الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما حث سبحانه وتعالى على وجوه الخير ورغب في لزوم الهدى وكان أكثرهم معرضين، لأن ما دعا إليه هادم لما جبلوا عليه [ ص: 101 ] من الحب لتوفير المال والحفيظة على النفس، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الأسف عليهم دائم القلق من أجلهم لعظيم رحمته لهم وشفقته عليهم، فكان يجد من تقاعدهم عما يدعوهم إليه من هذه الحالة العلية التي هي حكمة الله التي رأسها الإيمان بالله واشتراء الآخرة بكلية الدنيا وجدا شديدا، خفض سبحانه وتعالى عليه الأمر وخفف عليه الحال فقال: ليس عليك أي عندك هداهم حتى تكون قادرا عليه، فما عليك إلا البلاغ، وأما خلق الهداية لهم فليس عليك ولا تقدر عليه ولكن الله الذي لا كفؤ له [هو] القادر على ذلك وحده فهو يهدي من يشاء فظهر من هذا أنه يتعين أن يكون عليك بمعنى عندك ومعك ونحو ذلك، لأن لكن للاستدراك وهو أن يكون حكم ما بعدها مخالفا لما قبلها وكلام أهل اللغة يساعد على ذلك، قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي: في حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما: كنت أضحي بالجذع وعلينا ألف شاة، معناه: وعندنا ألف شاة، تقول العرب: علينا كذا وكذا، أي مننا. فسره قاسم; انتهى. وهو يرجع إلى القدرة كما تقول: علي رضى فلان، أي أنا مطيق لذلك قادر على حمله، فالمعنى: [ ص: 102 ] لست تقدر على إيجاد الاهتداء فيهم أصلا وإنما ذلك إلى الله سبحانه وتعالى فهو يهدي من يشاء فيفعل ما يقدره سبحانه له من وجوه الهدى من نفقة وغيرها. قال الحرالي ما معناه: إن الأنصار رضي الله تعالى عنهم من أول مراد بهذه الجملة لأنه سبحانه وتعالى جعل فيهم نصرة دينه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المقصود الأعظم في هذه الحكمة وهذا الهدى إنما هو الهدى للتوسل إلى الجواد بالجود بالنفس والمال النائل عموما القريب والبعيد والمؤمن والكافر بمنزلة المطر الجود الذي يأخذ السهل والجبل حتى كان هذا الخطاب صارفا لقوم تحرجوا من الصدقة على فقراء الكفار وصلة قراباتهم منهم فحملوا على عموم الإنفاق. انتهى. فقال سبحانه وتعالى: وما تنفقوا من خير أي مال ومعروف على مؤمن أو كافر يحل فعل ذلك معه ولو قل "لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" فلأنفسكم كما قيل له صلى الله عليه وسلم عن شاة ذبحت: ذهبت أي بالهدية والصدقة إلا رقبتها! فقال: بقيت إلا رقبتها! فهو يفهم أنكم إن بخلتم أو مننتم فإنما تفعلون [ ص: 103 ] ذلك بأنفسكم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الكلام في النفقة مع المؤمنين [المنفقين] وفي سبيل الله وعبر عنها بالخير وكل ذلك إشارة إلى الإخلاص الحري بحال المؤمن فقال: وما أي والحال أنكم ما تنفقون إلا ابتغاء أي إرادة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان تذكر الوجه لما له من الشرف أدعى إلى الاجتهاد في تشريف العمل بإحسانه وإخلاصه قال: وجه الله أي الملك الأعظم من سد خلة فقير أو صلة رحم مسلم أو كافر تجوز الصدقة عليه لا لأنفسكم ولا غيرها بل تخلصا من إمساك المال بأداء الأمانة فيه إلى عباد الله لأنهم عباده، هذا هو الذي يدعو إليه الإيمان فلا يظن لمؤمن أن يفعل غيره وذلك يقتضي البعد جدا عن الأذى والرياء وكل نقيصة والملابسة لكل ما يوجب القبول من الكمال الحسي والمعنوي.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإيقان بالوفا مرغبا في الإحسان ومبعدا من الإساءة والامتنان خوفا من جزاء الملك الديان [قال] وما تنفقوا من خير [أي] على أي وجه كان وبأي وصف كان التصدق [ ص: 104 ] والمتصدق عليه يوف أي يبالغ في وفائه بالتضعيف واصلا إليكم وأنتم لا تظلمون أي لا يقع عليكم ظلم في ترك شيء مما أنفقتموه ولا في نقص مما وعدتموه من التضعيف إن أحسنتم والمماثلة إن أسأتم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية