج هذا الفرق . وكذلك قول الشافعي : إن نوى طلاقا فهو طلاق ، وإن نوى إيلاء لم يكن إيلاء ، وإن نوى ظهارا لم يكن ظهارا - وهذا فرق لا يعرف وجهه . فإن قيل : للظهار ، وللإيلاء ألفاظ لا يكونان إلا بها ؟ . قلنا : وللطلاق لفظ لا يكون إلا به . فإن قالوا : قد يكون الطلاق بغير لفظ الطلاق ؟ قلنا : وقد يكون الظهار عندكم بغير ظهر الأم ، وقد يكون الإيلاء عندكم بغير ذكر الألية - بالله تعالى ولا فرق . [ ص: 307 ] قال أبو محمد : وسائر الأقوال الموجبة للطلاق ، ولليمين ، وللظهار ، وللإيلاء : كلها أقوال لم تأت في نص قرآن ، ولا في سنة ، ولا حجة في سواهما ، بل وجدنا الله تعالى يقول : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } فأنكر الله تعالى تحريم ما أحله له ، والزوجة مما أحل الله : فتحريمها منكر ، والمنكر مردود ، لا حكم له إلا التوبة والاستغفار . وقال عز وجل : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } فمن قال لامرأته - الحلال له بحكم الله عز وجل هي حرام ، فقد كذب وافترى ، ولا تكون عليه حراما بقوله ، لكن بالوجه الذي حرمها الله تعالى به - صح عن رسول الله أنه قال : { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } فتحريم الحلال إحداث حدث ليس في أمر الله عز وجل فوجب أن يرد . ولا فرق بين قول القائل : امرأتي علي حرام ، وبين قوله : امرأة زيد لي حلال . ولا فرق بين من حرم على نفسه لحم الكبش ، وبين من أحل لنفسه لحم الخنزير . فصح أن التحريم باطل ، ولا حكم للباطل إلا إبطاله والتوبة منه وبالله تعالى التوفيق . وكذلك قوله لها : أنت علي كالميتة والدم ولحم الخنزير وكل ذلك كذب بل هي حلال كالماء ، ولا تكون حراما بهذا القول وبالله تعالى نتأيد .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية