الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وأما التعريض ، فقيل : إنه الدلالة على المعنى من طريق المفهوم ، وسمي تعريضا ؛ لأن المعنى باعتباره يفهم من عرض اللفظ أي من جانبه ، ويسمى التلويح ؛ لأن المتكلم يلوح منه للسامع ما يريده ؛ كقوله - تعالى - : بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ( الأنبياء : 63 ) لأن غرضه بقوله : ( فاسألوهم ) على سبيل الاستهزاء ، وإقامة الحجة عليهم بما عرض لهم به ؛ من عجز كبير الأصنام عن الفعل ، مستدلا على ذلك بعدم إجابتهم إذا سئلوا ، ولم يرد بقوله : بل فعله كبيرهم هذا ( الأنبياء : 63 ) نسبة الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، فدلالة هذا الكلام عجز كبير الأصنام عن الفعل بطريق الحقيقة .

ومن أقسامه أن يخاطب الشخص والمراد غيره ، سواء كان الخطاب مع نفسه ، أو مع غيره ؛ كقوله - تعالى - : لئن أشركت ليحبطن عملك ( الزمر : 65 ) ، ولئن اتبعت أهواءهم ( البقرة : 120 ) . فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ( البقرة : 209 ) تعريضا بأن قومه أشركوا واتبعوا أهواءهم ، وزلوا فيما مضى من الزمان ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقع منه ذلك ، فأبرز غير الحاصل في معرض الحاصل ادعاء .

وقوله : فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ( البقرة : 209 ) فإن الخطاب للمؤمنين والتعريض لأهل الكتاب ؛ لأن الزلل لهم لا للمؤمنين .

فأما الآية الأولى ففيها ثلاثة أمور : مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيره ، وإخراج المحال عليه في صورة المشكوك والمراد غيره ، واستعمال المستقبل بصيغة الماضي .

وأمر رابع ؛ وهو " إن " الشرطية قد لا يراد بها إلا مجرد الملازمة التي هي لازمة الشرط والجزاء ، مع العلم باستحالة الشرط أو وجوبه أو وقوعه .

[ ص: 422 ] وعلى هذا يحمل قول من لم ير من المفسرين حمل الخطاب على غيره ؛ إذ لا يلزم من فرض أمر لا بد منه صحة وقوعه ؛ بل يكون في الممكن والواجب والمحال .

ومنه قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ( الزخرف : 81 ) إذا جعلت شرطية لا نافية . ومنه : إن كنا فاعلين ( الأنبياء : 17 ) .

ومنه قوله - تعالى - : وما لي لا أعبد الذي فطرني ( يس : 22 ) المراد ما لكم لا تعبدون ؛ بدليل قوله : وإليه ترجعون ( يس : 22 ) ولولا التعريض لكان المناسب " وإليه أرجع " ، وكذا قوله : أأتخذ من دونه آلهة ( يس : 23 ) والمراد أتتخذون من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين ولذلك قيل : آمنت بربكم فاسمعون ( يس : 25 ) دون " ربي " و " أتبعه " " فاسمعوه " .

ووجه حسنه ظاهر ؛ لأنه يتضمن إعلام السامع على صورة لا تقتضي مواجهته بالخطاب المنكر ، كأنك لم تعنه وهو أعلى في محاسن الأخلاق وأقرب للقبول ، وأدعى للتواضع ، والكلام ممن هو رب العالمين نزله بلغتهم ، وتعليما للذين يعقلون .

قيل : ومنه قوله - تعالى - : قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ( سبأ : 25 ) فحصل المقصود في قالب التلطف ، وكان حق الحال من حيث الظاهر ، لولاه أن يقال : لا تسألون عما عملنا ، ولا نسأل عما تجرمون .

وكذا مثله : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ( سبأ : 24 ) حيث ردد الضلال بينهم وبين نفسهم ، والمراد : إنا على هدى وأنتم في ضلال ، وإنما لم يصرح به لئلا تصير هنا نكتة ، هو أنه خولف في هذا الخطاب بين " على " و " في " بدخول " على " على [ ص: 423 ] الحق ، " وفي " على الباطل ؛ لأن صاحب الحق ، كأنه على فرس جواد يركض به حيث أراد ، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام لا يدري أين يتوجه . قال السكاكي : ويسمى هذا النوع الخطاب المنصف ، أي لأنه يوجب أن ينصف المخاطب إذا رجع إلى نفسه استدراجا لاستدراجه الخصم إلى الإذعان والتسليم ، وهو شبيه بالجدل ؛ لأنه تصرف في المغالطات الخطابية .

ومنه قوله - تعالى - : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ( فاطر : 18 ) المقصود التعريض بذم من ليست له هذه الخشية ، وأن يعرف أنه لفرط عناده كأنه ليس له أذن تسمع ، ولا قلب يعقل ، وأن الإنذار له كلا إنذار ، وأنه قد أنذر من له هذه الصفة ، وليست له .

وقوله : إنما يتذكر أولو الألباب ( الرعد : 19 ) القصد التعريض ، وأنهم لغلبة هواهم في حكم من ليس له عقل .

وقوله - تعالى - : ذق إنك أنت العزيز الكريم ( الدخان : 49 ) نزلت في أبي جهل ؛ لأنه قال : ما بين أخشبيها - أي جبليها يعني مكة - أعز مني ولا أكرم ، وقيل : بل خوطب بذلك استهزاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية