الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ( 15 ) وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد 16 ( 16 ) )

اختلف أهل التأويل في المعني بالهاء التي في قوله : ( أن لن ينصره الله ) . [ ص: 580 ] فقال بعضهم : عنى بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فتأويله على قول بعض قائلي ذلك : من كان من الناس يحسب أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا والآخرة ، فليمدد بحبل ، وهو السبب إلى السماء : يعني سماء البيت ، وهو سقفه ، ثم ليقطع السبب بعد الاختناق به ، فلينظر هل يذهبن اختناقه ذلك ، وقطعه السبب بعد الاختناق ما يغيظ ، يقول : هل يذهبن ذلك ما يجد في صدره من الغيظ .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا نصر بن علي قال : ثني أبي ، قال : ثني خالد بن قيس عن قتادة : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ولا دينه ولا كتابه ، ( فليمدد بسبب ) يقول : بحبل إلى سماء البيت فليختنق به ( فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة : ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ) قال : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، ( فليمدد بسبب ) يقول : بحبل إلى سماء البيت ، ( ثم ليقطع ) يقول : ثم ليختنق ثم لينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ .

حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة بنحوه .

وقال آخرون ممن قال : الهاء في ينصره من ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم السماء التي ذكرت في هذا الموضع ، هي السماء المعروفة .

قالوا : معنى الكلام ما حدثني به يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ) فقرأ حتى بلغ ( هل يذهبن كيده ما يغيظ ) قال : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويكابد هذا الأمر ليقطعه عنه ومنه : فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه ، فإن أصله في السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء ، ثم ليقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه من الله ، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه ، فكايد ذلك حتى قطع أصله عنه . ( فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) ما دخلهم من ذلك ، وغاظهم الله به من نصرة النبي [ ص: 581 ] صلى الله عليه وسلم ، وما ينزل عليه . وقال آخرون ممن قال " الهاء " التي في قوله : ( ينصره ) من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم; معنى النصر هاهنا الرزق ، فعلى قول هؤلاء تأويل الكلام : من كان يظن أن لن يرزق الله محمدا في الدنيا ، ولن يعطيه . وذكروا سماعا من العرب : من ينصرني نصره الله ، بمعنى : من يعطيني أعطاه الله ، وحكوا أيضا سماعا منهم : نصر المطر أرض كذا : إذا جادها وأحياها .

واستشهد لذلك ببيت الفقعسي :


وإنك لا تعطي امرأ فوق حظه ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره



ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو كريب قال : ثنا ابن عطية قال : ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن التميمي قال : قلت لابن عباس : أرأيت قوله ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) قال : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا ، فليربط حبلا في سقف ثم ليختنق به حتى يموت .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام عن عنبسة عن أبي إسحاق الهمداني عن التميمي قال : سألت ابن عباس عن قوله : ( من كان يظن أن لن ينصره الله ) قال : أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة ، ( فليمدد بسبب إلى السماء ) والسبب : الحبل ، والسماء : سقف البيت ، فليعلق حبلا في سماء البيت ثم ليختنق ( فلينظر هل يذهبن كيده ) هذا الذي صنع ما يجد من الغيظ .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام عن عمرو بن مطرف عن أبي [ ص: 582 ] إسحاق عن رجل من بني تميم ، عن ابن عباس مثله .

حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس : ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ) قال : سماء البيت .

حدثنا محمد بن المثنى قال : ثنا أبو داود قال : ثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت التميمي يقول : سألت ابن عباس فذكر مثله .

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ) . . . إلى قوله : ( ما يغيظ ) قال : السماء التي أمر الله أن يمد إليها بسبب سقف البيت أمر أن يمد إليه بحبل فيختنق به ، قال : فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ إذا اختنق إن خشي أن لا ينصره الله !

وقال آخرون : الهاء في ينصره من ذكر " من " . وقالوا : معنى الكلام : من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة ، فليمدد بسبب إلى سماء البيت ثم ليختنق ، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ ، أنه لا يرزق !

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله ( أن لن ينصره الله ) قال : يرزقه الله . ( فليمدد بسبب ) قال : بحبل ( إلى السماء ) سماء ما فوقك ( ثم ليقطع ) ليختنق ، هل يذهبن كيده ذلك خنقه أن لا يرزق .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله ( من كان يظن أن لن ينصره الله ) يرزقه الله ( فليمدد بسبب إلى السماء ) قال : بحبل إلى السماء .

قال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال : ( إلى السماء ) إلى سماء البيت . قال ابن جريج : وقال مجاهد : ( ثم ليقطع ) قال : ليختنق ، وذلك كيده ( ما يغيظ ) قال : ذلك خنقه أن لا يرزقه الله .

[ ص: 583 ] حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( فليمدد بسبب ) يعني : بحبل ( إلى السماء ) يعني سماء البيت .

حدثني يعقوب قال : ثنا ابن عطية قال : أخبرنا أبو رجاء قال : سئل عكرمة عن قوله : ( فليمدد بسبب إلى السماء ) قال : سماء البيت . ( ثم ليقطع ) قال : يختنق .

وأولى ذلك بالصواب عندي في تأويل ذلك قول من قال : الهاء من ذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم ودينه وذلك أن الله تعالى ذكره ، ذكر قوما يعبدونه على حرف وأنهم يطمئنون بالدين إن أصابوا خيرا في عبادتهم إياه ، وأنهم يرتدون عن دينهم لشدة تصيبهم فيها ، ثم أتبع ذلك هذه الآية ، فمعلوم أنه إنما أتبعه إياها توبيخا لهم على ارتدادهم عن الدين ، أو على شكهم فيه نفاقهم ، استبطاء منهم السعة في العيش ، أو السبوغ في الرزق . وإذا كان الواجب أن يكون ذلك عقيب الخبر عن نفاقهم ، فمعنى الكلام إذن ، إذ كان كذلك : من كان يحسب أن لن يرزق الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته في الدنيا ، فيوسع عليهم من فضله فيها ، ويرزقهم في الآخرة من سنى عطاياه وكرامته ، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم ، فليمدد بحبل إلى سماء فوقه : إما سقف بيت ، أو غيره مما يعلق به السبب من فوقه ، ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله ، فاستعجل انكشاف ذلك عنه ، فلينظر هل يذهبن كيده اختناقه كذلك ما يغيظ ، فإن لم يذهب ذلك غيظه ; حتى يأتي الله بالفرج من عنده فيذهبه ، فكذلك استعجاله نصر الله محمدا ودينه لن يؤخر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ، ولا يعجل قبل حينه ، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان ، تباطئوا عن الإسلام ، وقالوا : نخاف أن لا ينصر محمد صلى الله عليه وسلم ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يرووننا ، فقال الله تبارك وتعالى لهم : من استعجل من الله نصر محمد ، فليمدد بسبب إلى السماء فليختنق فلينظر استعجاله بذلك في نفسه ، هل هو مذهب غيظه ؟ فكذلك استعجاله من الله نصر محمد غير مقدم نصره قبل حينه .

[ ص: 584 ] واختلف أهل العربية في " ما " التي في قوله : ( ما يغيظ ) فقال بعض نحويي البصرة هي بمعنى الذي ، وقال : معنى الكلام : هل يذهبن كيده الذي يغيظه ، قال : وحذفت الهاء لأنها صلة الذي ، لأنه إذا صارا جميعا اسما واحدا كان الحذف أخف . وقال غيره : بل هو مصدر لا حاجة به إلى الهاء ، هل يذهبن كيده غيظه .

وقوله : ( وكذلك أنزلناه آيات بينات ) يقول تعالى ذكره : وكما بينت لكم حججي على من جحد قدرتي على إحياء من مات من الخلق بعد فنائه ، فأوضحتها أيها الناس ، كذلك أنزلنا إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآن آيات بينات ، يعني دلالات واضحات ، يهدين من أراد الله هدايته إلى الحق ( وأن الله يهدي من يريد ) يقول جل ثناؤه : ولأن الله يوفق للصواب ولسبيل الحق من أراد ، أنزل هذا القرآن آيات بينات ، ف " أن " في موضع نصب .

التالي السابق


الخدمات العلمية