الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وهو قسمان : بمعنى الخبر ، وبمعنى الإنشاء :

الأول : بمعنى الخبر ؛ وهو ضربان : أحدهما : نفي ، والثاني إثبات ، فالوارد للنفي يسمى استفهام إنكار ، والوارد للإثبات يسمى استفهام تقرير ؛ لأنه يطلب بالأول إنكار المخاطب ، وبالثاني إقراره به .

فالأول : المعنى فيه على أن ما بعد الأداة منفي . ولذلك تصحبه إلا كقوله - تعالى - : فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ( الأحقاف : 35 ) .

وقوله - تعالى - : وهل نجازي إلا الكفور ( سبأ : 17 ) .

ويعطف عليه المنفي ، كقوله - تعالى - : فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين ( الروم : 29 ) أي لا يهدي ؛ وهو كثير .

ومنه : أفأنت تنقذ من في النار ( الزمر : 19 ) أي لست تنقذ من في النار : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ( يونس : 99 ) .

أفغير الله أبتغي حكما ( الأنعام : 114 ) . وكقوله - تعالى - : قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ( الشعراء : 111 ) ، فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ( المؤمنون : 47 ) أي لا نؤمن .

وقوله : أم له البنات ولكم البنون ( الطور : 39 ) أي لا يكون هذا .

وقوله - تعالى - : أؤنزل عليه الذكر من بيننا ( ص : 8 ) [ ص: 435 ] أي ما أنزل . وقوله - تعالى - : أشهدوا خلقهم ( الزخرف : 19 ) أي ما شهدوا ذلك . وقوله - تعالى - : أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ( الزخرف : 40 ) أي ليس ذلك إليك ، كما قال - تعالى - : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء ( النمل : 80 ) . وقوله - تعالى - : أفعيينا بالخلق الأول ( ق : 15 ) أي لم نعي به .

وهنا أمران :

أحدهما : أن الإنكار قد يجيء لتعريف المخاطب أن ذلك المدعى ممتنع عليه ؛ وليس من قدرته ؛ كقوله - تعالى - : أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ( الزخرف : 40 ) لأن إسماع الصم لا يدعيه أحد ؛ بل المعنى أن إسماعهم لا يمكن ؛ لأنهم بمنزلة الصم والعمي ، وإنما قدم الاسم في الآية ، ولم يقل : أتسمع الصم ؟ إشارة إلى إنكار موجه عن تقدير ظن منه - عليه السلام - أنه يختص بإسماع من به صمم ، وأنه ادعى القدرة على ذلك ، وهذا أبلغ من إنكار الفعل . وفيه دخول الاستفهام على المضارع ، فإذا قلت : أتفعل ؟ أو أأنت تفعل ؟ احتمل وجهين :

أحدهما : إنكار وجود الفعل ، كقوله - تعالى - : أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ( هود : 28 ) والمعنى لسنا بمثابة من يقع منه هذا الإلزام ، وإن عبرنا بفعل ذلك ؛ جل الله - تعالى - عن ذلك ، بل المعنى إنكار أصل الإلزام .

والثاني : قولك لمن يركب الخطر : أتذهب في غير طريق ؟ انظر لنفسك واستبصر . فإذا قدمت المفعول توجه الإنكار إلى كونه بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل ، كقوله : قل أغير الله أتخذ وليا ( الأنعام : 14 ) وقوله : أغير الله تدعون ( الأنعام : 40 ) المعنى : أغير الله بمثابة من يتخذ وليا ! .

ومنه : أبشرا منا واحدا نتبعه ( القمر : 24 ) لأنهم بنوا كفرهم على أنه ليس بمثابة من يتبع صيغة المستقبل ؛ إما أن يكون للحال ، نحو : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ( يونس : 99 ) أو للاستقبال ، نحو : أهم يقسمون رحمة ربك ( الزخرف : 32 ) .

[ ص: 436 ] الثاني : قد يصحب الإنكار التكذيب للتعريض بأن المخاطب ادعاه وقصد تكذيبه ، كقوله - تعالى - : أاصطفى البنات على البنين ( الصافات : 153 ) ، ألكم الذكر وله الأنثى ( النجم : 21 ) ، أإله مع الله ( النمل : 60 ) .

وسواء كان زعمهم له صريحا ، مثل : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ( الطور : 15 ) أو التزاما مثل : أشهدوا خلقهم ( الزخرف : 19 ) فإنهم لما جزموا بذلك جزم من يشاهد خلق الملائكة كانوا كمن زعم أنه شهد خلقهم .

وتسمية هذا استفهام إنكار من أنكر إذا جحد ، وهو إما بمعنى " لم يكن " كقوله - تعالى - : أفأصفاكم ( الإسراء : 40 ) أو بمعنى لا يكون ، نحو : أنلزمكموها ( هود : 28 ) .

والحاصل أن الإنكار قسمان : إبطالي ، وحقيقي .

فالإبطالي ؛ أن يكون ما بعدها غير واقع ، ومدعيه كاذب كما ذكرنا ، والحقيقي يكون ما بعدها واقعا ، وأن فاعله مذموم نحو : أتعبدون ما تنحتون ( الصافات : 95 ) ، أغير الله تدعون ( الأنعام : 40 ) ، أئفكا آلهة ( الصافات : 86 ) ، أتأتون الذكران ( الشعراء : 165 ) ، أتأخذونه بهتانا ( النساء : 20 ) .

وأما الثاني : فهو استفهام التقرير ، والتقرير حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده ، قال أبو الفتح في الخاطريات : ولا يستعمل ذلك بـ " هل " ، وقال في قوله :


جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

[ ص: 437 ] وهل لا تقع تقريرا كما يقع غيرها مما هو للاستفهام انتهى .

وقال الكندي : ذهب كثير من العلماء في قوله - تعالى - : هل يسمعونكم ( الشعراء : 72 ) إلى أن " هل " تشارك الهمزة في معنى التقرير والتوبيخ ، إلا أني رأيت أبا علي أبى ذلك ، وهو معذور ، فإن ذلك من قبيل الإنكار انتهى .

ونقل الشيخ أبو حيان عن سيبويه ، أن استفهام التقرير لا يكون بـ " هل " إنما تستعمل فيه الهمزة ، ثم نقل عن بعضهم ، أن " هل " تأتي تقريرا كما في قوله - تعالى - : هل في ذلك قسم لذي حجر ( الفجر : 5 ) . والكلام مع التقرير موجب ، ولذلك يعطف عليه صريح الموجب ، ويعطف على صريح الموجب .

فالأول كقوله : ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ( الضحى : 6 و 7 ) وقوله : ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك ( الانشراح : 1 ، 2 ) ، ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل ( الفيل : 2 - 3 ) .

[ ص: 438 ] والثاني كقوله : أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما ( النمل : 84 ) على ما قرره الجرجاني في النظم حيث جعلها مثل قوله : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ( النمل : 14 ) .

ويجب أن يلي الأداة الشيء الذي تقرر بها ، فتقول في تقرير الفعل : أضربت زيدا ؟ ، والفاعل نحو : أأنت ضربت ؟ ، أو المفعول أزيدا ضربت ؟ كما يجب في الاستفهام الحقيقي .

وقوله - تعالى - : أأنت فعلت هذا بآلهتنا ( الأنبياء : 62 ) يحتمل الاستفهام الحقيقي ، بأن يكونوا لم يعلموا أنه الفاعل ، والتقريري بأن يكونوا علموا ، ولا يكون استفهاما عن الفعل ، ولا تقريرا له ؛ لأنه لم يله ، ولأنه أجاب بالفاعل ، بقوله : بل فعله كبيرهم ( الأنبياء : 63 ) .

وجعل الزمخشري منه : ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ( البقرة : 106 ) .

وقيل : أراد التقرير بما بعد النفي ، لا التقرير بالنفي والأولى أن يجعل على الإنكار ، أي ألم تعلم أيها المنكر للنسخ !

وحقيقة استفهام التقرير أنه استفهام إنكار ، والإنكار نفي ، وقد دخل على المنفي ، ونفي المنفي إثبات ، والذي يقرر عندك أن معنى التقرير الإثبات قول ابن السراج : فإذا [ ص: 439 ] أدخلت على ليس ألف الاستفهام كانت تقريرا ، ودخلها معنى الإيجاب ، فلم يحسن معها أحد ، لأن أحدا إنما يجوز مع حقيقة النفي ؛ لا تقول : أليس أحد في الدار ؛ لأن المعنى يؤول إلى قولك : أحد في الدار ، وأحد لا تستعمل في الواجب . انتهى

وأمثلته كثيرة ، كقوله - تعالى - : ألست بربكم ( الأعراف : 172 ) أي أنا ربكم .

وقوله : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ( القيامة : 40 ) . أوليس الذي خلق السماوات والأرض ( يس : 81 ) . أليس الله بكاف عبده ( الزمر : 36 ) . أليس الله بعزيز ذي انتقام ( الزمر : 37 ) . أليس في جهنم مثوى للكافرين ( الزمر : 32 ) . أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ( العنكبوت : 51 ) ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : أينقص الرطب إذا جف . وقول جرير :


ألستم خير من ركب المطايا



واعلم أن في جعلهم الآية الأولى من هذا النوع إشكالا ؛ لأنه لو خرج الكلام عن النفي لجاز أن يجاب بنعم ، وقد قيل : إنهم لو قالوا : " نعم " كفروا ، ولما حسن دخول الباء [ ص: 440 ] في الخبر ، ولو لم تفد لفظة الهمزة استفهاما لما استحق الجواب ، إذ لا سؤال حينئذ .

والجواب يتوقف على مقدمة ، وهي أن الاستفهام إذا دخل على النفي ، يدخل بأحد وجهين :

إما أن يكون الاستفهام عن النفي ، هل وجد أم لا ؟ فيبقى النفي على ما كان عليه ، أو للتقرير كقوله : ألم أحسن إليك ؟ وقوله - تعالى - : ألم نشرح لك صدرك ( الانشراح : 1 ) ، ألم يجدك يتيما ( الضحى : 6 ) .

فإن كان بالمعنى الأول لم يجز دخول " نعم " في جوابه إذا أردت إيجابه ، بل تدخل عليه " بلى " ، وإن كان بالمعنى الثاني - وهو التقرير - فللكلام حينئذ لفظ ومعنى ، فلفظه نفي داخل عليه الاستفهام ، ومعناه الإثبات ، فبالنظر إلى لفظه تجيبه ببلى ، وبالنظر إلى معناه ، وهو كونه إثباتا تجيبه بنعم .

وقد أنكر عبد القاهر كون الهمزة للإيجاب ، لأن الاستفهام يخالف الواجب ، وقال : إنها إذا دخلت على ما أو ليس يكون تقريرا وتحقيقا ، فالتقرير كقوله - تعالى - : أأنت قلت للناس ( المائدة : 116 ) ، أأنت فعلت هذا ( الأنبياء : 62 ) .

واعلم أن هذا النوع يأتي على وجوه :

الأول : مجرد الإثبات ، كما ذكرنا .

الثاني : الإثبات مع الافتخار ، كقوله - تعالى - عن فرعون : أليس لي ملك مصر ( الزخرف : 51 ) .

الثالث : الإثبات مع التوبيخ ؛ كقوله - تعالى - : ألم تكن أرض الله واسعة ( النساء : 97 ) أي هي واسعة ، فهلا هاجرتم فيها .

الرابع : مع العتاب ، كقوله - تعالى - : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ( الحديد : 16 ) قال ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا [ ص: 441 ] أربع سنين . وما ألطف ما عاتب الله به خير خلقه بقوله - تعالى - : عفا الله عنك لم أذنت لهم ( التوبة : 43 ) ولم يتأدب الزمخشري بأدب الله - تعالى - في هذه الآية .

الخامس : التبكيت كقوله - تعالى - : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ( المائدة : 116 ) هو تبكيت للنصارى فيما ادعوه ؛ كذا جعل السكاكي وغيره هذه الآية من نوع التقرير ، وفيه نظر لأن ذلك لم يقع منه .

السادس : التسوية ، وهي الداخلة على جملة يصح حلول المصدر محلها ، كقوله - تعالى - : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ( يس : 10 ) أي سواء عليهم الإنذار وعدمه ، مجردة للتسوية ، مضمحلا عنها معنى الاستفهام .

ومعنى الاستواء فيه استواؤهما في علم المستفهم ؛ لأنه قد علم أنه أحد الأمرين كائن ، إما الإنذار وإما عدمه ، ولكن لا يعينه ، وكلاهما معلوم بعلم غير معين .

فإن قيل : الاستواء يعلم من لفظة " سواء " لا من الهمزة ، مع أنه لو علم منه لزم التكرار .

قيل : هذا الاستواء غير ذلك الاستواء المستفاد من لفظة " سواء " .

وحاصله أنه كان الاستفهام عن مستويين فجرد عن الاستفهام ، وبقي الحديث عن المستويين ، ولا يكون ضرر في إدخال " سواء " عليه لتغايرهما ؛ لأن المعنى أن المستويين في العلم يستويان في عدم الإيمان ، وهذا - أعني حذف مقدر واستعماله فيما بقي - كثير في كلام العرب ، كما في النداء ، فإنه لتخصيص المنادى وطلب إقباله ، فيحذف قيد الطلب ، ويستعمل في مطلق الاختصاص ، نحو : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة ، فإنه ينسلخ عن [ ص: 442 ] معنى الكلمة ؛ لأن معناه مخصوص من بين سائر العصائب .

ومنه قوله - تعالى - : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ( إبراهيم : 21 ) . وقوله - تعالى - : سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ( المنافقون : 6 ) . أوعظت أم لم تكن من الواعظين ( الشعراء : 136 ) . وتارة تكون التسوية مصرحا بها كما ذكرناه ، وتارة لا تكون ، كقوله - تعالى - : وإن أدري أقريب أم بعيد ( الأنبياء : 109 ) .

السابع : التعظيم ؛ كقوله - تعالى - : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ( البقرة : 255 ) .

الثامن : التهويل ، نحو : الحاقة ما الحاقة ( الحاقة : 1 ، 2 ) . وقوله - تعالى - : وما أدراك ما هيه ( القارعة : 10 ) .

وقوله : ماذا يستعجل منه المجرمون ( يونس : 50 ) تفخيم للعذاب الذي يستعجلونه .

التاسع : التسهيل والتخفيف ، كقوله - تعالى - : وماذا عليهم لو آمنوا بالله ( النساء : 39 ) .

العاشر : التفجع ، نحو : مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ( الكهف : 49 ) .

الحادي عشر : التكثير ، نحو : وكم من قرية أهلكناها ( الأعراف : 4 ) .

الثاني عشر : الاسترشاد ، نحو : أتجعل فيها من يفسد فيها ( البقرة : 30 ) والظاهر أنهم استفهموا مسترشدين ، وإنما فرق بين العبارتين أدبا ، وقيل : هي هنا للتعجب .

التالي السابق


الخدمات العلمية