[ ص: 24 ] ] تعريف أصول الفقه
أصول الفقه : مركب تتوقف معرفته على معرفة مفرداته من حيث التركيب لا من حيث كل وجه . [ تعريف الأصل ] فالأصول : جمع أصل ، وأصل الشيء ، ما منه الشيء ، أي : مادته ، كالوالد للولد ، والشجرة للغصن . ورده القرافي باشتراك " من " بين الابتداء والتبعيض ، وبأنه لا يصح هنا معنى من معانيها . وأجاب الأصفهاني عن الأول : بأن الاشتراك لازم لكن يصار إليه في الحدود حيث لا يمكن التعبير بغيره ، وعن الثاني : بأن " من " لابتداء الغاية . وقال الآمدي : ما استند الشيء في تحقيقه إليه . وقال أبو الحسين : ما يبنى عليه غيره ، وتبعه في باب القياس ، ورد بأنه لا يقال : إن الولد يبنى على الوالد ، بل يقال : فرعه . [ ص: 25 ] وقال ابن الحاجب الإمام : هو المحتاج إليه ، ورد بأنه إن أريد احتياج الأثر إلى المؤثر لزم إطلاقه على الله تعالى ، وإن أريد ما يتوقف عليه الشيء لزم إطلاقه على الجزاء والشرط . وقد التزمه في المباحث المشرقية " فقال : لا تبعد تسمية الشروط واندفاع الموانع أصولا باعتبار توقف وجود الشيء عليها . وقال في كتاب الدلائل والأعلام " : كل ما أثمر معرفة شيء ونبه عليه فهو أصل له ، فعلوم الحس أصل ، لأنها تثمر معرفة حقائق الأشياء ، وما عداه فرع له . وقال أبو بكر الصيرفي : الأصل : ما تفرع عنه غيره ، والفرع : ما تفرع عن غيره ، وهذا أسد الحدود ، فعلى هذا لا يقال في الكتاب : إنه فرع أصله الحس ، لأن الله تعالى تولاه وجعله أصلا دل العقل عليه . قال : والكتاب والسنة أصل ، لأن غيرهما يتفرع عنهما ، وأما القياس فيجوز أن يكون أصلا على معنى أن له فروقا تنشأ عنه ، ويتوصل إلى معرفتها من جهته ، كالكتاب أصل لما ينبني عليه ، وكالسنة أصل لما يعرف من جهتها ، وهو فرع على معنى أنه إنما عرف بغيره وهو الكتاب أو غيره ، وكذلك السنة والإجماع . قال : وقيل : إن القياس لا يقال له : أصل ولا فرع ، لأنه فعل القائس ، ولا توصف الأفعال بالأصل والفرع . وقال القفال الشاشي : الأصل ما عرف به حكم غيره ، والفرع ما عرف بحكم غيره قياسا عليه . [ ص: 26 ] وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي في الحاوي " : قيل : الأصل ما دل عليه غيره ، والفرع ما دل على غيره ، فعلى هذا يجوز أن يقال في الكتاب : إنه فرع لعلم الحس ، لأنه الدال على صحته . هذا الاعتراض يصلح أن يدخل به كثير من العبارات السالفة على اختلافها فليتأمل . وقال الماوردي ابن السمعاني في القواطع " : قيل : الأصل ما انبنى عليه غيره ، وقيل : ما يقع التوصل به إلى معرفة ما وراءه وهما مدخولان ، لأن من أصول الشرع ما هو عقيم لا يقبل الفرع ، ولا يقع به التوصل إلى ما وراءه بحال ، كدية الجنين والقسامة ، وتحمل العاقلة ، فهذه أصول ليست لها فروع ، فالأولى أن يقال : الأصل كل ما ثبت دليلا في إيجاب حكم من الأحكام ليتناول ما جلب فرعا أو لم يجلب . ويطلق في الاصطلاح على أمور : أحدها : الصورة المقيس عليها على الخلاف الآتي - إن شاء الله تعالى - في القياس في تفسير الأصل . الثاني : الرجحان ، كقولهم : الأصل في الكلام الحقيقة ، أي : الراجح عند السامع هو الحقيقة لا المجاز . الثالث : الدليل ، كقولهم : أصل هذه المسألة من الكتاب والسنة أي : دليلها ، ومنه أصول الفقه أي : أدلته . الرابع : القاعدة المستمرة ، كقولهم : إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل . وهذه الأربعة ذكرها القرافي وفيه نظر ، لأن الصورة المقيس عليها [ ص: 27 ] ليست معنى زائدا ، لأن أصل القياس اختلف فيه هل هو محل الحكم أو دليله أو حكمه ؟ وأيا ما كان فليس معنى زائدا ، لأنه إن كان أصل القياس دليله فهو المعنى السابق ، وإن كان محله أو حكمه فهما يسميان أيضا دليلا مجازا ، فلم يخرج الأصل عن معنى الدليل . وبقي عليه أمور : أحدها : التعبد ، كقولهم : إيجاب الطهارة بخروج الخارج على خلاف الأصل . يريدون أنه لا يهتدي إليه القياس . الثاني : الغالب في الشرع ، ولا يمكن ذلك إلا باستقراء موارد الشرع . الثالث : استمرار الحكم السابق ، كقولهم : الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل له . الرابع : المخرج ، كقول الفرضيين : أصل المسألة من كذا .
[ ] ثم اختلفوا في عدد الأصول ، فالجمهور على أنها أربعة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس . قال عدد الأصول التي يبنى الفقه عليها الرافعي في باب القضاء : وقد يقتصر على الكتاب والسنة ، [ ص: 28 ] ويقال : الإجماع يصدر عن أحدهما ، والقياس الرد إلى أحدهما فهما أصلان .
قال في المطلب " : وفيه منازعة لمن جوز انعقاد الإجماع لا عن أمارة ، ولا عن دلالة ، وجوز القياس على المحل المجمع عليه .
واختصر بعضهم فقال : أصل ومعقول أصل ، فالأصل للكتاب ، والسنة ، والإجماع ، ومعقول الأصل هو القياس .
قال ابن السمعاني : وأشار إلى أن جماع الأصول نص ومعنى ، فالكتاب والسنة والإجماع داخل تحت النص ، والمعنى هو القياس ، وزاد بعضهم العقل فجعلها خمسة . الشافعي
وقال أبو العباس بن القاص : الأصول سبعة : الحس ، والعقل ، والكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، واللغة .
والصحيح : أنها أربعة . وأما العقل : فليس بدليل يوجب شيئا أو يمنعه ، وإنما تدرك به الأمور فحسب ، إذ هو آلة العارف ، وكذلك الحس لا يكون دليلا بحال ، لأنه يقع به درك الأشياء الحاضرة .
وأما اللغة : فهي مدركة اللسان ، ومطية لمعاني الكلام ، وأكثر ما فيه معرفة سمات الأشياء ولا حظ له في إيجاب شيء .
وقال الجيلي في الإعجاز " : أربعة : الكتاب ، والسنة ، [ ص: 29 ] والقياس ، ودليل البقاء على النفي الأصلي ، وردها إلى واحد فقال : أصل السمع هو كتاب الله تعالى ، وأما السنة والإجماع ، والقياس فمضاف إلى بيان الكتاب ، لقوله تعالى { القفال الشاشي تبيانا لكل شيء } وقوله : { ما فرطنا في الكتاب من شيء }
وروي عن أنه لعن الواصلة والمستوصلة ، وقال : ما لي لا ألعن من لعنه الله ؟ فقالت امرأة : قرأت كتاب الله فلم أجد فيه ما تقول ، فقال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه { ابن مسعود وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وأن { } . فأضاف النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة بلطيف حكمته قول الرسول إلى كتاب الله ، وعلى هذا إضافة ما أجمع عليه مما لا يوجد في الكتاب والسنة نصا . عبد الله بن مسعود
قلت : ووقع مثل ذلك في مسألة قتل المحرم للزنبور . للشافعي
قال : وفي هذا دليل على أن الحكم المأخوذ من السنة ، أو الإجماع أو القياس مأخوذ من كتابه سبحانه ، لدلالة كتابه على وجوب اتباع ذلك كله . [ ص: 30 ] الأستاذ أبو منصور
[ تعريف الفقه ] والفقه لغة : اختلف فيه ، فقال في المجمل " : هو العلم ، وجرى عليه ابن فارس إمام الحرمين في التلخيص " ، وإلكيا الهراسي ، وأبو نصر بن القشيري ، والماوردي إلا أن حملة الشرع خصصوه بضرب من العلوم . ونقل ابن السمعاني عن ابن فارس : أنه إدراك علم الشيء وقال وغيره : هو الفهم . وقال الجوهري الراغب : هو التوسل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم . وفي المحكم " : الفقه العلم بالشيء والفهم له والظاهر أن مراده بهما واحد وهو [ ص: 31 ] الفهم ، لأنه فسر الفهم بمعرفة الشيء بالقلب ، ومعرفة الشيء بالقلب هو العلم به ، ومثله قول لابن سيده الأزهري : فهمت الشيء عقلته وعرفته ، وأصرح منه قول : فهمت الشيء فهما علمته . وظهر بهذا أن الفهم المفسر به الفقه ليس فهم المعنى من اللفظ ، ولا فهم غرض المتكلم . ونقل الفقه إلى علم الفروع بغلبة الاستعمال كما أشار إليه الجوهري حيث قال : غلب على علم الدين لسيادته وشرفه كالنجم على الثريا ، والعود على المندل . قال ابن سيده ابن سراقة : وقيل : حده في اللغة العبارة عن كل معلوم تيقنه العالم به عن فكر . وقال أبو الحسين في المعتمد " ، وتبعه في المحصول " : فهم غرض المتكلم ، ورد بأنه يوصف بالفهم حيث لا كلام ، وبأنه لو كان كذلك لم يكن في نفي الفقه عنهم منقصة ولا تعيير ، لأنه غير متصور ، وقد قال تعالى : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } . [ ص: 32 ] وقال ابن دقيق العيد : وهذا تقييد للمطلق بما لا يتقيد به . وقال وصاحب اللباب " . من الحنفية : فهم الأشياء الدقيقة ، فلا يقال : فقهت أن السماء فوقنا . قال الشيخ أبو إسحاق القرافي : وهذا أولى ، ولهذا خصصوا اسم الفقه بالعلوم النظرية ، فيشترط كونه في مظنة الخفاء ، فلا يحسن أن يقال : فهمت أن الاثنين أكثر من الواحد ، ومن ثم لم يسم العالم بما هو من ضروريات الأحكام الشرعية فقيها ، فإن احتج له بقوله تعالى : { قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول } وقوله : { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } . قلنا : هذا يدل على أن الفهم من الخطاب يسمى فقها ، لا على أنه لا يسمى فقها إلا ما ما كان كذلك ، وقد قال تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها } وهذا لا يختص بالفهم من الخطاب ، بل عدم الفهم مطلقا من الأدلة العقلية والسمعية ، وطرق الاعتبار ، ثم المراد من الفهم : الإدراك ، لا جودة الذهن من جهة تهيئته لاقتناص ما يرد عليه من المطالب خلافا للآمدي . [ الذهن ] والذهن : عبارة عن قوة النفس المستعدة لاكتسابها الحدود الوسطى والآراء . وقال ابن سراقة : الفهم عبارة عن إتقان الشيء ، والثقة به [ ص: 33 ] على الوجه الذي هو به عن نظر ، ولذلك يقال : نظرت ففهمت ، ولا يقال في صفات الله سبحانه : فهم . يقال : فقه - بالكسر - فهو فاقه إذا فهم ، وفقه - بالفتح - فهو فاقه أيضا إذا سبق غيره إلى الفهم ، وفقه - بالضم - فهو فقيه إذا صار الفقه له سجية ، واستعمل لاسم فاعله فقيه ، لأن " فعيلا " قياس في اسم فاعل " فعل " ، ووقع في عبارة بعضهم : أنه اختير له " فعيل " ، لأن " فعيلا " للمبالغة ، فاستعمالها فيمن صار الفقه له سجية أولى . وهذا ليس بصحيح . أعني دعوى أن " فعيلا " هاهنا للمبالغة ، لأن الألفاظ المستعملة للمبالغة هي التي كانت على صيغة ، فحولت عنها إلى تلك الألفاظ للمبالغة ، ولذلك يقع في كلامهم ما حول للمبالغة من " فاعل " ، [ إلى ] " مفعال " أو " فعيل " أو " فعول " ، أو " فعل " ، وأما فقيه فهو قياس ، لأن " فعيلا " ، مقيس في " فعل " ، فهو مستعمل فيما هو قياسه من غير تحويل ، نحو " عليم " و " شفيع " ، فإن المتكلم يحولهما عن شافع وعالم ، لقصد المبالغة ، ولا مخلص عن هذا إلا أن يدعى أنه خولف تقديرا بمعنى أن الواضع ، حوله عن " فاعل " لقصد المبالغة . فإن قلت : ليس من شرط الفقيه أن يكون له سجية ، ولهذا قال الرافعي في الوقف على الفقهاء : إنه يدخل فيه من حصل منه شيئا ، وإن قل ، وقضية هذا حصوله بمسمى مسألة واحدة . قلت : ليس كذلك لما سأذكره من كلام ، الشيخ أبي إسحاق والغزالي ، وابن السمعاني ، وغيرهم من الأئمة ، ولعل مراده من حصل حتى صار له سجية وإن قلت . [ ص: 34 ] الفقه في الاصطلاح ] وأما في اصطلاح الأصوليين : فالعلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية . فالعلم جنس ، والمراد به الصناعة ، كما تقول : علم النحو أي : صناعته ، وحينئذ فيندرج فيه الظن واليقين ، وعلى هذا فلا يرد سؤال الفقه من باب الظنون ، ومن أورده فهو اختيار منه لاختصاص العلم بالقطعي . وخرج بالأحكام : العلم بالذوات ، والصفات ، والأفعال . وبالشرعية : العقلية ، والمراد بها ما يتوقف معرفتها على الشرع . وبالعملية : عن العلمية ، ككون الإجماع وخبر الواحد حجة . قاله الإمام . وقال الأصفهاني : خرج به أصول الفقه ، فإنه ليس بعملي ، أي : ليس علما بكيفية عمل . قال ابن دقيق العيد : وفيه نظر ، لأن الغاية المطلوبة منها العمل ، فكيف يخرج بالعملية ؟ وقال الباجي : هو احتراز عن أصول الدين . واعلم أن أصول الدين منه ما ثبت بالعقل وحده كوجود الباري ، ومنه [ ص: 35 ] ما ثبت بكل من العقل والسمع كالوحدانية ، وهذان خارجان بقوله : الشرعية ، ومنه ما لا يثبت إلا بالسمع كمسألة أن الجنة مخلوقة ، وأن الصراط حق ، وهذا من الفقه لوجوب اعتقاده ، وعدل الآمدي ، عن لفظ " العملية " إلى الفرعية ، لأن النية من مسائل الفقه وليست عملا ، وليس بجيد ، لأنها عمل . والظاهر أن لفظ " العملية " أشمل لدخول وجوب اعتقاد مسائل الديانات التي لا تثبت إلا بالسمع ، فإنها من الفقه كما سبق بخلاف الفرعية . وبالمكتسب : علم الله تعالى ، وما يلقيه في قلب الأنبياء والملائكة من الأحكام بلا اكتساب . وبالأخير : عن اعتقاد المقلد ، فإنه مكتسب من دليل إجمالي : قاله وابن الحاجب الإمام . وقيل : علم المقلد لم يدخل في الحد بل هو احتراز عن علم الخلاف . وأما عند الفقهاء : فقال : الفقه افتتاح علم الحوادث على الإنسان . أو افتتاح شعب أحكام الحوادث على الإنسان حكاه القاضي الحسين البغوي عنه في تعليقه " . [ ص: 36 ] وقال ابن سراقة : حده في الشرع : عبارة عن اعتقاد علم الفروع في الشرع ، ولذلك لا يقال في صفاته سبحانه وتعالى : فقيه . قال : وحقيقة الفقه عندي : الاستنباط . قال الله تعالى : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } . واختيار ابن السمعاني في القواطع " أنه استنباط حكم المشكل من الواضح . قال : وقوله صلى الله عليه وسلم : { } أي : غير مستنبط ومعناه : أنه يحمل الرواية من غير أن يكون له استدلال واستنباط فيها . وقال في ديباجة كتابه : وما أشبه الفقيه إلا بغواص في بحر در كلما غاص في بحر فطنته استخرج درا ، وغيره مستخرج آجرا . ومن المحاسن قول رب حامل فقه غير فقيه : الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها . قيل : وأخذه من قوله تعالى : { الإمام أبي حنيفة لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } . وقال الغزالي في الإحياء " في بيان تبديل أسامي العلوم : إن الناس تصرفوا في اسم الفقه ، فخصوه بعلم الفتاوى والوقوف على وقائعها ، وإنما هو في العصر الأول اسم لمعرفة دقائق آفات النفوس ، والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا . قال تعالى : { ليتفقهوا في الدين ولينذروا } [ ص: 37 ] والإنذار بهذا النوع من العلم دون تفاريع السلم والإجارة . وعن . لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ، ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتا . وسأل أبي الدرداء فرقد السنجي الحسن عن شيء : فقال : إن الفقهاء يخالفونك ، فقال الحسن : ثكلتك أمك وهل رأيت فقيها بعينك ؟ إنما الفقيه هو الزاهد في الدنيا . الراغب في الآخرة . البصير بذنبه . المداوم على عبادة ربه . الورع الكاف . ولذلك قال الحليمي في " المنهاج " : إن تخصيص اسم الفقه بهذا الاصطلاح حادث . قال : والحق أن اسم الفقه يعم جميع الشريعة التي من [ ص: 38 ] جملتها ما يتوصل به إلى معرفة الله ، ووحدانيته ، وتقديسه ، وسائر صفاته ، وإلى معرفة أنبيائه ، ورسله عليهم السلام ، ومنها علم الأحوال ، والأخلاق ، والآداب ، والقيام بحق العبودية وغير ذلك . قلت : ولهذا صنف كتابا في أصول الدين وسماه " الفقه الأكبر " . أبو حنيفة
تنبيه : علم من تعريفهم الفقه باستنباط الأحكام : أن المسائل المدونة في كتب الفقه ليست بفقه اصطلاحا ، وأن حافظها ليس بفقيه ، وبه صرح في باب الإجماع من شرح " المستصفى " . قال : وإنما هي نتائج الفقه ، والعارف بها فروعي ، وإنما الفقيه هو المجتهد الذي ينتج تلك الفروع عن أدلة صحيحة ، فيتلقاها منه الفروعي تقليدا ويدونها ويحفظها . ونحوه قول العبدري ابن عبد السلام : هم نقلة فقه لا فقهاء . وقال في كتاب الحدود " : الفقيه من له الفقه ، فكل من له الفقه فقيه ، ومن لا فقه له فليس بفقيه . قال : والفقيه هو العالم بأحكام أفعال العباد التي يسوغ فيها الاجتهاد . وقال الشيخ أبو إسحاق الغزالي : إذا لم يتكلم الفقيه في مسألة لم يسمعها ككلامه في مسألة سمعها : فليس بفقيه : حكاه عنه ابن الهمداني في طبقات الحنفية " . [ ص: 39 ] وقال ابن سراقة : الفقيه من حصل له الفقه . وذكر في الرسالة " : الشافعي وهو الفقيه فذكر سبع عشرة خصلة تأتي في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى . صفة المفتي
أصول الفقه لغة : ما استند إليه الفقه ، ولم يتم إلا به . وفي الاصطلاح : مجموع طرق الفقه من حيث إنها على سبيل الإجمال ، وكيفية الاستدلال ، وحالة المستدل بها . فقولنا : " مجموع " ليعمها ، فإذن بعضها بعض أصول الفقه لا كلها . وقولنا : " طرق " ليعم الدليل والأمارة على اصطلاح الأصوليين . وخرج بالإجمال : أدلة الفقه من حيث التفصيل ، فلا يقال لها في عرف الأصوليين : أصول فقه ، وإن كان التحقيق يقتضي ذلك ، إذ هو أقرب إلى الفقه وأقل تخصيصا ، ولأنه يوافق قولنا : هذا الحديث أصل لهذا الحكم ، ولهذا الباب ، وحينئذ فاتخاذ الأدلة في آحاد مسائل الفروع من أصول الفقه ، ويكون الإجمال شرطا في علم أصول الفقه ، لا أنه شرط فيها ، أو جزء منها . قال ابن دقيق العيد : ويمكن الاقتصار على الدلائل ، وكيفية الاستفادة منها ، والباقي كالتابع والتتمة ، لكن لما جرت العادة بإدخاله في أصول الفقه وضعا أدخل فيه حدا . [ ص: 40 ] قلت : وعليه جرى الشيخ في اللمع " ، والغزالي في المستصفى " ، وابن برهان في الأوسط " ، وقال : أصول الفقه أدلة الفقه على طريق الإجمال ، وكيفية الاستدلال به ، وما يتبع ذلك . ا هـ . بل قد يقال : الدليل هو الأصل بالذات ، والباقي بالتبع لضرورة الاستدلال بالدليل . قال صاحب المعتمد " . والمراد بكيفية الاستدلال هاهنا الشروط والمقدمات وترتيبها معه ، ليستدل بالطرق على الفقه . هذا ما أطبق عليه الأصوليون ، والفقهاء يطلقون ذلك على القواعد الكلية التي تندرج فيها الجزئيات ، كقولهم : الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن . وقولهم : يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وغير ذلك من القواعد العامة التي يندرج فيها الفروع المنتشرة ، وعليه سمى الشيخ عز الدين كتابه " القواعد " ، ويقال : إنه أول من اخترع هذه الطريقة . ويوجد في كلام الإمام والغزالي متفرقات منها . هل الأصول هذه الحقائق أنفسها أو العلم بها ؟ طريقان . وكلام يقتضي أنه العلم بالأدلة ، وعليه القاضي أبي بكر ، البيضاوي وغيرهما ، وقطع وابن الحاجب الشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين في البرهان " والرازي والآمدي بأنه نفس الأدلة . ووجه الخلاف أنه كما يتوقف الفقه على هذه الحقائق يتوقف أيضا على العلم بها ، فيجوز حينئذ إطلاق أصول الفقه على القواعد أنفسها ، وعلى العلم بها . والثاني أولى لوجوه : [ ص: 41 ] أحدها : أن أصول الفقه ثابت في نفس الأمر من تلك الأدلة ، وإن لم يعرفه الشخص . وثانيها : أن أهل العرف يجعلون أصول الفقه للمعلوم ، فيقولون : هذا كتاب أصول الفقه . وثالثها : أن الأصول في اللغة الأدلة فجعله اصطلاحا نفس الأدلة أقرب إلى المدلول اللغوي ، وهذا بخلاف الفقه فإنه اسم للعلم كما سبق . والتحقيق : أنه لا خلاف في ذلك ، ولم يتواردوا على محل واحد ، فإن من أراد اللقبي ، وهو كونه علما على هذا الفن حده بالعلم ، ومن أراد الإضافي حده بنفس الأدلة ، ولهذا لما جمع بينهما عرف اللقبي بالعلم ، والإضافي بالأدلة . نعم : ابن الحاجب الإمام في المحصول عرف اللقبي بالأدلة ، يجب تأويله على إرادة العلم بها . ثم : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، والاستدلال . وقال المراد بالأدلة إمام الحرمين والغزالي : هي ثلاثة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، ومنعا أن تكون القوانين الكلية الظنية من أصول الفقه . وقال في التلخيص " : الذي ارتضاه المحققون أن ما لا ينبغي فيه العلم كأخبار الآحاد والمقاييس لا يعد من أصول الفقه . فإن قيل : فأخبار الآحاد والمقاييس لا تفضي إلى العلوم ، وهي من [ ص: 42 ] أدلة أحكام الشرع . قيل له : إنما يتعلق بالأصول تثبيتها أدلة على وجوب الأعمال ، وذلك مما يدرك بالأدلة القاطعة ، وأما العمل المتلقى منها فيتعلق بالفقه دون أصوله . وقال في البرهان " : فإن قيل : معظم المسائل الشرعية ظنون . قلنا : ليست الظنون فقها ، وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون . ولذلك قال المحققون : أخبار الآحاد والأقيسة لا توجب العمل لذواتها ، وإنما يجب العمل بما يجب به العلم بالعمل ، وهو الأدلة القطعية على وجوب العمل عند رواية الآحاد وقيام الأقيسة . قال : وهما وإن لم يوجدا إلا في أصول الفقه لكن حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها ، ولكن لا بد من ذكرها ليبنى المدلول عليه ، ويرتبط الدليل به ، وتبعه ابن القشيري ، وقال : أطلق الفقهاء لفظ الدليل على أخبار الآحاد والقياس ، وهو خلاف هين . .
المقدمات
[ ص: 24 ] nindex.php?page=treesubj&link=20473تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ ]
أُصُولُ الْفِقْهِ : مُرَكَّبٌ تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مُفْرَدَاتِهِ مِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبُ لَا مِنْ حَيْثُ كُلُّ وَجْهٍ . [ تَعْرِيفُ الْأَصْلِ ] فَالْأُصُولُ : جَمْعُ أَصْلٍ ، وَأَصْلُ الشَّيْءِ ، مَا مِنْهُ الشَّيْءُ ، أَيْ : مَادَّتُهُ ، كَالْوَالِدِ لِلْوَلَدِ ، وَالشَّجَرَةِ لِلْغُصْنِ . وَرَدَّهُ الْقَرَافِيُّ بِاشْتِرَاكِ " مِنْ " بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالتَّبْعِيضِ ، وَبِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ هُنَا مَعْنًى مِنْ مَعَانِيهَا . وَأَجَابَ الْأَصْفَهَانِيُّ عَنْ الْأَوَّلِ : بِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ لَازِمٌ لَكِنْ يُصَارُ إلَيْهِ فِي الْحُدُودِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ بِغَيْرِهِ ، وَعَنْ الثَّانِي : بِأَنَّ " مِنْ " لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ . وَقَالَ الْآمِدِيُّ : مَا اسْتَنَدَ الشَّيْءُ فِي تَحْقِيقِهِ إلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ : مَا يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَتَبِعَهُ nindex.php?page=showalam&ids=12671ابْنُ الْحَاجِبِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يُقَالُ : إنَّ الْوَلَدَ يُبْنَى عَلَى الْوَالِدِ ، بَلْ يُقَالُ : فَرْعُهُ . [ ص: 25 ] وَقَالَ الْإِمَامُ : هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ احْتِيَاجُ الْأَثَرِ إلَى الْمُؤَثِّرِ لَزِمَ إطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ أُرِيدَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ لَزِمَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ . وَقَدْ الْتَزَمَهُ فِي الْمَبَاحِثِ الْمَشْرِقِيَّةِ " فَقَالَ : لَا تَبْعُدُ تَسْمِيَةُ الشُّرُوطِ وَانْدِفَاعُ الْمَوَانِعِ أُصُولًا بِاعْتِبَارِ تَوَقُّفِ وُجُودِ الشَّيْءِ عَلَيْهَا . وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=14667أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ " : كُلُّ مَا أَثْمَرَ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ وَنَبَّهَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَصْلٌ لَهُ ، فَعُلُومُ الْحِسِّ أَصْلٌ ، لِأَنَّهَا تُثْمِرُ مَعْرِفَةَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ ، وَمَا عَدَاهُ فَرْعٌ لَهُ . وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=15022الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ : الْأَصْلُ : مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ غَيْرُهُ ، وَالْفَرْعُ : مَا تَفَرَّعَ عَنْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا أَسَدُّ الْحُدُودِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقَالُ فِي الْكِتَابِ : إنَّهُ فَرْعٌ أَصْلُهُ الْحِسُّ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّاهُ وَجَعَلَهُ أَصْلًا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ . قَالَ : وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَصْلٌ ، لِأَنَّ غَيْرَهُمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهُمَا ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُ فُرُوقًا تَنْشَأُ عَنْهُ ، وَيَتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ جِهَتِهِ ، كَالْكِتَابِ أَصْلٌ لِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ ، وَكَالسُّنَّةِ أَصْلٌ لِمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَتِهَا ، وَهُوَ فَرْعٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنَّمَا عُرِفَ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْكِتَابُ أَوْ غَيْرُهُ ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ . قَالَ : وَقِيلَ : إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُقَالُ لَهُ : أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ ، لِأَنَّهُ فِعْلُ الْقَائِسِ ، وَلَا تُوصَفُ الْأَفْعَالُ بِالْأَصْلِ وَالْفَرْعِ . وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=16392الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ : الْأَصْلُ مَا عُرِفَ بِهِ حُكْمُ غَيْرِهِ ، وَالْفَرْعُ مَا عُرِفَ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ . [ ص: 26 ] وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=15151الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي " : قِيلَ : الْأَصْلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَالْفَرْعُ مَا دَلَّ عَلَى غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْكِتَابِ : إنَّهُ فَرْعٌ لِعِلْمِ الْحِسِّ ، لِأَنَّهُ الدَّالُّ عَلَى صِحَّتِهِ . هَذَا الِاعْتِرَاضُ يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعِبَارَاتِ السَّالِفَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فَلْيُتَأَمَّلْ . وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " : قِيلَ : الْأَصْلُ مَا انْبَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَقِيلَ : مَا يَقَعُ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ مَا وَرَاءَهُ وَهُمَا مَدْخُولَانِ ، لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ مَا هُوَ عَقِيمٌ لَا يَقْبَلُ الْفَرْعَ ، وَلَا يَقَعُ بِهِ التَّوَصُّلُ إلَى مَا وَرَاءَهُ بِحَالٍ ، كَدِيَةِ الْجَنِينِ وَالْقَسَامَةِ ، وَتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ ، فَهَذِهِ أُصُولٌ لَيْسَتْ لَهَا فُرُوعٌ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : الْأَصْلُ كُلُّ مَا ثَبَتَ دَلِيلًا فِي إيجَابِ حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لِيَتَنَاوَلَ مَا جَلَبَ فَرْعًا أَوْ لَمْ يَجْلِبْ . وَيُطْلَقُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى أُمُورٍ : أَحَدُهَا : الصُّورَةُ الْمَقِيسُ عَلَيْهَا عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقِيَاسِ فِي تَفْسِيرِ الْأَصْلِ . الثَّانِي : الرُّجْحَانُ ، كَقَوْلِهِمْ : الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ ، أَيْ : الرَّاجِحُ عِنْدَ السَّامِعِ هُوَ الْحَقِيقَةُ لَا الْمَجَازُ . الثَّالِثُ : الدَّلِيلُ ، كَقَوْلِهِمْ : أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْ : دَلِيلُهَا ، وَمِنْهُ أُصُولُ الْفِقْهِ أَيْ : أَدِلَّتُهُ . الرَّابِعُ : الْقَاعِدَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ ، كَقَوْلِهِمْ : إبَاحَةُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ . وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ ذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الصُّورَةَ الْمَقِيسَ عَلَيْهَا [ ص: 27 ] لَيْسَتْ مَعْنًى زَائِدًا ، لِأَنَّ أَصْلَ الْقِيَاسِ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مَحَلُّ الْحُكْمِ أَوْ دَلِيلُهُ أَوْ حُكْمُهُ ؟ وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَيْسَ مَعْنًى زَائِدًا ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَصْلُ الْقِيَاسِ دَلِيلَهُ فَهُوَ الْمَعْنَى السَّابِقُ ، وَإِنْ كَانَ مَحَلَّهُ أَوْ حُكْمَهُ فَهُمَا يُسَمَّيَانِ أَيْضًا دَلِيلًا مَجَازًا ، فَلَمْ يَخْرُجْ الْأَصْلُ عَنْ مَعْنَى الدَّلِيلِ . وَبَقِيَ عَلَيْهِ أُمُورٌ : أَحَدُهَا : التَّعَبُّدُ ، كَقَوْلِهِمْ : إيجَابُ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ . يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ الْقِيَاسُ . الثَّانِي : الْغَالِبُ فِي الشَّرْعِ ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِاسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِ الشَّرْعِ . الثَّالِثُ : اسْتِمْرَارُ الْحُكْمِ السَّابِقِ ، كَقَوْلِهِمْ : الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يُوجَدَ الْمُزِيلُ لَهُ . الرَّابِعُ : الْمَخْرَجُ ، كَقَوْلِ الْفَرْضِيِّينَ : أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ كَذَا .
[ nindex.php?page=treesubj&link=20750_20751_21368_21611_21696عَدَدُ الْأُصُولِ الَّتِي يُبْنَى الْفِقْهُ عَلَيْهَا ] ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْأُصُولِ ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ : الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْقِيَاسُ . قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ : وَقَدْ يُقْتَصَرُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، [ ص: 28 ] وَيُقَالُ : الْإِجْمَاعُ يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمَا ، وَالْقِيَاسُ الرَّدُّ إلَى أَحَدِهِمَا فَهُمَا أَصْلَانِ .
قَالَ فِي الْمَطْلَبِ " : وَفِيهِ مُنَازَعَةٌ لِمَنْ جَوَّزَ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ لَا عَنْ أَمَارَةٍ ، وَلَا عَنْ دَلَالَةٍ ، وَجُوِّزَ الْقِيَاسُ عَلَى الْمَحَلِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ .
وَاخْتَصَرَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : أَصْلٌ وَمَعْقُولُ أَصْلٍ ، فَالْأَصْلُ لِلْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ ، وَمَعْقُولُ الْأَصْلِ هُوَ الْقِيَاسُ .
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ : وَأَشَارَ nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ جِمَاعَ الْأُصُولِ نَصٌّ وَمَعْنًى ، فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ دَاخِلٌ تَحْتَ النَّصِّ ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْقِيَاسُ ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْعَقْلَ فَجَعَلَهَا خَمْسَةً .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ : الْأُصُولُ سَبْعَةٌ : الْحِسُّ ، وَالْعَقْلُ ، وَالْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْقِيَاسُ ، وَاللُّغَةُ .
وَالصَّحِيحُ : أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ . وَأَمَّا الْعَقْلُ : فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ يُوجِبُ شَيْئًا أَوْ يَمْنَعُهُ ، وَإِنَّمَا تُدْرَكُ بِهِ الْأُمُورُ فَحَسْبُ ، إذْ هُوَ آلَةُ الْعَارِفِ ، وَكَذَلِكَ الْحِسُّ لَا يَكُونُ دَلِيلًا بِحَالٍ ، لِأَنَّهُ يَقَعُ بِهِ دَرْكُ الْأَشْيَاءِ الْحَاضِرَةِ .
وَأَمَّا اللُّغَةُ : فَهِيَ مُدْرَكَةُ اللِّسَانِ ، وَمَطِيَّةٌ لِمَعَانِي الْكَلَامِ ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ مَعْرِفَةُ سِمَاتِ الْأَشْيَاءِ وَلَا حَظَّ لَهُ فِي إيجَابِ شَيْءٍ .
وَقَالَ الْجِيلِيُّ فِي الْإِعْجَازِ " : أَرْبَعَةٌ : الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، [ ص: 29 ] وَالْقِيَاسُ ، وَدَلِيلُ الْبَقَاءِ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ ، وَرَدَّهَا nindex.php?page=showalam&ids=15022الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ إلَى وَاحِدٍ فَقَالَ : أَصْلُ السَّمْعِ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَمَّا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْقِيَاسُ فَمُضَافٌ إلَى بَيَانِ الْكِتَابِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=89تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=38مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }
وَرُوِيَ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ ، وَقَالَ : مَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ؟ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ : قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مَا تَقُولُ ، فَقَالَ : إنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ فَقَدْ وَجَدْتِيهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وَأَنَّ { nindex.php?page=hadith&LINKID=62322النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ } . فَأَضَافَ nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ قَوْلَ الرَّسُولِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ ، وَعَلَى هَذَا إضَافَةُ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَصًّا .
قُلْت : وَوَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ nindex.php?page=showalam&ids=13790لِلشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمُحْرِمِ لِلزُّنْبُورِ .
قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=16392الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ : وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمَأْخُوذَ مِنْ السُّنَّةِ ، أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقِيَاسِ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِهِ سُبْحَانَهُ ، لِدَلَالَةِ كِتَابِهِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ ذَلِكَ كُلِّهِ . [ ص: 30 ]
[ تَعْرِيفُ الْفِقْهِ ] وَالْفِقْهُ لُغَةً : اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=13417ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ " : هُوَ الْعِلْمُ ، وَجَرَى عَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " ، وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ ، وَأَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيِّ ، وَالْمَاوَرْدِيُّ إلَّا أَنَّ حَمَلَةَ الشَّرْعِ خَصَّصُوهُ بِضَرْبٍ مِنْ الْعُلُومِ . وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ ابْنِ فَارِسٍ : أَنَّهُ إدْرَاكُ عِلْمِ الشَّيْءِ وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=14042الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ : هُوَ الْفَهْمُ . وَقَالَ الرَّاغِبُ : هُوَ التَّوَسُّلُ إلَى عِلْمٍ غَائِبٍ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْعِلْمِ . وَفِي الْمُحْكَمِ " nindex.php?page=showalam&ids=13247لِابْنِ سِيدَهْ : الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ وَالْفَهْمُ لَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ [ ص: 31 ] الْفَهْمُ ، لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْفَهْمَ بِمَعْرِفَةِ الشَّيْءِ بِالْقَلْبِ ، وَمَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِالْقَلْبِ هُوَ الْعِلْمُ بِهِ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْأَزْهَرِيِّ : فَهِمْت الشَّيْءَ عَقَلْته وَعَرَفْته ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُ nindex.php?page=showalam&ids=14042الْجَوْهَرِيِّ : فَهِمْت الشَّيْءَ فَهْمًا عَلِمْته . وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْفَهْمَ الْمُفَسَّرَ بِهِ الْفِقْهُ لَيْسَ فَهْمَ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ ، وَلَا فَهْمَ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ . وَنُقِلَ الْفِقْهُ إلَى عِلْمِ الْفُرُوعِ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ nindex.php?page=showalam&ids=13247ابْنُ سِيدَهْ حَيْثُ قَالَ : غَلَبَ عَلَى عِلْمِ الدِّينِ لِسِيَادَتِهِ وَشَرَفِهِ كَالنَّجْمِ عَلَى الثُّرَيَّا ، وَالْعُودِ عَلَى الْمِنْدَلِ . قَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ : وَقِيلَ : حَدُّهُ فِي اللُّغَةِ الْعِبَارَةُ عَنْ كُلِّ مَعْلُومٍ تَيَقَّنَهُ الْعَالَمُ بِهِ عَنْ فِكْرٍ . وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ " ، وَتَبِعَهُ فِي الْمَحْصُولِ " : فَهْمُ غَرَضُ الْمُتَكَلِّمِ ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُوصَفُ بِالْفَهْمِ حَيْثُ لَا كَلَامَ ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ الْفِقْهِ عَنْهُمْ مَنْقَصَةٌ وَلَا تَعْيِيرٌ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } . [ ص: 32 ] وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ بِمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ . وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=11815الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَصَاحِبُ اللُّبَابِ " . مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : فَهْمُ الْأَشْيَاءِ الدَّقِيقَةِ ، فَلَا يُقَالُ : فَقِهْت أَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَنَا . قَالَ الْقَرَافِيُّ : وَهَذَا أَوْلَى ، وَلِهَذَا خَصَّصُوا اسْمَ الْفِقْهِ بِالْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ ، فَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ فِي مَظِنَّةِ الْخَفَاءِ ، فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ : فَهِمْت أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُسَمَّ الْعَالِمُ بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَقِيهًا ، فَإِنْ احْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=91قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفَقُهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=78فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } . قُلْنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَهْمَ مِنْ الْخِطَابِ يُسَمَّى فِقْهًا ، لَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى فِقْهًا إلَّا مَا مَا كَانَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=179وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا } وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْفَهْمِ مِنْ الْخِطَابِ ، بَلْ عَدَمُ الْفَهْمِ مُطْلَقًا مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ ، وَطُرُقُ الِاعْتِبَارِ ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْفَهْمِ : الْإِدْرَاكُ ، لَا جُودَةُ الذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ تَهْيِئَتِهِ لِاقْتِنَاصِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَطَالِبِ خِلَافًا لِلْآمِدِيِّ . [ الذِّهْنُ ] وَالذِّهْنُ : عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّةِ النَّفْسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِاكْتِسَابِهَا الْحُدُودَ الْوُسْطَى وَالْآرَاءَ . وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ : الْفَهْمُ عِبَارَةٌ عَنْ إتْقَانِ الشَّيْءِ ، وَالثِّقَةِ بِهِ [ ص: 33 ] عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ بِهِ عَنْ نَظَرٍ ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ : نَظَرْت فَفَهِمْت ، وَلَا يُقَالُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : فَهِمَ . يُقَالُ : فَقِهَ - بِالْكَسْرِ - فَهُوَ فَاقِهٌ إذَا فَهِمَ ، وَفَقَهَ - بِالْفَتْحِ - فَهُوَ فَاقِهٌ أَيْضًا إذَا سَبَقَ غَيْرَهُ إلَى الْفَهْمِ ، وَفَقُهَ - بِالضَّمِّ - فَهُوَ فَقِيهٌ إذَا صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً ، وَاسْتُعْمِلَ لِاسْمِ فَاعِلِهِ فَقِيهٌ ، لِأَنَّ " فَعِيلًا " قِيَاسٌ فِي اسْمِ فَاعِلِ " فَعُلَ " ، وَوَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِهِمْ : أَنَّهُ اُخْتِيرَ لَهُ " فَعِيلٌ " ، لِأَنَّ " فَعِيلًا " لِلْمُبَالَغَةِ ، فَاسْتِعْمَالُهَا فِيمَنْ صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً أَوْلَى . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ . أَعْنِي دَعْوَى أَنَّ " فَعِيلًا " هَاهُنَا لِلْمُبَالَغَةِ ، لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُسْتَعْمَلَةَ لِلْمُبَالَغَةِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى صِيغَةٍ ، فَحُوِّلَتْ عَنْهَا إلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ لِلْمُبَالَغَةِ ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ مَا حُوِّلَ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ " فَاعِلٍ " ، [ إلَى ] " مِفْعَالٍ " أَوْ " فَعِيلٍ " أَوْ " فَعُولٍ " ، أَوْ " فُعُلٍ " ، وَأَمَّا فَقِيهٌ فَهُوَ قِيَاسٌ ، لِأَنَّ " فَعِيلًا " ، مَقِيسٌ فِي " فَعُلَ " ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا هُوَ قِيَاسُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلٍ ، نَحْوُ " عَلِيمٌ " وَ " شَفِيعٌ " ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُحَوِّلُهُمَا عَنْ شَافِعٍ وَعَالِمٍ ، لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ ، وَلَا مُخَلِّصَ عَنْ هَذَا إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّهُ خُولِفَ تَقْدِيرًا بِمَعْنَى أَنَّ الْوَاضِعَ ، حَوَّلَهُ عَنْ " فَاعِلٍ " لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ . فَإِنْ قُلْت : لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْفَقِيهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَجِيَّةٌ ، وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَهَاءِ : إنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ حَصَّلَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَإِنْ قَلَّ ، وَقَضِيَّةُ هَذَا حُصُولُهُ بِمُسَمَّى مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ . قُلْت : لَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَأَذْكُرُهُ مِنْ كَلَامِ nindex.php?page=showalam&ids=11815الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ ، وَالْغَزَالِيِّ ، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ مَنْ حَصَّلَ حَتَّى صَارَ لَهُ سَجِيَّةً وَإِنْ قُلْت . [ ص: 34 ] الْفِقْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ ] وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ : فَالْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُكْتَسَبُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ . فَالْعِلْمُ جِنْسٌ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الصِّنَاعَةُ ، كَمَا تَقُولُ : عِلْمُ النَّحْوِ أَيْ : صِنَاعَتُهُ ، وَحِينَئِذٍ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الظَّنُّ وَالْيَقِينُ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَرِدُ سُؤَالُ الْفِقْهِ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ ، وَمَنْ أَوْرَدَهُ فَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِاخْتِصَاصِ الْعِلْمِ بِالْقَطْعِيِّ . وَخَرَجَ بِالْأَحْكَامِ : الْعِلْمُ بِالذَّوَاتِ ، وَالصِّفَاتِ ، وَالْأَفْعَالِ . وَبِالشَّرْعِيَّةِ : الْعَقْلِيَّةُ ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى الشَّرْعِ . وَبِالْعَمَلِيَّةِ : عَنْ الْعِلْمِيَّةِ ، كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً . قَالَهُ الْإِمَامُ . وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ : خَرَجَ بِهِ أُصُولُ الْفِقْهِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَمَلِيٍّ ، أَيْ : لَيْسَ عِلْمًا بِكَيْفِيَّةِ عَمَلٍ . قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْهَا الْعَمَلُ ، فَكَيْفَ يَخْرُجُ بِالْعَمَلِيَّةِ ؟ وَقَالَ الْبَاجِيُّ : هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ أُصُولِ الدِّينِ . وَاعْلَمْ أَنَّ أُصُولَ الدِّينِ مِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ وَحْدَهُ كَوُجُودِ الْبَارِي ، وَمِنْهُ [ ص: 35 ] مَا ثَبَتَ بِكُلٍّ مِنْ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ كَالْوَحْدَانِيَّةِ ، وَهَذَانِ خَارِجَانِ بِقَوْلِهِ : الشَّرْعِيَّةِ ، وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالسَّمْعِ كَمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ ، وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ ، وَهَذَا مِنْ الْفِقْهِ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِهِ ، وَعَدَلَ الْآمِدِيُّ ، nindex.php?page=showalam&ids=12671وَابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ لَفْظِ " الْعَمَلِيَّةِ " إلَى الْفَرْعِيَّةِ ، لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَلَيْسَتْ عَمَلًا ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ ، لِأَنَّهَا عَمَلٌ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ " الْعَمَلِيَّةِ " أَشْمَلُ لِدُخُولِ وُجُوبِ اعْتِقَادِ مَسَائِلِ الدِّيَانَاتِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالسَّمْعِ ، فَإِنَّهَا مِنْ الْفِقْهِ كَمَا سَبَقَ بِخِلَافِ الْفَرْعِيَّةِ . وَبِالْمُكْتَسَبِ : عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَا يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ بِلَا اكْتِسَابٍ . وَبِالْأَخِيرِ : عَنْ اعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ ، فَإِنَّهُ مُكْتَسَبٌ مِنْ دَلِيلٍ إجْمَالِيٍّ : قَالَهُ الْإِمَامُ . وَقِيلَ : عِلْمُ الْمُقَلِّدِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحَدِّ بَلْ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ الْخِلَافِ . وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ : فَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=14958الْقَاضِي الْحُسَيْنُ : الْفِقْهُ افْتِتَاحُ عِلْمِ الْحَوَادِثِ عَلَى الْإِنْسَانِ . أَوْ افْتِتَاحُ شُعَبِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى الْإِنْسَانِ حَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَنْهُ فِي تَعْلِيقِهِ " . [ ص: 36 ] وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ : حَدُّهُ فِي الشَّرْعِ : عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِقَادِ عِلْمِ الْفُرُوعِ فِي الشَّرْعِ ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : فَقِيهٌ . قَالَ : وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ عِنْدِي : الِاسْتِنْبَاطُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=83لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } . وَاخْتِيَارُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " أَنَّهُ اسْتِنْبَاطُ حُكْمِ الْمُشْكِلِ مِنْ الْوَاضِحِ . قَالَ : وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=19251رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ } أَيْ : غَيْرُ مُسْتَنْبِطٍ وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ يَحْمِلُ الرِّوَايَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْتِدْلَالٌ وَاسْتِنْبَاطٌ فِيهَا . وَقَالَ فِي دِيبَاجَةِ كِتَابِهِ : وَمَا أُشَبِّهُ الْفَقِيهَ إلَّا بِغَوَّاصٍ فِي بَحْرِ دُرٍّ كُلَّمَا غَاصَ فِي بَحْرِ فِطْنَتِهِ اسْتَخْرَجَ دُرًّا ، وَغَيْرُهُ مُسْتَخْرِجٌ آجُرًّا . وَمِنْ الْمَحَاسِنِ قَوْلُ nindex.php?page=showalam&ids=11990الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ : الْفِقْهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا . قِيلَ : وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } . وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ " فِي بَيَانِ تَبْدِيلِ أَسَامِي الْعُلُومِ : إنَّ النَّاسَ تَصَرَّفُوا فِي اسْمِ الْفِقْهِ ، فَخَصُّوهُ بِعِلْمِ الْفَتَاوَى وَالْوُقُوفِ عَلَى وَقَائِعِهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ اسْمٌ لِمَعْرِفَةِ دَقَائِقِ آفَاتِ النُّفُوسِ ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْآخِرَةِ وَحَقَارَةِ الدُّنْيَا . قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=122لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا } [ ص: 37 ] وَالْإِنْذَارُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْعِلْمِ دُونَ تَفَارِيعِ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ . وَعَنْ nindex.php?page=showalam&ids=4أَبِي الدَّرْدَاءِ . لَا يَفْقَهُ الْعَبْدُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ ، ثُمَّ يُقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا . وَسَأَلَ فَرْقَدُ السِّنْجِيَّ الْحَسَنَ عَنْ شَيْءٍ : فَقَالَ : إنَّ الْفُقَهَاءَ يُخَالِفُونَك ، فَقَالَ الْحَسَنُ : ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ رَأَيْت فَقِيهًا بِعَيْنِك ؟ إنَّمَا الْفَقِيهُ هُوَ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا . الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ . الْبَصِيرُ بِذَنْبِهِ . الْمُدَاوِمُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ . الْوَرِعُ الْكَافُّ . وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَلِيمِيُّ فِي " الْمِنْهَاجِ " : إنَّ تَخْصِيصَ اسْمِ الْفِقْهِ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ حَادِثٌ . قَالَ : وَالْحَقُّ أَنَّ اسْمَ الْفِقْهِ يَعُمُّ جَمِيعَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي مِنْ [ ص: 38 ] جُمْلَتِهَا مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ ، وَوَحْدَانِيِّتِهِ ، وَتَقْدِيسِهِ ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ أَنْبِيَائِهِ ، وَرُسُلِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَمِنْهَا عِلْمُ الْأَحْوَالِ ، وَالْأَخْلَاقِ ، وَالْآدَابِ ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ . قُلْت : وَلِهَذَا صَنَّفَ nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبُو حَنِيفَةَ كِتَابًا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَسَمَّاهُ " الْفِقْهَ الْأَكْبَرَ " .
تَنْبِيهٌ : عُلِمَ مِنْ تَعْرِيفِهِمْ الْفِقْهَ بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ : أَنَّ الْمَسَائِلَ الْمُدَوَّنَةَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ لَيْسَتْ بِفِقْهٍ اصْطِلَاحًا ، وَأَنَّ حَافِظَهَا لَيْسَ بِفَقِيهٍ ، وَبِهِ صَرَّحَ nindex.php?page=showalam&ids=14751الْعَبْدَرِيُّ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ مِنْ شَرْحِ " الْمُسْتَصْفَى " . قَالَ : وَإِنَّمَا هِيَ نَتَائِجُ الْفِقْهِ ، وَالْعَارِفُ بِهَا فُرُوعِيٌّ ، وَإِنَّمَا الْفَقِيهُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الَّذِي يُنْتِجُ تِلْكَ الْفُرُوعَ عَنْ أَدِلَّةٍ صَحِيحَةٍ ، فَيَتَلَقَّاهَا مِنْهُ الْفُرُوعِيُّ تَقْلِيدًا وَيُدَوِّنُهَا وَيَحْفَظُهَا . وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ : هُمْ نَقَلَةُ فِقْهٍ لَا فُقَهَاءُ . وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=11815الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ " : الْفَقِيهُ مَنْ لَهُ الْفِقْهُ ، فَكُلُّ مَنْ لَهُ الْفِقْهُ فَقِيهٌ ، وَمَنْ لَا فِقْهَ لَهُ فَلَيْسَ بِفَقِيهٍ . قَالَ : وَالْفَقِيهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ . وَقَالَ الْغَزَالِيُّ : إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْفَقِيهُ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَسْمَعْهَا كَكَلَامِهِ فِي مَسْأَلَةٍ سَمِعَهَا : فَلَيْسَ بِفَقِيهٍ : حَكَاه عَنْهُ ابْنُ الْهَمْدَانِيُّ فِي طَبَقَاتِ الْحَنَفِيَّةِ " . [ ص: 39 ] وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ : الْفَقِيهُ مَنْ حَصَلَ لَهُ الْفِقْهُ . وَذَكَرَ nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " : nindex.php?page=treesubj&link=22246_20473_22322صِفَةَ الْمُفْتِي وَهُوَ الْفَقِيهُ فَذَكَرَ سَبْعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً تَأْتِي فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
أُصُولُ الْفِقْهِ لُغَةً : مَا اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْفِقْهُ ، وَلَمْ يَتِمَّ إلَّا بِهِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : مَجْمُوعُ طُرُقِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ ، وَحَالَةُ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا . فَقَوْلُنَا : " مَجْمُوعُ " لِيَعُمَّهَا ، فَإِذَنْ بَعْضُهَا بَعْضُ أُصُولِ الْفِقْهِ لَا كُلُّهَا . وَقَوْلُنَا : " طُرُقِ " لِيَعُمَّ الدَّلِيلَ وَالْأَمَارَةَ عَلَى اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ . وَخَرَجَ بِالْإِجْمَالِ : أَدِلَّةُ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ ، فَلَا يُقَالُ لَهَا فِي عُرْفِ الْأُصُولِيِّينَ : أُصُولُ فِقْهٍ ، وَإِنْ كَانَ التَّحْقِيقُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، إذْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ وَأَقَلُّ تَخْصِيصًا ، وَلِأَنَّهُ يُوَافِقُ قَوْلَنَا : هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ لِهَذَا الْحُكْمِ ، وَلِهَذَا الْبَابِ ، وَحِينَئِذٍ فَاِتِّخَاذُ الْأَدِلَّةِ فِي آحَادِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَيَكُونُ الْإِجْمَالُ شَرْطًا فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، لَا أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهَا ، أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا . قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَيُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الدَّلَائِلِ ، وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا ، وَالْبَاقِي كَالتَّابِعِ وَالتَّتِمَّةِ ، لَكِنْ لَمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِدْخَالِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَضْعًا أُدْخِلَ فِيهِ حَدًّا . [ ص: 40 ] قُلْت : وَعَلَيْهِ جَرَى الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " ، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " ، وَقَالَ : أُصُولُ الْفِقْهِ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ . ا هـ . بَلْ قَدْ يُقَالُ : الدَّلِيلُ هُوَ الْأَصْلُ بِالذَّاتِ ، وَالْبَاقِي بِالتَّبَعِ لِضَرُورَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلِيلِ . قَالَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ " . وَالْمُرَادُ بِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ هَاهُنَا الشُّرُوطُ وَالْمُقَدِّمَاتُ وَتَرْتِيبُهَا مَعَهُ ، لِيُسْتَدَلَّ بِالطُّرُقِ عَلَى الْفِقْهِ . هَذَا مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ ، وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي تَنْدَرِجُ فِيهَا الْجُزْئِيَّاتُ ، كَقَوْلِهِمْ : الْأَصْلُ فِي كُلِّ حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَنٍ . وَقَوْلِهِمْ : يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَنْدَرِجُ فِيهَا الْفُرُوعُ الْمُنْتَشِرَةُ ، وَعَلَيْهِ سَمَّى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ كِتَابَهُ " الْقَوَاعِدَ " ، وَيُقَالُ : إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ اخْتَرَعَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ . وَيُوجَدُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ مُتَفَرِّقَاتٌ مِنْهَا . هَلْ الْأُصُولُ هَذِهِ الْحَقَائِقُ أَنْفُسُهَا أَوْ الْعِلْمُ بِهَا ؟ طَرِيقَانِ . وَكَلَامُ nindex.php?page=showalam&ids=11939الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَدِلَّةِ ، وَعَلَيْهِ nindex.php?page=showalam&ids=13926الْبَيْضَاوِيُّ ، nindex.php?page=showalam&ids=12671وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا ، وَقَطَعَ nindex.php?page=showalam&ids=11815الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " وَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ بِأَنَّهُ نَفْسُ الْأَدِلَّةِ . وَوَجْهُ الْخِلَافِ أَنَّهُ كَمَا يَتَوَقَّفُ الْفِقْهُ عَلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ يَتَوَقَّفُ أَيْضًا عَلَى الْعِلْمِ بِهَا ، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ إطْلَاقُ أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى الْقَوَاعِدِ أَنْفُسِهَا ، وَعَلَى الْعِلْمِ بِهَا . وَالثَّانِي أَوْلَى لِوُجُوهٍ : [ ص: 41 ] أَحَدُهَا : أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ الشَّخْصُ . وَثَانِيهَا : أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَجْعَلُونَ أُصُولَ الْفِقْهِ لِلْمَعْلُومِ ، فَيَقُولُونَ : هَذَا كِتَابُ أُصُولِ الْفِقْهِ . وَثَالِثُهَا : أَنَّ الْأُصُولَ فِي اللُّغَةِ الْأَدِلَّةُ فَجَعَلَهُ اصْطِلَاحًا نَفْسَ الْأَدِلَّةِ أَقْرَبُ إلَى الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْعِلْمِ كَمَا سَبَقَ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ ، وَلَمْ يَتَوَارَدُوا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّقَبِيَّ ، وَهُوَ كَوْنُهُ عِلْمًا عَلَى هَذَا الْفَنِّ حَدَّهُ بِالْعِلْمِ ، وَمَنْ أَرَادَ الْإِضَافِيَّ حَدَّهُ بِنَفْسِ الْأَدِلَّةِ ، وَلِهَذَا لَمَّا جَمَعَ nindex.php?page=showalam&ids=12671ابْنُ الْحَاجِبِ بَيْنَهُمَا عَرَّفَ اللَّقَبِيَّ بِالْعِلْمِ ، وَالْإِضَافِيَّ بِالْأَدِلَّةِ . نَعَمْ : الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ عَرَّفَ اللَّقَبِيَّ بِالْأَدِلَّةِ ، يَجِبُ تَأْوِيلُهُ عَلَى إرَادَةِ الْعِلْمِ بِهَا . ثُمَّ nindex.php?page=treesubj&link=20750_20751_21368_21611_21696الْمُرَادُ بِالْأَدِلَّةِ : الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْقِيَاسُ ، وَالِاسْتِدْلَالُ . وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ : هِيَ ثَلَاثَةٌ : الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَمَنَعَا أَنْ تَكُونَ الْقَوَانِينُ الْكُلِّيَّةُ الظَّنِّيَّةُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ . وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ " : الَّذِي ارْتَضَاهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ مَا لَا يَنْبَغِي فِيهِ الْعِلْمُ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْمَقَايِيسِ لَا يُعَدُّ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَخْبَارُ الْآحَادِ وَالْمَقَايِيسُ لَا تُفْضِي إلَى الْعُلُومِ ، وَهِيَ مِنْ [ ص: 42 ] أَدِلَّةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ . قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُصُولِ تَثْبِيتُهَا أَدِلَّةً عَلَى وُجُوبِ الْأَعْمَالِ ، وَذَلِكَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ ، وَأَمَّا الْعَمَلُ الْمُتَلَقَّى مِنْهَا فَيَتَعَلَّقُ بِالْفِقْهِ دُونَ أُصُولِهِ . وَقَالَ فِي الْبُرْهَانِ " : فَإِنْ قِيلَ : مُعْظَمُ الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ ظُنُونٌ . قُلْنَا : لَيْسَتْ الظُّنُونُ فِقْهًا ، وَإِنَّمَا الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ قِيَامِ الظُّنُونِ . وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ : أَخْبَارُ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةُ لَا تُوجِبُ الْعَمَلَ لِذَوَاتِهَا ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا يَجِبُ بِهِ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ ، وَهُوَ الْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ رِوَايَةِ الْآحَادِ وَقِيَامِ الْأَقْيِسَةِ . قَالَ : وَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُوجَدَا إلَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَكِنْ حَظُّ الْأُصُولِيِّ إبَانَةُ الْقَاطِعِ فِي الْعَمَلِ بِهَا ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا لِيُبْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ ، وَيَرْتَبِطَ الدَّلِيلُ بِهِ ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ ، وَقَالَ : أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الدَّلِيلِ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسِ ، وَهُوَ خِلَافٌ هَيِّنٌ . .
أُصُولُ الْفِقْهِ : مُرَكَّبٌ تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مُفْرَدَاتِهِ مِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبُ لَا مِنْ حَيْثُ كُلُّ وَجْهٍ . [ تَعْرِيفُ الْأَصْلِ ] فَالْأُصُولُ : جَمْعُ أَصْلٍ ، وَأَصْلُ الشَّيْءِ ، مَا مِنْهُ الشَّيْءُ ، أَيْ : مَادَّتُهُ ، كَالْوَالِدِ لِلْوَلَدِ ، وَالشَّجَرَةِ لِلْغُصْنِ . وَرَدَّهُ الْقَرَافِيُّ بِاشْتِرَاكِ " مِنْ " بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالتَّبْعِيضِ ، وَبِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ هُنَا مَعْنًى مِنْ مَعَانِيهَا . وَأَجَابَ الْأَصْفَهَانِيُّ عَنْ الْأَوَّلِ : بِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ لَازِمٌ لَكِنْ يُصَارُ إلَيْهِ فِي الْحُدُودِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ بِغَيْرِهِ ، وَعَنْ الثَّانِي : بِأَنَّ " مِنْ " لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ . وَقَالَ الْآمِدِيُّ : مَا اسْتَنَدَ الشَّيْءُ فِي تَحْقِيقِهِ إلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ : مَا يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَتَبِعَهُ nindex.php?page=showalam&ids=12671ابْنُ الْحَاجِبِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يُقَالُ : إنَّ الْوَلَدَ يُبْنَى عَلَى الْوَالِدِ ، بَلْ يُقَالُ : فَرْعُهُ . [ ص: 25 ] وَقَالَ الْإِمَامُ : هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ احْتِيَاجُ الْأَثَرِ إلَى الْمُؤَثِّرِ لَزِمَ إطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ أُرِيدَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ لَزِمَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ . وَقَدْ الْتَزَمَهُ فِي الْمَبَاحِثِ الْمَشْرِقِيَّةِ " فَقَالَ : لَا تَبْعُدُ تَسْمِيَةُ الشُّرُوطِ وَانْدِفَاعُ الْمَوَانِعِ أُصُولًا بِاعْتِبَارِ تَوَقُّفِ وُجُودِ الشَّيْءِ عَلَيْهَا . وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=14667أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ " : كُلُّ مَا أَثْمَرَ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ وَنَبَّهَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَصْلٌ لَهُ ، فَعُلُومُ الْحِسِّ أَصْلٌ ، لِأَنَّهَا تُثْمِرُ مَعْرِفَةَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ ، وَمَا عَدَاهُ فَرْعٌ لَهُ . وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=15022الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ : الْأَصْلُ : مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ غَيْرُهُ ، وَالْفَرْعُ : مَا تَفَرَّعَ عَنْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا أَسَدُّ الْحُدُودِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقَالُ فِي الْكِتَابِ : إنَّهُ فَرْعٌ أَصْلُهُ الْحِسُّ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّاهُ وَجَعَلَهُ أَصْلًا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ . قَالَ : وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَصْلٌ ، لِأَنَّ غَيْرَهُمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهُمَا ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُ فُرُوقًا تَنْشَأُ عَنْهُ ، وَيَتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ جِهَتِهِ ، كَالْكِتَابِ أَصْلٌ لِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ ، وَكَالسُّنَّةِ أَصْلٌ لِمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَتِهَا ، وَهُوَ فَرْعٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنَّمَا عُرِفَ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْكِتَابُ أَوْ غَيْرُهُ ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ . قَالَ : وَقِيلَ : إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُقَالُ لَهُ : أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ ، لِأَنَّهُ فِعْلُ الْقَائِسِ ، وَلَا تُوصَفُ الْأَفْعَالُ بِالْأَصْلِ وَالْفَرْعِ . وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=16392الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ : الْأَصْلُ مَا عُرِفَ بِهِ حُكْمُ غَيْرِهِ ، وَالْفَرْعُ مَا عُرِفَ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ . [ ص: 26 ] وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=15151الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي " : قِيلَ : الْأَصْلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَالْفَرْعُ مَا دَلَّ عَلَى غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْكِتَابِ : إنَّهُ فَرْعٌ لِعِلْمِ الْحِسِّ ، لِأَنَّهُ الدَّالُّ عَلَى صِحَّتِهِ . هَذَا الِاعْتِرَاضُ يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعِبَارَاتِ السَّالِفَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فَلْيُتَأَمَّلْ . وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " : قِيلَ : الْأَصْلُ مَا انْبَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَقِيلَ : مَا يَقَعُ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ مَا وَرَاءَهُ وَهُمَا مَدْخُولَانِ ، لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ مَا هُوَ عَقِيمٌ لَا يَقْبَلُ الْفَرْعَ ، وَلَا يَقَعُ بِهِ التَّوَصُّلُ إلَى مَا وَرَاءَهُ بِحَالٍ ، كَدِيَةِ الْجَنِينِ وَالْقَسَامَةِ ، وَتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ ، فَهَذِهِ أُصُولٌ لَيْسَتْ لَهَا فُرُوعٌ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : الْأَصْلُ كُلُّ مَا ثَبَتَ دَلِيلًا فِي إيجَابِ حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لِيَتَنَاوَلَ مَا جَلَبَ فَرْعًا أَوْ لَمْ يَجْلِبْ . وَيُطْلَقُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى أُمُورٍ : أَحَدُهَا : الصُّورَةُ الْمَقِيسُ عَلَيْهَا عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقِيَاسِ فِي تَفْسِيرِ الْأَصْلِ . الثَّانِي : الرُّجْحَانُ ، كَقَوْلِهِمْ : الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ ، أَيْ : الرَّاجِحُ عِنْدَ السَّامِعِ هُوَ الْحَقِيقَةُ لَا الْمَجَازُ . الثَّالِثُ : الدَّلِيلُ ، كَقَوْلِهِمْ : أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْ : دَلِيلُهَا ، وَمِنْهُ أُصُولُ الْفِقْهِ أَيْ : أَدِلَّتُهُ . الرَّابِعُ : الْقَاعِدَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ ، كَقَوْلِهِمْ : إبَاحَةُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ . وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ ذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الصُّورَةَ الْمَقِيسَ عَلَيْهَا [ ص: 27 ] لَيْسَتْ مَعْنًى زَائِدًا ، لِأَنَّ أَصْلَ الْقِيَاسِ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مَحَلُّ الْحُكْمِ أَوْ دَلِيلُهُ أَوْ حُكْمُهُ ؟ وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَيْسَ مَعْنًى زَائِدًا ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَصْلُ الْقِيَاسِ دَلِيلَهُ فَهُوَ الْمَعْنَى السَّابِقُ ، وَإِنْ كَانَ مَحَلَّهُ أَوْ حُكْمَهُ فَهُمَا يُسَمَّيَانِ أَيْضًا دَلِيلًا مَجَازًا ، فَلَمْ يَخْرُجْ الْأَصْلُ عَنْ مَعْنَى الدَّلِيلِ . وَبَقِيَ عَلَيْهِ أُمُورٌ : أَحَدُهَا : التَّعَبُّدُ ، كَقَوْلِهِمْ : إيجَابُ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ . يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ الْقِيَاسُ . الثَّانِي : الْغَالِبُ فِي الشَّرْعِ ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِاسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِ الشَّرْعِ . الثَّالِثُ : اسْتِمْرَارُ الْحُكْمِ السَّابِقِ ، كَقَوْلِهِمْ : الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يُوجَدَ الْمُزِيلُ لَهُ . الرَّابِعُ : الْمَخْرَجُ ، كَقَوْلِ الْفَرْضِيِّينَ : أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ كَذَا .
[ nindex.php?page=treesubj&link=20750_20751_21368_21611_21696عَدَدُ الْأُصُولِ الَّتِي يُبْنَى الْفِقْهُ عَلَيْهَا ] ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْأُصُولِ ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ : الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْقِيَاسُ . قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ : وَقَدْ يُقْتَصَرُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، [ ص: 28 ] وَيُقَالُ : الْإِجْمَاعُ يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمَا ، وَالْقِيَاسُ الرَّدُّ إلَى أَحَدِهِمَا فَهُمَا أَصْلَانِ .
قَالَ فِي الْمَطْلَبِ " : وَفِيهِ مُنَازَعَةٌ لِمَنْ جَوَّزَ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ لَا عَنْ أَمَارَةٍ ، وَلَا عَنْ دَلَالَةٍ ، وَجُوِّزَ الْقِيَاسُ عَلَى الْمَحَلِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ .
وَاخْتَصَرَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : أَصْلٌ وَمَعْقُولُ أَصْلٍ ، فَالْأَصْلُ لِلْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ ، وَمَعْقُولُ الْأَصْلِ هُوَ الْقِيَاسُ .
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ : وَأَشَارَ nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ جِمَاعَ الْأُصُولِ نَصٌّ وَمَعْنًى ، فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ دَاخِلٌ تَحْتَ النَّصِّ ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْقِيَاسُ ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْعَقْلَ فَجَعَلَهَا خَمْسَةً .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ : الْأُصُولُ سَبْعَةٌ : الْحِسُّ ، وَالْعَقْلُ ، وَالْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْقِيَاسُ ، وَاللُّغَةُ .
وَالصَّحِيحُ : أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ . وَأَمَّا الْعَقْلُ : فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ يُوجِبُ شَيْئًا أَوْ يَمْنَعُهُ ، وَإِنَّمَا تُدْرَكُ بِهِ الْأُمُورُ فَحَسْبُ ، إذْ هُوَ آلَةُ الْعَارِفِ ، وَكَذَلِكَ الْحِسُّ لَا يَكُونُ دَلِيلًا بِحَالٍ ، لِأَنَّهُ يَقَعُ بِهِ دَرْكُ الْأَشْيَاءِ الْحَاضِرَةِ .
وَأَمَّا اللُّغَةُ : فَهِيَ مُدْرَكَةُ اللِّسَانِ ، وَمَطِيَّةٌ لِمَعَانِي الْكَلَامِ ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ مَعْرِفَةُ سِمَاتِ الْأَشْيَاءِ وَلَا حَظَّ لَهُ فِي إيجَابِ شَيْءٍ .
وَقَالَ الْجِيلِيُّ فِي الْإِعْجَازِ " : أَرْبَعَةٌ : الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، [ ص: 29 ] وَالْقِيَاسُ ، وَدَلِيلُ الْبَقَاءِ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ ، وَرَدَّهَا nindex.php?page=showalam&ids=15022الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ إلَى وَاحِدٍ فَقَالَ : أَصْلُ السَّمْعِ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَمَّا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْقِيَاسُ فَمُضَافٌ إلَى بَيَانِ الْكِتَابِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=89تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=38مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }
وَرُوِيَ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ ، وَقَالَ : مَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ؟ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ : قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مَا تَقُولُ ، فَقَالَ : إنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ فَقَدْ وَجَدْتِيهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وَأَنَّ { nindex.php?page=hadith&LINKID=62322النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ } . فَأَضَافَ nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ قَوْلَ الرَّسُولِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ ، وَعَلَى هَذَا إضَافَةُ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَصًّا .
قُلْت : وَوَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ nindex.php?page=showalam&ids=13790لِلشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمُحْرِمِ لِلزُّنْبُورِ .
قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=16392الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ : وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمَأْخُوذَ مِنْ السُّنَّةِ ، أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقِيَاسِ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِهِ سُبْحَانَهُ ، لِدَلَالَةِ كِتَابِهِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ ذَلِكَ كُلِّهِ . [ ص: 30 ]
[ تَعْرِيفُ الْفِقْهِ ] وَالْفِقْهُ لُغَةً : اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=13417ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ " : هُوَ الْعِلْمُ ، وَجَرَى عَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " ، وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ ، وَأَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيِّ ، وَالْمَاوَرْدِيُّ إلَّا أَنَّ حَمَلَةَ الشَّرْعِ خَصَّصُوهُ بِضَرْبٍ مِنْ الْعُلُومِ . وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ ابْنِ فَارِسٍ : أَنَّهُ إدْرَاكُ عِلْمِ الشَّيْءِ وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=14042الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ : هُوَ الْفَهْمُ . وَقَالَ الرَّاغِبُ : هُوَ التَّوَسُّلُ إلَى عِلْمٍ غَائِبٍ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْعِلْمِ . وَفِي الْمُحْكَمِ " nindex.php?page=showalam&ids=13247لِابْنِ سِيدَهْ : الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ وَالْفَهْمُ لَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ [ ص: 31 ] الْفَهْمُ ، لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْفَهْمَ بِمَعْرِفَةِ الشَّيْءِ بِالْقَلْبِ ، وَمَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِالْقَلْبِ هُوَ الْعِلْمُ بِهِ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْأَزْهَرِيِّ : فَهِمْت الشَّيْءَ عَقَلْته وَعَرَفْته ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُ nindex.php?page=showalam&ids=14042الْجَوْهَرِيِّ : فَهِمْت الشَّيْءَ فَهْمًا عَلِمْته . وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْفَهْمَ الْمُفَسَّرَ بِهِ الْفِقْهُ لَيْسَ فَهْمَ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ ، وَلَا فَهْمَ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ . وَنُقِلَ الْفِقْهُ إلَى عِلْمِ الْفُرُوعِ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ nindex.php?page=showalam&ids=13247ابْنُ سِيدَهْ حَيْثُ قَالَ : غَلَبَ عَلَى عِلْمِ الدِّينِ لِسِيَادَتِهِ وَشَرَفِهِ كَالنَّجْمِ عَلَى الثُّرَيَّا ، وَالْعُودِ عَلَى الْمِنْدَلِ . قَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ : وَقِيلَ : حَدُّهُ فِي اللُّغَةِ الْعِبَارَةُ عَنْ كُلِّ مَعْلُومٍ تَيَقَّنَهُ الْعَالَمُ بِهِ عَنْ فِكْرٍ . وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ " ، وَتَبِعَهُ فِي الْمَحْصُولِ " : فَهْمُ غَرَضُ الْمُتَكَلِّمِ ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُوصَفُ بِالْفَهْمِ حَيْثُ لَا كَلَامَ ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ الْفِقْهِ عَنْهُمْ مَنْقَصَةٌ وَلَا تَعْيِيرٌ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } . [ ص: 32 ] وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ بِمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ . وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=11815الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَصَاحِبُ اللُّبَابِ " . مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : فَهْمُ الْأَشْيَاءِ الدَّقِيقَةِ ، فَلَا يُقَالُ : فَقِهْت أَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَنَا . قَالَ الْقَرَافِيُّ : وَهَذَا أَوْلَى ، وَلِهَذَا خَصَّصُوا اسْمَ الْفِقْهِ بِالْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ ، فَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ فِي مَظِنَّةِ الْخَفَاءِ ، فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ : فَهِمْت أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُسَمَّ الْعَالِمُ بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَقِيهًا ، فَإِنْ احْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=91قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفَقُهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=78فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } . قُلْنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَهْمَ مِنْ الْخِطَابِ يُسَمَّى فِقْهًا ، لَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى فِقْهًا إلَّا مَا مَا كَانَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=179وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا } وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْفَهْمِ مِنْ الْخِطَابِ ، بَلْ عَدَمُ الْفَهْمِ مُطْلَقًا مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ ، وَطُرُقُ الِاعْتِبَارِ ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْفَهْمِ : الْإِدْرَاكُ ، لَا جُودَةُ الذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ تَهْيِئَتِهِ لِاقْتِنَاصِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَطَالِبِ خِلَافًا لِلْآمِدِيِّ . [ الذِّهْنُ ] وَالذِّهْنُ : عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّةِ النَّفْسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِاكْتِسَابِهَا الْحُدُودَ الْوُسْطَى وَالْآرَاءَ . وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ : الْفَهْمُ عِبَارَةٌ عَنْ إتْقَانِ الشَّيْءِ ، وَالثِّقَةِ بِهِ [ ص: 33 ] عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ بِهِ عَنْ نَظَرٍ ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ : نَظَرْت فَفَهِمْت ، وَلَا يُقَالُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : فَهِمَ . يُقَالُ : فَقِهَ - بِالْكَسْرِ - فَهُوَ فَاقِهٌ إذَا فَهِمَ ، وَفَقَهَ - بِالْفَتْحِ - فَهُوَ فَاقِهٌ أَيْضًا إذَا سَبَقَ غَيْرَهُ إلَى الْفَهْمِ ، وَفَقُهَ - بِالضَّمِّ - فَهُوَ فَقِيهٌ إذَا صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً ، وَاسْتُعْمِلَ لِاسْمِ فَاعِلِهِ فَقِيهٌ ، لِأَنَّ " فَعِيلًا " قِيَاسٌ فِي اسْمِ فَاعِلِ " فَعُلَ " ، وَوَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِهِمْ : أَنَّهُ اُخْتِيرَ لَهُ " فَعِيلٌ " ، لِأَنَّ " فَعِيلًا " لِلْمُبَالَغَةِ ، فَاسْتِعْمَالُهَا فِيمَنْ صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً أَوْلَى . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ . أَعْنِي دَعْوَى أَنَّ " فَعِيلًا " هَاهُنَا لِلْمُبَالَغَةِ ، لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُسْتَعْمَلَةَ لِلْمُبَالَغَةِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى صِيغَةٍ ، فَحُوِّلَتْ عَنْهَا إلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ لِلْمُبَالَغَةِ ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ مَا حُوِّلَ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ " فَاعِلٍ " ، [ إلَى ] " مِفْعَالٍ " أَوْ " فَعِيلٍ " أَوْ " فَعُولٍ " ، أَوْ " فُعُلٍ " ، وَأَمَّا فَقِيهٌ فَهُوَ قِيَاسٌ ، لِأَنَّ " فَعِيلًا " ، مَقِيسٌ فِي " فَعُلَ " ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا هُوَ قِيَاسُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلٍ ، نَحْوُ " عَلِيمٌ " وَ " شَفِيعٌ " ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُحَوِّلُهُمَا عَنْ شَافِعٍ وَعَالِمٍ ، لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ ، وَلَا مُخَلِّصَ عَنْ هَذَا إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّهُ خُولِفَ تَقْدِيرًا بِمَعْنَى أَنَّ الْوَاضِعَ ، حَوَّلَهُ عَنْ " فَاعِلٍ " لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ . فَإِنْ قُلْت : لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْفَقِيهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَجِيَّةٌ ، وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَهَاءِ : إنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ حَصَّلَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَإِنْ قَلَّ ، وَقَضِيَّةُ هَذَا حُصُولُهُ بِمُسَمَّى مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ . قُلْت : لَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَأَذْكُرُهُ مِنْ كَلَامِ nindex.php?page=showalam&ids=11815الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ ، وَالْغَزَالِيِّ ، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ مَنْ حَصَّلَ حَتَّى صَارَ لَهُ سَجِيَّةً وَإِنْ قُلْت . [ ص: 34 ] الْفِقْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ ] وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ : فَالْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُكْتَسَبُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ . فَالْعِلْمُ جِنْسٌ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الصِّنَاعَةُ ، كَمَا تَقُولُ : عِلْمُ النَّحْوِ أَيْ : صِنَاعَتُهُ ، وَحِينَئِذٍ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الظَّنُّ وَالْيَقِينُ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَرِدُ سُؤَالُ الْفِقْهِ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ ، وَمَنْ أَوْرَدَهُ فَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِاخْتِصَاصِ الْعِلْمِ بِالْقَطْعِيِّ . وَخَرَجَ بِالْأَحْكَامِ : الْعِلْمُ بِالذَّوَاتِ ، وَالصِّفَاتِ ، وَالْأَفْعَالِ . وَبِالشَّرْعِيَّةِ : الْعَقْلِيَّةُ ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى الشَّرْعِ . وَبِالْعَمَلِيَّةِ : عَنْ الْعِلْمِيَّةِ ، كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً . قَالَهُ الْإِمَامُ . وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ : خَرَجَ بِهِ أُصُولُ الْفِقْهِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَمَلِيٍّ ، أَيْ : لَيْسَ عِلْمًا بِكَيْفِيَّةِ عَمَلٍ . قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْهَا الْعَمَلُ ، فَكَيْفَ يَخْرُجُ بِالْعَمَلِيَّةِ ؟ وَقَالَ الْبَاجِيُّ : هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ أُصُولِ الدِّينِ . وَاعْلَمْ أَنَّ أُصُولَ الدِّينِ مِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ وَحْدَهُ كَوُجُودِ الْبَارِي ، وَمِنْهُ [ ص: 35 ] مَا ثَبَتَ بِكُلٍّ مِنْ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ كَالْوَحْدَانِيَّةِ ، وَهَذَانِ خَارِجَانِ بِقَوْلِهِ : الشَّرْعِيَّةِ ، وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالسَّمْعِ كَمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ ، وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ ، وَهَذَا مِنْ الْفِقْهِ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِهِ ، وَعَدَلَ الْآمِدِيُّ ، nindex.php?page=showalam&ids=12671وَابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ لَفْظِ " الْعَمَلِيَّةِ " إلَى الْفَرْعِيَّةِ ، لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَلَيْسَتْ عَمَلًا ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ ، لِأَنَّهَا عَمَلٌ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ " الْعَمَلِيَّةِ " أَشْمَلُ لِدُخُولِ وُجُوبِ اعْتِقَادِ مَسَائِلِ الدِّيَانَاتِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالسَّمْعِ ، فَإِنَّهَا مِنْ الْفِقْهِ كَمَا سَبَقَ بِخِلَافِ الْفَرْعِيَّةِ . وَبِالْمُكْتَسَبِ : عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَا يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ بِلَا اكْتِسَابٍ . وَبِالْأَخِيرِ : عَنْ اعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ ، فَإِنَّهُ مُكْتَسَبٌ مِنْ دَلِيلٍ إجْمَالِيٍّ : قَالَهُ الْإِمَامُ . وَقِيلَ : عِلْمُ الْمُقَلِّدِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحَدِّ بَلْ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ الْخِلَافِ . وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ : فَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=14958الْقَاضِي الْحُسَيْنُ : الْفِقْهُ افْتِتَاحُ عِلْمِ الْحَوَادِثِ عَلَى الْإِنْسَانِ . أَوْ افْتِتَاحُ شُعَبِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى الْإِنْسَانِ حَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَنْهُ فِي تَعْلِيقِهِ " . [ ص: 36 ] وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ : حَدُّهُ فِي الشَّرْعِ : عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِقَادِ عِلْمِ الْفُرُوعِ فِي الشَّرْعِ ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : فَقِيهٌ . قَالَ : وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ عِنْدِي : الِاسْتِنْبَاطُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=83لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } . وَاخْتِيَارُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " أَنَّهُ اسْتِنْبَاطُ حُكْمِ الْمُشْكِلِ مِنْ الْوَاضِحِ . قَالَ : وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=19251رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ } أَيْ : غَيْرُ مُسْتَنْبِطٍ وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ يَحْمِلُ الرِّوَايَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْتِدْلَالٌ وَاسْتِنْبَاطٌ فِيهَا . وَقَالَ فِي دِيبَاجَةِ كِتَابِهِ : وَمَا أُشَبِّهُ الْفَقِيهَ إلَّا بِغَوَّاصٍ فِي بَحْرِ دُرٍّ كُلَّمَا غَاصَ فِي بَحْرِ فِطْنَتِهِ اسْتَخْرَجَ دُرًّا ، وَغَيْرُهُ مُسْتَخْرِجٌ آجُرًّا . وَمِنْ الْمَحَاسِنِ قَوْلُ nindex.php?page=showalam&ids=11990الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ : الْفِقْهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا . قِيلَ : وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } . وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ " فِي بَيَانِ تَبْدِيلِ أَسَامِي الْعُلُومِ : إنَّ النَّاسَ تَصَرَّفُوا فِي اسْمِ الْفِقْهِ ، فَخَصُّوهُ بِعِلْمِ الْفَتَاوَى وَالْوُقُوفِ عَلَى وَقَائِعِهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ اسْمٌ لِمَعْرِفَةِ دَقَائِقِ آفَاتِ النُّفُوسِ ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْآخِرَةِ وَحَقَارَةِ الدُّنْيَا . قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=122لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا } [ ص: 37 ] وَالْإِنْذَارُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْعِلْمِ دُونَ تَفَارِيعِ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ . وَعَنْ nindex.php?page=showalam&ids=4أَبِي الدَّرْدَاءِ . لَا يَفْقَهُ الْعَبْدُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ ، ثُمَّ يُقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا . وَسَأَلَ فَرْقَدُ السِّنْجِيَّ الْحَسَنَ عَنْ شَيْءٍ : فَقَالَ : إنَّ الْفُقَهَاءَ يُخَالِفُونَك ، فَقَالَ الْحَسَنُ : ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ رَأَيْت فَقِيهًا بِعَيْنِك ؟ إنَّمَا الْفَقِيهُ هُوَ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا . الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ . الْبَصِيرُ بِذَنْبِهِ . الْمُدَاوِمُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ . الْوَرِعُ الْكَافُّ . وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَلِيمِيُّ فِي " الْمِنْهَاجِ " : إنَّ تَخْصِيصَ اسْمِ الْفِقْهِ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ حَادِثٌ . قَالَ : وَالْحَقُّ أَنَّ اسْمَ الْفِقْهِ يَعُمُّ جَمِيعَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي مِنْ [ ص: 38 ] جُمْلَتِهَا مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ ، وَوَحْدَانِيِّتِهِ ، وَتَقْدِيسِهِ ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ أَنْبِيَائِهِ ، وَرُسُلِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَمِنْهَا عِلْمُ الْأَحْوَالِ ، وَالْأَخْلَاقِ ، وَالْآدَابِ ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ . قُلْت : وَلِهَذَا صَنَّفَ nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبُو حَنِيفَةَ كِتَابًا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَسَمَّاهُ " الْفِقْهَ الْأَكْبَرَ " .
تَنْبِيهٌ : عُلِمَ مِنْ تَعْرِيفِهِمْ الْفِقْهَ بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ : أَنَّ الْمَسَائِلَ الْمُدَوَّنَةَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ لَيْسَتْ بِفِقْهٍ اصْطِلَاحًا ، وَأَنَّ حَافِظَهَا لَيْسَ بِفَقِيهٍ ، وَبِهِ صَرَّحَ nindex.php?page=showalam&ids=14751الْعَبْدَرِيُّ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ مِنْ شَرْحِ " الْمُسْتَصْفَى " . قَالَ : وَإِنَّمَا هِيَ نَتَائِجُ الْفِقْهِ ، وَالْعَارِفُ بِهَا فُرُوعِيٌّ ، وَإِنَّمَا الْفَقِيهُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الَّذِي يُنْتِجُ تِلْكَ الْفُرُوعَ عَنْ أَدِلَّةٍ صَحِيحَةٍ ، فَيَتَلَقَّاهَا مِنْهُ الْفُرُوعِيُّ تَقْلِيدًا وَيُدَوِّنُهَا وَيَحْفَظُهَا . وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ : هُمْ نَقَلَةُ فِقْهٍ لَا فُقَهَاءُ . وَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=11815الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ " : الْفَقِيهُ مَنْ لَهُ الْفِقْهُ ، فَكُلُّ مَنْ لَهُ الْفِقْهُ فَقِيهٌ ، وَمَنْ لَا فِقْهَ لَهُ فَلَيْسَ بِفَقِيهٍ . قَالَ : وَالْفَقِيهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ . وَقَالَ الْغَزَالِيُّ : إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْفَقِيهُ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَسْمَعْهَا كَكَلَامِهِ فِي مَسْأَلَةٍ سَمِعَهَا : فَلَيْسَ بِفَقِيهٍ : حَكَاه عَنْهُ ابْنُ الْهَمْدَانِيُّ فِي طَبَقَاتِ الْحَنَفِيَّةِ " . [ ص: 39 ] وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ : الْفَقِيهُ مَنْ حَصَلَ لَهُ الْفِقْهُ . وَذَكَرَ nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " : nindex.php?page=treesubj&link=22246_20473_22322صِفَةَ الْمُفْتِي وَهُوَ الْفَقِيهُ فَذَكَرَ سَبْعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً تَأْتِي فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
أُصُولُ الْفِقْهِ لُغَةً : مَا اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْفِقْهُ ، وَلَمْ يَتِمَّ إلَّا بِهِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : مَجْمُوعُ طُرُقِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ ، وَحَالَةُ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا . فَقَوْلُنَا : " مَجْمُوعُ " لِيَعُمَّهَا ، فَإِذَنْ بَعْضُهَا بَعْضُ أُصُولِ الْفِقْهِ لَا كُلُّهَا . وَقَوْلُنَا : " طُرُقِ " لِيَعُمَّ الدَّلِيلَ وَالْأَمَارَةَ عَلَى اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ . وَخَرَجَ بِالْإِجْمَالِ : أَدِلَّةُ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ ، فَلَا يُقَالُ لَهَا فِي عُرْفِ الْأُصُولِيِّينَ : أُصُولُ فِقْهٍ ، وَإِنْ كَانَ التَّحْقِيقُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، إذْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ وَأَقَلُّ تَخْصِيصًا ، وَلِأَنَّهُ يُوَافِقُ قَوْلَنَا : هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ لِهَذَا الْحُكْمِ ، وَلِهَذَا الْبَابِ ، وَحِينَئِذٍ فَاِتِّخَاذُ الْأَدِلَّةِ فِي آحَادِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَيَكُونُ الْإِجْمَالُ شَرْطًا فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، لَا أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهَا ، أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا . قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَيُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الدَّلَائِلِ ، وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا ، وَالْبَاقِي كَالتَّابِعِ وَالتَّتِمَّةِ ، لَكِنْ لَمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِدْخَالِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَضْعًا أُدْخِلَ فِيهِ حَدًّا . [ ص: 40 ] قُلْت : وَعَلَيْهِ جَرَى الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " ، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " ، وَقَالَ : أُصُولُ الْفِقْهِ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ . ا هـ . بَلْ قَدْ يُقَالُ : الدَّلِيلُ هُوَ الْأَصْلُ بِالذَّاتِ ، وَالْبَاقِي بِالتَّبَعِ لِضَرُورَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلِيلِ . قَالَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ " . وَالْمُرَادُ بِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ هَاهُنَا الشُّرُوطُ وَالْمُقَدِّمَاتُ وَتَرْتِيبُهَا مَعَهُ ، لِيُسْتَدَلَّ بِالطُّرُقِ عَلَى الْفِقْهِ . هَذَا مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ ، وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي تَنْدَرِجُ فِيهَا الْجُزْئِيَّاتُ ، كَقَوْلِهِمْ : الْأَصْلُ فِي كُلِّ حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَنٍ . وَقَوْلِهِمْ : يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَنْدَرِجُ فِيهَا الْفُرُوعُ الْمُنْتَشِرَةُ ، وَعَلَيْهِ سَمَّى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ كِتَابَهُ " الْقَوَاعِدَ " ، وَيُقَالُ : إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ اخْتَرَعَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ . وَيُوجَدُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ مُتَفَرِّقَاتٌ مِنْهَا . هَلْ الْأُصُولُ هَذِهِ الْحَقَائِقُ أَنْفُسُهَا أَوْ الْعِلْمُ بِهَا ؟ طَرِيقَانِ . وَكَلَامُ nindex.php?page=showalam&ids=11939الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَدِلَّةِ ، وَعَلَيْهِ nindex.php?page=showalam&ids=13926الْبَيْضَاوِيُّ ، nindex.php?page=showalam&ids=12671وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا ، وَقَطَعَ nindex.php?page=showalam&ids=11815الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " وَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ بِأَنَّهُ نَفْسُ الْأَدِلَّةِ . وَوَجْهُ الْخِلَافِ أَنَّهُ كَمَا يَتَوَقَّفُ الْفِقْهُ عَلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ يَتَوَقَّفُ أَيْضًا عَلَى الْعِلْمِ بِهَا ، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ إطْلَاقُ أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى الْقَوَاعِدِ أَنْفُسِهَا ، وَعَلَى الْعِلْمِ بِهَا . وَالثَّانِي أَوْلَى لِوُجُوهٍ : [ ص: 41 ] أَحَدُهَا : أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ الشَّخْصُ . وَثَانِيهَا : أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَجْعَلُونَ أُصُولَ الْفِقْهِ لِلْمَعْلُومِ ، فَيَقُولُونَ : هَذَا كِتَابُ أُصُولِ الْفِقْهِ . وَثَالِثُهَا : أَنَّ الْأُصُولَ فِي اللُّغَةِ الْأَدِلَّةُ فَجَعَلَهُ اصْطِلَاحًا نَفْسَ الْأَدِلَّةِ أَقْرَبُ إلَى الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْعِلْمِ كَمَا سَبَقَ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ ، وَلَمْ يَتَوَارَدُوا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّقَبِيَّ ، وَهُوَ كَوْنُهُ عِلْمًا عَلَى هَذَا الْفَنِّ حَدَّهُ بِالْعِلْمِ ، وَمَنْ أَرَادَ الْإِضَافِيَّ حَدَّهُ بِنَفْسِ الْأَدِلَّةِ ، وَلِهَذَا لَمَّا جَمَعَ nindex.php?page=showalam&ids=12671ابْنُ الْحَاجِبِ بَيْنَهُمَا عَرَّفَ اللَّقَبِيَّ بِالْعِلْمِ ، وَالْإِضَافِيَّ بِالْأَدِلَّةِ . نَعَمْ : الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ عَرَّفَ اللَّقَبِيَّ بِالْأَدِلَّةِ ، يَجِبُ تَأْوِيلُهُ عَلَى إرَادَةِ الْعِلْمِ بِهَا . ثُمَّ nindex.php?page=treesubj&link=20750_20751_21368_21611_21696الْمُرَادُ بِالْأَدِلَّةِ : الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْقِيَاسُ ، وَالِاسْتِدْلَالُ . وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ : هِيَ ثَلَاثَةٌ : الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَمَنَعَا أَنْ تَكُونَ الْقَوَانِينُ الْكُلِّيَّةُ الظَّنِّيَّةُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ . وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ " : الَّذِي ارْتَضَاهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ مَا لَا يَنْبَغِي فِيهِ الْعِلْمُ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْمَقَايِيسِ لَا يُعَدُّ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَخْبَارُ الْآحَادِ وَالْمَقَايِيسُ لَا تُفْضِي إلَى الْعُلُومِ ، وَهِيَ مِنْ [ ص: 42 ] أَدِلَّةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ . قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُصُولِ تَثْبِيتُهَا أَدِلَّةً عَلَى وُجُوبِ الْأَعْمَالِ ، وَذَلِكَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ ، وَأَمَّا الْعَمَلُ الْمُتَلَقَّى مِنْهَا فَيَتَعَلَّقُ بِالْفِقْهِ دُونَ أُصُولِهِ . وَقَالَ فِي الْبُرْهَانِ " : فَإِنْ قِيلَ : مُعْظَمُ الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ ظُنُونٌ . قُلْنَا : لَيْسَتْ الظُّنُونُ فِقْهًا ، وَإِنَّمَا الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ قِيَامِ الظُّنُونِ . وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ : أَخْبَارُ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةُ لَا تُوجِبُ الْعَمَلَ لِذَوَاتِهَا ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا يَجِبُ بِهِ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ ، وَهُوَ الْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ رِوَايَةِ الْآحَادِ وَقِيَامِ الْأَقْيِسَةِ . قَالَ : وَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُوجَدَا إلَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَكِنْ حَظُّ الْأُصُولِيِّ إبَانَةُ الْقَاطِعِ فِي الْعَمَلِ بِهَا ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا لِيُبْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ ، وَيَرْتَبِطَ الدَّلِيلُ بِهِ ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ ، وَقَالَ : أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الدَّلِيلِ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسِ ، وَهُوَ خِلَافٌ هَيِّنٌ . .