الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3833 (19) باب الحض على تشريك الفقير الجائع في طعام الواحد وإن كان دون الكفاية

                                                                                              [ 1944 ] عن عبد الرحمن بن أبي بكر: أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مرة: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، بسادس. أو كما قال: وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وأبو بكر بثلاثة، قال: فهو وأنا وأبي وأمي، ولا أدري هل قال: وامرأتي وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر. قال: وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله. قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ أو قالت: ضيفك. قال: أوما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، فقد عرضوا عليهم فغلبوهم. قال: فذهبت أنا فاختبأت، وقال: يا غنثر، فجدع وسب، وقال: كلوا، لا هنيئا، وقال: والله لا أطعمه أبدا. قال: فايم الله، ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، قال: حتى شبعنا، وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر. قال لامرأته: يا أخت بني فراس، ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني، لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار. قال: فأكل منها أبو بكر، وقال: إنما كان ذلك من الشيطان، يعني يمينه، ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده، قال: وكان بيننا وبين قوم عقد فمضى الأجل، فعرفنا اثني عشر رجلا منهم، مع كل رجل منهم أناس، الله أعلم كم مع كل رجل، قال: إلا أنه بعث معهم فأكلوا منها أجمعون. أو كما قال.

                                                                                              رواه أحمد (1 \ 197) والبخاري (3581) ومسلم (2057) (176). [ ص: 336 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 336 ] و( الصفة ): سقيفة المسجد، كانت منزلا للغرباء والمهاجرين، وكانوا ضيف الإسلام، وكانوا يحتطبون في النهار، ويسوقون الماء لأبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقرؤون القرآن بالليل، ويصلون. هكذا وصفهم البخاري وغيره.

                                                                                              و(قوله: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة ) هكذا صحت الرواية فيه عن جميع رواة مسلم . والصواب: (بثالث) لأن البخاري ذكره: بثالث; ولأن بقية الحديث تدل عليه; إذ قال: ( ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، بسادس ) ولأنه إن حمل على ظاهره فسد المعنى، وذلك: أن الذي عنده طعام اثنين إذا أكله في خمسة لم يكف أحدا منهم، فلا يرد جوعا، ولا يمسك لأحدهم رمقا. فاقتصار الاثنين على طعامهما كان أصلح; لأنه كان يرد جوعهما، ويمسك رمقهما، وذلك بخلاف الواحد فإنه يتحمل الاثنان أكله، ولا يجحف بهما، ونحو ذلك في تشريك الاثنين في طعام الأربعة لا يجحف بهم، وكذلك الخامس بسادس [ ص: 337 ] لمن كان عنده طعام أربعة. وفي ذلك كانت المواساة واجبة لشدة الحال. والحكم كذلك مهما وقعت شدة بالمسلمين، والله الكافي والواقي.

                                                                                              و(قوله: يا غنثر! فجدع، وسب ) هو بضم الغين المعجمة، وفتح الثاء المثلثة وضمها، وهو: الجاهل، مأخوذ من الغثارة، وهي: الجهل. وقيل: من الغثر، وهو: اللوم. وعلى هذين: فالنون فيه زائدة. قال: كسراع الغنثر: ذباب أزرق.

                                                                                              قلت: والحاصل: أنها كلمة ذم وتنقيص.

                                                                                              وقد روى الخطابي هذا الحرف بالعين المهملة، والتاء باثنتين من فوقها، وقال: هو الذباب; تحقيرا له. وقيل: هو الأزرق منه.

                                                                                              و(قوله: جدع ) أي: دعا عليه بالجدع، وهو قطع الأنف. وقال أبو عمرو الشيباني : معناه: سب. يقال: جادعته مجادعة: ساببته.

                                                                                              قلت: وهذا فيه بعد; لقوله: ( جدع وسب ) فلو كان كما قال لكان تكرارا لا فائدة له. والأول أصوب.

                                                                                              وكل ذلك أبرزه من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - على عبد الرحمن ظن: أنه فرط في الأضياف، فلما تبين له أنه لم يكن منه [ ص: 338 ] تفريط، وأنه إنما كان ذلك امتناعا من الأضياف: أدبهم بقوله لهم: (لا هنيئا) وحلف لا يطعمه؛ وذلك أن هؤلاء الأضياف تحكموا على رب المنزل بالحضور معهم، وقالوا: لا نأكل حتى يحضر أبو منزلنا، فنكدوا على أهل المنزل. ولا يلزم حضور رب المنزل مع الضيف إذا أحضر ما يحتاجون إليه، فقد يكون في مهم من أشغاله لا يمكنه تركه، فهذا منهم جفاء. لكن حملهم على ذلك: صدق رغبتهم في التبرك بمؤاكلته، وحضوره معهم. فأبوا حتى يجيء، وانتظروه، فجاء فصدر منه ذلك، فتكدر الوقت، وتشوش الحال عليهم أجمعين. وكانت نزغة شيطان، فأزال الله تعالى ذلك النكد بما أبداه من الكرامة والبركة في ذلك الطعام، فعاد ذلك النكد سرورا، وانقلب الشيطان مدحورا، وعند ذلك عاد أبو بكر - رضي الله عنه - إلى مكارم الأخلاق، فأحنث نفسه، وأكل مع أضيافه، وطيب قلوبهم، وحصل مقصودهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير).

                                                                                              وقول أبي بكر لامرأته - وهي: أم رومان -: ( يا أخت بني فراس !) هو ابن غنم بن مالك بن كنانة ، وهي من ولده.

                                                                                              وقولها في جواب أبي بكر : ( لا، وقرة عيني لهي الآن أكثر ) أي: ما نقصت شيئا، بل زادت. فحذفت اختصارا; قاله عياض .

                                                                                              قلت: والأولى أن يقال: إنها أقسمت بما رأت من قرة عينها بكرامة الله [ ص: 339 ] تعالى لزوجها، وافتتحت الكلام بـ (لا) الزائدة، كقوله تعالى: لا أقسم بيوم القيامة وما في معناه، وكقول الشاعر:


                                                                                              فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر

                                                                                              و( قرة العين ): ما يسر به الإنسان، مأخوذ من القر، وهو: البرد، وقد تقدم ذلك.

                                                                                              و(قوله: فعرفنا اثني عشر رجلا ) مشدد الراء من عرفنا; أي: جعلنا عرفاء; أي: نقباء على قومهم، وسموا بالعرفاء: لأنهم: يعرفون الإمام بأحوال جماعتهم. وسموا بالنقباء: لأنهم ينقبون عن أخبار أصحابهم. والله تعالى أعلم.




                                                                                              الخدمات العلمية