الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وأما الذهب فلا يحل للرجال استعماله لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحرير والذهب { إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها } ولا فرق في الذهب بين القليل والكثير ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التختم بالذهب ، فحرم الخاتم مع قلته ، ولأن السرف في الجميع ظاهر فإن كان في الثوب ذهب قد صدئ وتغير بحيث لا يبين لم يحرم لبسه .

                                      لأنه ليس فيه سرف ظاهر ، فإن كان له درع منسوجة بالذهب أو بيضة مطلية بالذهب ، فأراد لبسها في الحرب - فإن وجد ما يقوم مقامه - لم يجز ، وإن لم يجد وفاجأته الحرب جاز ; لأنه موضع ضرورة فإن اضطر إلى [ ص: 326 ] استعمال الذهب جاز لما روي { أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب } ويحل للنساء لبس الحرير ولبس الحلي من الذهب لحديث علي رضي الله عنه ) .

                                      [ ص: 331 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث علي رضي الله عنه حديث حسن رواه أبو داود من رواية علي إلا قوله : { حل لإناثها } رواه البيهقي وغيره من رواية عقبة بن عامر بلفظه في المهذب وهو حديث حسن يحتج به وحديث النهي عن التختم بالذهب ثابت في الصحيحين من رواية البراء بن عازب ومن رواية أبي هريرة ; وحديث عرفجة حسن رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بأسانيد حسنة ، وسبق بيانه وشرحه في باب الآنية ، وسقط هذا الحديث ومسألته في بعض النسخ وهما موجودان في معظمها ، وقوله صلى الله عليه وسلم { إن هذين حرام } أي حرام استعمالهما والحل - بكسر الحاء - بمعنى الحلال ، يقال : حل وحلال وحرم وحرام بمعنى ، وفي الخاتم أربع لغات فتح التاء وكسرها ; وخاتام وخيتام ويقال صدئ يصدأ بالهمزة فيهما كبرئ من الدين يبرأ .

                                      قال أهل اللغة : صدأ الحديد وغيره وسخه مهموز ، وقد صدئ يصدأ فاضبطه فقد رأيت من يغلط فيه فيتوهمه غير مهموز ، ودرع الحديد مؤنثة على اللغة المشهورة ، وفي لغة قليلة تذكيرها ، ودرع المرأة مذكر لا غير ، المطلية - بفتح الميم وإسكان الطاء - بمعنى المموهة ، والحرب مؤنثة ، وفي لغة شاذة مذكرة قوله : مقامه - بفتح الميم الأولى - قال أهل اللغة : يقال قام الشيء مقام غيره بفتح الميم ، وأقمته مقامه بالضم ، فاجأته بهمزة بعد الجيم أي بغتة ، والكلاب - بضم الكاف - وسبق بيانه في الآنية .

                                      إما أحكام الفصل ففيه مسائل ( إحداها ) : أجمع العلماء على تحريم استعمال حلي الذهب على الرجال للأحاديث الصحيحة السابقة وغيرها ، واتفق أصحابنا على تحريم قليله وكثيره كما ذكره المصنف ، ولو كان الخاتم فضة ، وفيه سن من ذهب أو فص حرم بالاتفاق للحديث ، هكذا قطع به الأصحاب ، ونقلوا الاتفاق عليه ، وقال إمام الحرمين : لا يبعد تشبهه بالضبة الصغيرة في الإناء ، وهذا الذي قاله شاذ ضعيف ، والفرق أن [ ص: 327 ] الشرع حرم استعمال الذهب ، ومن لبس هذا الخاتم يعد لابس ذهب ، وهناك حرم إناء الذهب والفضة ، وهذا ليس بإناء ( الثانية ) : لو كان الخاتم فضة وموهه بذهب ، أو موه السيف وغيره من آلات الحرب أو غيرها بذهب - فإن كان تمويها يحصل منه شيء ، إن عرض على النار - فهو حرام بالاتفاق ، وإن لم يحصل منه شيء فطريقان ( أصحها ) وبه قطع العراقيون : يحرم للحديث ( والثاني ) : فيه وجهان حكاهما البغوي وسائر الخراسانيين أو جمهورهم ( أحدهما ) : يحرم ( والثاني ) : يحل ; لأنه كالعدم .



                                      ( الثالثة ) : يجوز لمن ذهب أنفه أو سنه أو أنملته أن يتخذ مكانها ذهبا سواء أمكنه فضة وغيرها أم لا ، وهذا متفق عليه ، ويجوز له شد السن ، والأنملة ونحوهما بخيط ذهب ; لأنه أقل من الأنف المنصوص عليه



                                      وهل لمن ذهبت إصبعه أو كفه أو قدمه أن يتخذها من ذهب أو فضة ؟ فيه طريقان ( أصحهما ) : لا يجوز وبه قطع البغوي وغيره ( والثاني ) : فيه وجهان حكاه القاضي حسين في تعليقه ، وسبقت المسألة في باب الآنية مستوفاة



                                      ( الرابعة ) : إذا كانت درع منسوجة بذهب أو بيضة مطلية به أو جوشن متخذ منه ونحوها حرم لبسه على الرجل في غير مفاجأة الحرب ، ويحرم حال مفاجأة أيضا إن وجد ما يقوم مقامه ، فإن لم يجد وفاجأته الحرب جاز للضرورة .

                                      وهذا التفصيل نص عليه الشافعي في الأم ، واتفق عليه الأصحاب ، قال في الأم : سواء كانت كلها منسوجة أو بعضها ، وكذا قاله الأصحاب



                                      ( الخامسة ) : حيث حرمنا استعمال الذهب المراد به : إذا لم يصدأ فإن صدئ بحيث لم يبن لم يحرم ، هكذا قطع به المصنف والشيخ أبو حامد والبندنيجي وآخرون من أصحابنا ، وقال القاضي أبو الطيب : الذهب لا يصدأ فلا تتصور المسألة ، وأجابوا عن هذا بأن منه ما يصدأ ومنه ما لا يصدأ ، ويقال : الذي يخالطه غيره يصدأ والخالص لا يصدأ



                                      . ( السادسة ) : يجوز للنساء لبس الحرير والتحلي بالفضة وبالذهب [ ص: 328 ] بالإجماع للأحاديث الصحيحة وهل يجوز لهن الجلوس على الحرير فيه طريقان ( أحدهما ) : يجوز وجها واحدا ، وبه قطع المصنف في باب ستر العورة وسائر العراقيين في كتبهم ، ونقله إمام الحرمين عنهم .

                                      وقطع به المتولي من الخراسانيين لقوله صلى الله عليه وسلم { حل لإناثها } .

                                      ( والثاني ) : فيه وجهان حكاهما الخراسانيون ( أحدهما ) : هذا ( وأصحهما ) عندهم التحريم ، وبه قطع البغوي والشيخ نصر المقدسي وصححه الرافعي والشيخ أبو عمرو ; لأنه أبيح لهن لبسه للتزين للزوج ، وهو منتف هنا ، والأصح المختار : الجواز للحديث ، ولا نسلم أن إباحته لمجرد التزين للزوج ، إذ لو كان كذلك لاختص بذات الزوج ، وأجمعوا أنه لا يختص



                                      ( فرع ) كل حلي حرمناه على الرجل حرمناه على الخنثى المشكل ، وكذلك الحرير .

                                      هذا هو المذهب وبه قطع الأكثرون ، منهم القاضي أبو الفتح وصاحب التهذيب والبيان والرافعي وغيرهم ، وأشار المتولي إلى أنه يجوز له لبس حلي الرجال والنساء ; لأنه كان له لبسهما في الصغر فيبقى ، وحكي في إباحته الحرير له احتمال ، وقياس المتولي جوازه والمذهب التحريم فيهما



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : يجوز للنساء لبس أنواع الحلي كلها من الذهب والفضة والخاتم والحلقة والسوار والخلخال والطوق والعقد [ ص: 329 - 330 ] والتعاويذ والقلائد وغيرها وفي جواز لبسهن نعال الذهب والفضة وجهان حكاهما الرافعي وغيره ( أصحهما ) : الجواز كسائر الملبوسات ( والثاني ) : التحريم للإسراف .

                                      وأما التاج فقال الرافعي قال أصحابنا : إن جرت عادة النساء بلبسه جاز وإلا حرم ; لأنه شعار عظماء الروم قال : وكأن معنى هذا أنه يختلف بعادة أهل النواحي فحيث جرت عادة النساء بلبسه جاز وحيث لم يجر حرم حذارا من التشبه بالرجال هذا نقل الرافعي ، والمختار بل الصواب الجواز من غير تردد لعموم الحديث ولدخوله في اسم الحلي .

                                      وفي الدراهم والدنانير التي تثقب وتجعل في القلادة وجهان حكاهما الرافعي وقال ( أصحهما ) : التحريم عليهن وليس كما قال بل ( أصحهما ) : الجواز لدخولهما في اسم الحلي ، قال وفي لبس الثياب المنسوجة بالذهب والفضة وجهان ( أصحهما ) : الجواز ; قلت : الصواب القطع بالجواز .

                                      قال : وذكر ابن عبدان أنه ليس لهن اتخاذ زر القميص والجبة والفرجية منهما ، قال الرافعي : لعله تفريع على الوجه الضعيف في لبس المنسوج بهما قلت : الصواب الجزم بالجواز . وما سواه باطل .

                                      قال : ثم كل حلي أبيح للنساء فذلك إذا لم يكن فيه سرف ظاهر فإن كان كخلخال وزنه مائتا دينار فوجهان ( الصحيح ) : الذي قطع به معظم العراقيين التحريم ، وممن حكى الوجهين فيه البغوي ، ووجه التحريم : أنه ليس بزينة وإنما هو قيد ; وإنما تباح الزينة ، ووجه الجواز أنه من جنس المباح فأشبه اتخاذ عدد من الخلاخيل ; قال الرافعي : ومثله إسراف الرجل في آلات الحرب ، قال : ولو اتخذ الرجل خواتيم كثيرة والمرأة خلاخيل كثيرة لتلبس الواحد منها بعد الواحد جاز على المذهب وبه قطع البغوي .

                                      وقيل : فيه الوجهان في الثقيل وليس بشيء



                                      [ ص: 331 ] فصل في التحلي بالفضة عادة أكثر الأصحاب ذكره في باب زكاة الذهب والفضة ، وأشار المصنف إلى بعض منه هناك والذي رأيته أن هذا الباب أنسب به .

                                      لا سيما ، وقد ذكر المصنف والأصحاب فيه ما سبق ، قال أصحابنا : يجوز للرجل خاتم الفضة بالإجماع ، وأما ما سواه من حلي الفضة كالسوار والمدملج والطوق ونحوها فقطع الجمهور بتحريمها ; وقال المتولي والغزالي في الفتاوى : يجوز ; لأنه لم يثبت في الفضة إلا تحريم الأواني ، وتحريم التشبه بالنساء ، والصحيح الأول ; لأن في هذا تشبها بالنساء وهو حرام .

                                      قال أصحابنا : ويجوز للرجل تحلية آلات الحرب بالفضة كالسيف والرمح وأطراف السهام والدرع والمنطقة والرانين والخفين وغيرها ; لأن فيه إرهاب العدو ، وفي تحلية السرج واللجام والشفر بالفضة وجهان : ( أصحهما ) : التحريم ونص عليه الشافعي في البويطي في رواية الربيع وموسى بن أبي الجارود ، قال الرافعي وأجروا هذا الخلاف في الركاب وبرة الناقة من الفضة ، قال : وقطع كثيرون بتحريم قلادة الدابة من فضة ، واتفقوا على أنه لا يجوز تحلية شيء مما ذكرناه بذهب ; قال : ويحرم على المرأة تحلية آلات الحرب بالذهب والفضة ; لأن في استعمالهن ذلك تشبها بالرجال ، ويحرم عليهن التشبه ، كذا قاله الأصحاب واعترض عليهم صاحب المعتمد بأن آلات الحرب إن قلتم : يجوز للنساء لبسها بلا تحلية جاز مع التحلية ; لأنها حلال لهن ، وإن قلتم : لا يجوز بلا تحلية للتشبه بالرجال فهو باطل ; لأن التشبه مكروه وليس بحرام ، ألا ترى أن الشافعي ، قال في الأم : ولا أكره للرجال لبس اللؤلؤ إلا للأدب ، وأنه من زي النساء لا للتحريم فلم يحرم زي النساء على الرجال بل كرهه فكذا عكسه ، ولأن المحاربة جائزة للنساء في الجملة ، وفي جوازها جواز لبس آلاتها [ ص: 332 ] قال الرافعي : وهذا الذي قاله صاحب المعتمد هو الحق إن شاء الله - تعالى - وليس كما قالا ، بل الصواب أن تشبه الرجال بالنساء وعكسه حرام للحديث الصحيح { لعن الله المتشبهين بالنساء من الرجال ، والمتشبهات من النساء بالرجال } وأما نصه في الأم فليس مخالفا لهذا ; لأن مراده أنه من جنس زي النساء لا أنه زي لهن ، مختص بهن لازم في حقهن .



                                      ( فرع ) في استعمال الذهب والفضة في غير اللبس أما الأواني منها فحرام وسبقت تفاريعه في باب الآنية ، وسبق هناك أنه يستوي في تحريم ذلك الرجال والنساء ، ويحرم اتخاذها على الأصح ، ولا يحرم استعمال الأواني من الياقوت وسائر الجواهر النفيسة على الأصح كما سبق ، ولو حلى شاة أو غزالا أو دجاجة أو غيرها بذهب أو فضة فحرام ، ذكره الدارمي وآخرون ، وفي تحلية سكاكين المهنة وسكين المقلمة بالفضة للرجال وجهان مشهوران ( أصحهما ) : التحريم ; لأنها ليست آلة حرب ( والثاني ) : الجواز ; لأنها ليست لباسا ، والمذهب تحريمها على النساء ، وبه قطع الأكثرون ، وقيل : فيه الوجهان كالرجل حكاه الرافعي وغيره .

                                      وفي تحلية المصحف بالفضة قولان حكاهما جماعة وجهين ( أصحهما ) : الجواز وهو نص الشافعي في القديم .

                                      وفي حرملة وغيره من الجديد إكراما للمصحف ( والثاني ) : التحريم ، وهو نصه في سير الواقدي من الجديد ، وفي تحليته بالذهب أربعة أوجه ( الأصح ) عند الأكثرين : جوازه في مصحف المرأة ، وتحريمه في مصحف الرجل ( الثاني ) : جوازه مطلقا ( والثالث ) : تحريمه مطلقا ( والرابع ) : تجوز حلية نفس المصحف دون غلافه المنفصل عنه وهو ضعيف .

                                      وأما تحلية سائر الكتب بذهب أو فضة فحرام بالاتفاق ; وأما تحلية الدواة والمقلمة والمقراض بالفضة فحرام على الأصح .

                                      وأشار الغزالي إلى طرد خلاف في سائر الكتب ، وفي تحلية الكعبة والمساجد بالذهب والفضة وتعليق قناديلها وجهان ( أصحهما ) : التحريم ; لأنه لم ينقل عن السلف مع أنه سرف ( والثاني ) : الجواز كما يجوز ستر الكعبة بالديباج بالاتفاق [ ص: 333 ] قال أصحابنا : وكل حلي حل لبعض الناس استعماله استحق صانعه الأجرة ووجب على كاسره أرشها وما لا يحل لأحد فحكم صنعته حكم صنعة الإناء ، وقد سبق وجهان في باب الآنية ( أصحهما ) : لا أجرة ولا أرش ( والثاني ) : ثبوتهما ، وهما مبنيان على جواز اتخاذه من غير استعمال والأصح تحريمه




                                      الخدمات العلمية