الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الآية.. ظن ظانون أن أول الكلام تام في نفسه، وأن الخصوص بعده في قوله: الحر بالحر والعبد بالعبد لا يمنع من التعلق بعموم أوله، وهذا غلط منهم، لأن الثاني ليس مستقلا دون البناء على الأول، إذ قول القائل: "الحر بالحر والعبد بالعبد" لا يفيد حكم القصاص إلا على وجه البناء على الأول، فإن الثاني ليس الأول، وتقديره: كتب عليكم القصاص وهو الحر بالحر قصاصا، والعبد بالعبد قصاصا، فوجب بناء الكلام عليه.

قالوا: أمكن أن يقال: كتب عليكم القصاص مطلقا، وقوله:

الحر بالحر لنفي قتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام:

"إن من أعتى الناس على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: رجل قتل غير [ ص: 43 ] قاتله، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول الجاهلية" ..

والذي قالوه ممكن، إلا أن الأظهر ما قلناه من جعل القصاص على هذا الوجه، فتقديره: كتب عليكم القصاص في القتلى وكيفيته الحر بالحر والعبد بالعبد الآية..

فمن هذا صار الشافعي إلى أن الحر لا يقتل بالعبد.

ونفى أبو حنيفة القصاص بين الأحرار والعبيد مطلقا من الجانبين إلا في النفس.

وأجرى ابن أبي ليلى القصاص بينهم في جميع الجراحات التي يستطاع فيها القصاص..

وقال الليث بن سعد: إذا كان العبد هو الجاني اقتص منه في الأطراف والنفس، ولا يقتص من الحر بالعبد.

وقال: إذا قتل العبد الحر فلولي القتيل أن يأخذ نفس العبد القاتل فيكون له، وإذا جنى على الحر فيما دون النفس فللمجروح القصاص إن شاء..

وقال قائلون من علماء السلف: يقتل السيد بعبده.

وكل ذلك من حيث التعلق بعمومات وردت في القصاص..، ورووا عن سمرة بن جندب، عن النبي عليه السلام أنه قال: [ ص: 44 ] "من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه" .

والذي ينفيه يقول: إنما جعل الله تعالى للولي السلطان في القصاص ، وولي العبد سيده، فلا يستحق القصاص على نفسه، إذ ليس يستحق السيد القصاص على وجه الإرث انتقالا من العبد إليه، فلا ملك للعبد، وإنما يستوفي الإمام نيابة عن المسلمين إذا كان القصاص ثابتا للمسلمين إرثا، ولا يمكن ذلك في حق العبد.

ولا خلاف أنه لو قتل السيد عبده فلا خطأ، فلا تؤخذ قيمته منه لبيت مال المسلمين.

وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رجلا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي عليه السلام، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين. ولم يقده به" .

ويحمل خبر سمرة على أنه كان بعد عتقه ثم قتله أو جدعه، فسماه عبدا استصحابا للاسم السابق..

ولهم أن يقولوا: وخبركم حكاية حال، فيحمل على أنه كان كافرا، أو أباح العبد له دم نفسه..

وقال الشافعي: يجري القصاص بين الرجال والنساء في النفس وما دونها من الأطراف، وهو قول مالك، وابن أبي ليلى، والثوري، والأوزاعي، [ ص: 45 ] إلا أن الليث بن سعد قال: إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولم يقتص منه بها، وكأنه رأى أن النكاح ضرب من الرق فأقرن شبهه في القصاص.

وقال عثمان البتي : إذا قتلت امرأة رجلا قتلت، وأخذ من مالها نصف الدية، وكذلك فيما دون النفس، وإن قتلها الرجل فعليه القود ولا يرد عليها شيء..

وعمدة من أوجب القصاص التعلق بالعمومات ولا مخصص، وليس في شيء منها ضم الدية إلى القصاص..

وقال عليه السلام: "من قتل قتيلا فوليه بخير النظرين بين أن يقتص أو يأخذ الدية" ، ولم يذكر التخيير.

وترك الشافعي العمومات في قتل المسلم بالكافر لأنها منقسمة، فمنها قوله تعالى: كتب عليكم القصاص في القتلى .. ومساق ذلك يدل على الاختصاص بالمسلم، فإنه قال: فمن عفي له من أخيه شيء ، ولا يكون الكافر أخا للمسلم، وقال: ذلك تخفيف من ربكم ورحمة .

وأما قوله: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا . فلا حجة فيه، فإنا نجعل له سلطانا وهو طلب الدية.

وأما قوله: وكتبنا عليهم فيها . فإخبار عن شريعة [ ص: 46 ] من قبلنا فلا يلزمنا ذلك إلا ببيان من شرعنا جديد، مع أن العموم ليس يسقط ببعض ما ذكروه بالكلية، إلا أنه يضعف..

وروى البيلماني ومحمد بن المنكدر عن النبي عليه السلام أنه أقاد مسلما بكافر، وقال: "أنا آخر من وفى بذمته" ، وهما مرسلان لم يلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وتأول من أوجب قتل المسلم بالكافر ما روي أنه عليه السلام قال:

"ألا لا يقتل مؤمن بكافر" على أنه ذكره في خطبته يوم فتح مكة، وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلا من هذيل بذحل الجاهلية، فقال عليه السلام: "ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" ، فكان ذلك تفسيرا لقوله عليه السلام: "كل دم كان في الجاهلية تحت قدمي هاتين" .

لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

وذكر أهل المغازي أن عقد الذمة على الجزية كان بعد فتح مكة، وأنه كان قبل ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين عهود إلى مدد، على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه، وكان قوله يوم فتح مكة: "لا يقتل مؤمن بكافر" منصرفا إلى المعاهد إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه.. [ ص: 47 ] ويدل عليه قوله عليه السلام: "ولا ذو عهد في عهده" ، وهذا يدل على أن عهودهم كانت إلى مدة، ولذلك قال: "ولا ذو عهد في عهده" ، كما قال الله تعالى: فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، وقال: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر .

وكان المشركون حينئذ ضربين:

أحدهما: أهل الحرب، والآخر: أهل العهد، ولم يكن هناك أهل ذمة، فانصرف الكلام إلى الضربين .

وورود هذا الحديث في خطبة الوداع يبطل هذا التأويل جملة..

وقال عثمان البتي: يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص، وروي مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن، وتلك الأخبار منها ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

"لا يقتل والد بولده" . [ ص: 48 ] وحكم به عمر بمحضر من الصحابة، واشتهر بينهم، فكان كقوله:

"لا وصية لوارث" في الاشتهار..

وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الأول .

وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقاد الوالد بالولد" ..

ومنهم الذين نفوا القول من قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حسنا . الآية، أنه لا يقتل الوالد بمن وليه ابنه إذا قتله الأب، فإذا لم يقتل به فلا يقتل بالابن، لأن حق القصاص له في الحالتين جميعا، وبنوا عليه أنه لا يقتل به إذا كان مشركا..

ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه، وكان مشركا محاربا لله ورسوله، وكان مع قريش يقاتل النبي عليه السلام يوم أحد، ولذلك لو قذفه لم يحد على هذا القول..

أما إذا اشترك رجلان أو رجال في قتل رجل ظلما فلا شك أن وعيد القتل يلزمهم، ولا يمكن إخراجهم من كونهم قاتلين، فيجعل الكل كشخص واحد.

وإذا قدر ذلك تعظيما للقتل، فإذا قتل أحدهما عمدا والآخر خطأ فالمخطئ في حكم آخذ جميع النفس، فيثبت لجميعها حكم الخطإ، وانتفى منها حكم العمد، إذ لا يجوز ثبوت حكم الخطإ للجميع، [ ص: 49 ] وثبوت حكم العمد للجميع، وإذا ثبت حكم العمد للجميع وجب القود فيه.

ولا خلاف أنه لا يجمع بين دية كاملة وقود، فوجب لذلك أنه متى وجب للنفس المتلفة على وجه الشركة شيء من الدية أن لا يجب معه قود على أحد، فإن وجوب القود يوجب ثبوت حكم العمد في الجميع، وثبوت حكم العمد في الجميع ينفي وجوب الأرش لشيء منها..

وبنى أبو حنيفة عليه أنه لو كان أحدهما أبا فلا قصاص على الأجنبي، فإن المحل متى كان واحدا وخرج فعل الأب عن كونه موجبا لأنه لم يصادف المحل، صار أيضا الفعل الذي لا يوجب لجميع المحل.

وخروج الروح به شبهة في المحل، ومتى حصل في المحل شبهة امتنع ثبوت الحكم في هذا المحل بفعل الثاني لاتحاد المحل، وكل ذلك لحصول مثل الخطاء للنفس المتلفة، ولا جائز أن يكون خطأ عمدا موجبا للمال والقود في حالة واحدة ، فكل واحد من القاتلين في حكم المتلف لجميعها، فوجب بذلك قسط من الدية على من لم يجب عليه القود، فيصير حينئذ محكوما للجميع بحكم الخطإ، ولا جائز مع ذلك أن يحكم لها بحكم العمد.

وبنوا عليه أنه لو اشترك رجلان في سرقة مال ابن أحدهما، فلا قطع على واحد منهما.. [ ص: 50 ] فإن قيل: فقياس الوعيد وظاهر القرآن يوجب مؤاخذة العامد بجنايته وأن لا يؤثر خطأ صاحبه في حقه.

قيل: ولكنه لما وجب بفعله قسط من الدية على العاقلة، والدية وجبت في مقابلة المحل لخفة في جريمته صارت حرمة المحل الواحد واهية بالإضافة إلى الخاطئ، وانتفى عنه حكم العمد المحض، فيورث ذلك في حكم الآخر شبهة لاتحاد المحل المجني عليه، واستحالة تبعضه، فصار الجميع في حكم ما لا قود فيه.

ولما كان الواجب على الشريك الذي لا قود عليه قسطه من الدية دون جميعها، ثبت أن الجميع قد صار في حكم الخطإ، لولا ذلك لوجب جميع الدية، ألا ترى أنهم لو كانوا من أهل القود لأقدنا منهم جميعا؟ فلما وجب على المشارك الذي لا قود عليه قسطه قسط من الدية قسط، ودل ذلك على سقوط القود، وأن النفس قد صارت في حكم الخطإ، فلذلك توزعت الدية عليهم..

قوله تعالى: كتب عليكم القصاص في القتلى .

وقال تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس .

وقال تعالى: ومن قتل مظلوما الآية..، وذلك يدل لأحد قولي الشافعي على الآخر، وهو أنه يتعين القود في العمد، لأنه تعالى قال: النفس بالنفس ، وحيث يتخير فالواجب أحد أمرين، فلا يجوز أن يقال إن القصاص واجب بالقول المطلق، بل الواجب أحد الأمرين.. [ ص: 51 ] مثاله أنه إذا قيل لنا: ما الواجب بالحنث في اليمين؟ فلا يجوز أن نقول إنه العتق أو الكسوة أو الإطعام، بل نقول: أحد هذه الخلال الثلاثة لا بعينه.

فإذا لم يكن المال واجبا بالقتل وجب القود على الخصوم.

وروي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل في رمياء أو عمياء تكون بينهم بحجر أو بسوط أو بعصا فعقله عقل خطإ، ومن قتل عمدا فقود يده، ومن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".

ولو كان الواجب أحدهما لما اقتصر على ذكر القود دونهما، لأنه غير جائز أن يكون له أحد أمرين فيقتصر النبي عليه السلام بالبيان على أحدهما دون الآخر..

وعلى القول الآخر يحتج بقوله: فمن عفي له من أخيه شيء .. الآية، وهذا يحتمل معاني:

أحدها: أن العفو ما سهل، قال الله تعالى: خذ العفو يعني ما سهل من الأخلاق، وقال صلى الله عليه وسلم: "أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله" يعني: تسهيل الله على عباده.

وقال تعالى: فمن عفي له من أخيه شيء يعني الولي إذا أعطي شيئا من المال فليقبله وليتبعه بالمعروف وليؤد القاتل إليه بإحسان، [ ص: 52 ] فندبه الله تعالى إلى أخذ المال إذا تسهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال عند ذكر القصاص في سورة المائدة: فمن تصدق به فهو كفارة له ، فندبه إلى العفو والصدقة، وكذلك ندبه بما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني، لأنه بدأ بذكر عفو الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي بالاتباع، وأمر الجاني بالأداء بإحسان.

وهذا خلاف الظاهر من وجهين:

أحدهما: أن العفو بعد القصاص يقتضي العفو عنه من مستحقه بإسقاطه.

والثاني: أن الضمير في "له" يجب أن ينصرف إلى من عليه القصاص، لأنه الذي تقدم ذكره في قوله: كتب عليكم القصاص ، والولي لا ذكر له فيما تقدم حتى ينصرف الضمير إليه، إلا أنه يستظهر بظاهر قوله: كتب عليكم القصاص وذلك يدل على أن القصاص هو المكتوب دون غيره..

التأويل الثاني: ما قاله ابن عباس قال: كان القصاص في بني إسرائيل ولم يكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: كتب عليكم القصاص في القتلى إلى قوله تعالى: فمن عفي له من أخيه شيء ..

قال ابن عباس: فالعفو أن يقبل الدية في العمد، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان قال: على هذا أن يؤدي بالمعروف، وعلى هذا أن يؤدي بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فيما [ ص: 53 ] كان كتب على من قبلكم، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ، قال: ذاك بعد قبوله الدية، فأخبر ابن عباس أن الآية نزلت ناسخة لما كان على بني إسرائيل من حظر قبول الدية، وأباحت للولي قبول الدية إذا بذلها القاتل، تخفيفا من الله تعالى علينا، ورحمة بنا.

ولو كان الأمر على ما ادعاه مخالفنا من إيجاب التخيير لما قال: فالعفو بأن يقبل الدية، لأن القبول لا يطلق إلا فيما بذل له غيره، ولو لم يكن أراد ذلك لقال: إذا اختار الولي.

وكأن المقصود بذلك أن الذي قاله الله تعالى أنه كتب لم يعن به أنه كتب على وجه لا يمكن إسقاطه برضا من كتب له مثل ما كان على بني إسرائيل، بل يجوز إسقاطه، فإذا جاز إسقاطه رغب في إسقاطه من جهة من عليه القصاص بالمال، فهذان معنيان..

المعنى الثالث للآية ما رواه سفيان بن حسين عن ابن أشوع عن الشعبي قال: كان بين حيين من العرب قتال، فقتل من هذا ومن هذا، فقال أحد الحيين: لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل، وبالرجل الرجلان، وارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: القتلى بواء -أي سواء- فاصطلحوا على الديات، ففضل لأحد الحيين على الآخر، فهو قوله تعالى: كتب عليكم القصاص إلى قوله: فمن عفي له من أخيه شيء ..

قال سفيان بن حسين: فمن عفي له من أخيه شيء يعني: فمن فضل له على أخيه شيء فليؤده بالمعروف، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية، وذكر سفيان أن العفو ها هنا الفضل، وهو معنى يحتمله اللفظ، قال الله تعالى: ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى [ ص: 54 ] عفوا ، يعني: حتى كبروا فسمنوا، وقال صلى الله عليه وسلم: "أعفوا اللحى" ، فتقدير الآية: فمن فضل له على أخيه شيء من الديات التي وقع الاصطلاح عليها فليتبعه مستحقه بالمعروف، وليؤد إليه بإحسان..

المعنى الرابع: أنهم قالوا في الدم بين جماعة إذا عفا عنهم تحول أنصباء الآخرين مالا، وقوله تعالى: فمن عفي له من أخيه شيء يدل على وقوع العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه، فيتحول نصيب الشركاء مالا، فعليهم اتباع القائل بالمعروف، وعليه أداؤه إليهم بإحسان..

والاتباع بالمعروف أن لا يكون بتشدد وإيذاء، وعلى المطلوب منه الأداء بإحسان، وهو ترك المطل والتسويف، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة أي: جواز العفو على مال تخفيف، ولم يكن ذلك إلا لهذه الأمة، فمن اعتدى بعد ذلك أي: قتل القاتل بعد أخذ الدية فله عذاب أليم .

المعنى الخامس: أخذ ولي الدم المال بغير رضا القاتل، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله، فقيل لهؤلاء: العفو لا يكون مع أخذه، ألا ترى أن النبي عليه السلام قال: "العمد قود إلا أن يعفو الأولياء"، فأثبت له أحد السببين من قتل أو عفو، ولم يثبت له مالا، فلئن قيل: إنه إذا عفا عن الدم ليأخذ المال كان عافيا وتناوله لفظ الآية، قيل له: لو كان الواجب أحد سببين لجاز أيضا أن يكون عافيا بتركه المال، [ ص: 55 ] وأخذ القود، فلا ينفك الولي في اختيار أحدهما من عقد قتل أو أخذ المال، وهذا بعيد.

ويجاب عنه بأن يقال: عفا لسقوط أثر المال في حق من عليه القود بالإضافة إلى القتل، وإذا عدل عن المال إلى القتل لم يظهر لإسقاط المال وقع، فلا يقال: عفا، فإن العفو يؤذن بتخفيف وترفيه عرفا، وإن كان العدول عن أحدهما إلى الآخر عفوا عن المعدول عنه، وإسقاطا له.

فقيل لهم: فهذا ينفيه الظاهر من وجه آخر، وهو أنه إذا كان الولي هو العافي بتركه القود وأخذه المال، فإنه لا يقال عفا له -وإنما يقال عفا عنه- إلا بتعسف، فيقيم اللام مقام عن، أو بحمله على أنه عفا له عن الدم، فيضم حرفا غير مذكور.

وعلى تأويل من يخالفه: العفو بمعنى التسهيل، وهو أن يسهل له القاتل إعطاء الأموال، كما يقال: سهل الله لك كذا ويسر لك، فيكون العفو بمعنى التسهيل من جهة القاتل بإعطائه المال، ولأن قوله: من أخيه شيء يقتضي التبعيض.

وعلى أحد قولي الشافعي هو عفو عن جميع الدم لا عن شيء منه، فمتى حمل على الجميع كان مخالفا مقتضى الكلام، وفي الحمل على كل محمل حيد عن الظاهر من بعض الوجوه، فلا يبعد أن يكون الجميع مرادا، فإن اختيار الدية يوجب إسقاط القصاص، حتى لو أراد العدول إليه بعده لا يجوز.

وشهد لأحد القولين قوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة الربيع [ ص: 56 ] حين كسرت بنته جارية: "كتاب الله تعالى القصاص" أخبر أن موجب الكتاب القصاص، فإن قوله: كتب عليكم القصاص محكم ظاهر المعنى.

وقوله تعالى: فمن عفي له من أخيه شيء محتمل للمعاني والمتشابه يجب رده إلى المحكم.

وقوله تعالى عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف يدل على أن دية العمد على القاتل.

التالي السابق


الخدمات العلمية