الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون

                                                                                                                                                                                                                                      الطيبات : هي المستلذات مما أحله الله لعباده ، نهى الذين آمنوا عن أن يحرموا على أنفسهم شيئا منها ، إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله وتقربا إليه ، وأنه من الزهد في الدنيا لرفع النفس عن شهواتها ، أو لقصد أن يحرموا على أنفسهم شيئا مما أحله لهم كما يقع من كثير من العوام من قولهم : حرام علي وحرمته على نفسي ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني . قال ابن جرير الطبري : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح ، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم التبتل على عثمان بن مظعون .

                                                                                                                                                                                                                                      فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده ، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه ، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنه لأمته ، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون ، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم . فإذا كان ذلك كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله ، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال : فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة . فقد ظن خطأ ، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها ، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الردية; لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ولا تعتدوا أي : لا تعتدوا على الله بتحريم طيبات ما أحل الله لكم ، أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله عليكم; أي : تترخصوا فتحللوا حراما كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال . وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرم على نفسه شيئا مما أحله الله له فلا يحرم عليه ولا يلزمه كفارة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما : إن من حرم شيئا صار محرما عليه ، وإذا تناوله لزمته الكفارة ، وهو خلاف ما في هذه الآية وخلاف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، ولعله يأتي في سورة التحريم ما هو أبسط من هذا إن شاء الله . وقوله : إن الله لا يحب المعتدين تعليل لما قبله ، وظاهره أن تحريم كل اعتداء; أي : مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلوا مما رزقكم الله حال كونه حلالا طيبا أي : غير محرم ولا مستقذر ، أو أكلا حلالا طيبا ، أو كلوا حلالا طيبا مما رزقكم الله ، ثم وصاهم الله سبحانه بالتقوى فقال : واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون . وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوة ، وإني حرمت علي اللحم ، فنزلت : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم وقد روي من وجه آخر مرسلا ، وروي موقوفا على ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال : نزلت في رهط من الصحابة قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني . وقد ثبت نحو هذا في الصحيحين وغيرهما من دون ذكر أن ذلك سبب نزول الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في المراسيل وابن جرير عن أبي مالك أن هؤلاء الرهط : هم عثمان بن مظعون وأصحابه ، وفي الباب روايات كثيرة بهذا المعنى ، وكثير منها مصرح بأن ذلك سبب نزول الآية . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم رجع إلى أهله ، فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له ، فقال لامرأته : حبست ضيفي من أجلي هو حرام علي ، فقالت امرأته : هو حرام علي فقال الضيف : هو حرام علي ، فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا بسم الله ، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد أصبت فأنزل الله : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم وهذا أثر منقطع ، ولكن في صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه ما هو شبيه بهذا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال : كنا عند عبد الله فجيء بضرع ، فتنحى رجل ، فقال له عبد الله : ادن ، فقال : إني حرمت أن آكله ، فقال عبد الله : ادن فاطعم وكفر عن يمينك ، وتلا هذه الآية . وأخرجه أيضا الحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية