الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرام ، لما روى أبو مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن حلوان الكاهن ومهر البغي } وعن الزهري " في امرأة زنت بمال عظيم قال : لا يصلح لمولاها أكله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي " فإن كان معه حلال وحرام كره مبايعته ، والأخذ منه ، لما روى النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات وسأضرب لكل في ذلك مثلا : إن الله تعالى حمى حمى وإن حمى الله حرام ، وإن من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى } وإن بايعه وأخذ منه جاز ، لأن الظاهر مما في يده أنه له فلا يحرم الأخذ منه )

                                      [ ص: 427 ]

                                      التالي السابق


                                      الخلط في البلد حرام لا ينحصر بحلال لا ينحصر لم يحرم الشراء منه بل يجوز الأخذ منه إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنها [ ص: 418 ] من الحرام فإن لم يقترن فليس بحرام ، ولكن تركه ورع محبوب ، وكلما كثر الحرام تأكد الورع . ولو اعتلفت الشاة علفا حراما أو رعت في حشيش حرام لم يحرم لبنها ولحمها ولكن تركه ورع ، لأن اللحم واللبن ليس هو عين العلف ، ولو امتنع من أكل طعام حلال لكونه حمله كافر أو فاسق بالزنا أو بالقتل ونحوه ، لم يكن هذا ورعا بل هو وسواس وتنطع مذموم . ولو اشترى طعاما في الذمة وقضى ثمنه من حرام نظر إن سلم البائع إليه الطعام ، قبل قبض الثمن بطيب قلبه فأكله قبل قضاء الثمن فهو حلال بالإجماع ، ولا يكون تركه ورعا مؤكدا ، ثم إن قضى الثمن بعد الأكل فأداه من الحرام فكأنه لم يقضه ، فيبقى الثمن في ذمته ، ولا ينقلب ذلك الطعام المأكول حراما ، فإن أبرأه البائع من الثمن مع علمه بأنه حرام برئ المشتري ، وإن أبرأه ظانا حل الثمن لم تحصل البراءة ، لأنه إنما أبرأه براءة استيفاء ، ولا تحصل بذلك الاستيفاء . وإن لم يسلم إليه بطيب قلبه بل أخذه المشتري قهرا فأكله فالأكل حرام ، سواء أكله قبل توفية الثمن أو بعد توفيته من الحرام ، لأن للبائع حق حبس المبيع حتى يقبض الثمن على الصحيح ، فيكون عاصيا بأكله كعصيان الراهن إذا أكل الطعام المرهون بغير إذن المرتهن ، وهو أخف تحريما من أكل المغصوب .

                                      ( أما ) إذا أوفى الثمن الحرام ثم قبض المبيع - فإن علم البائع بأن الثمن حرام وأقبض المبيع برضاه سقط حقه من الحبس ، وبقي الثمن له في الذمة ، ويكون أكل المشتري المبيع حلالا ، وإن لم يعلم البائع كون الثمن حراما ، وكان بحيث لو علم لما رضي به ، ولما أقبض المبيع لم يسقط حق الحبس بهذا التدليس فالأكل حينئذ حرام كتحريم أكل طعامه المرهون ، والامتناع من الأكل في هذا ورع منهم .

                                      [ ص: 419 ] ولو اشترى سلطان أو غيره شيئا بثمن في الذمة شراء صحيحا وقبضه برضا البائع قبل توفية الثمن ، ثم وهبه لإنسان ، وكان في مال المشتري حلال وحرام ، ولم يعلم من أين يوفيه الثمن ؟ لم يحرم على الإنسان الموهوب له ولكن الورع تركه ، ويتأكد الورع أو يخف بحسب كثرة الحرام في يد المشتري وقلته . ولو اشترى إنسان شيئا في الذمة وفى ثمنه عنبا لمن عرف باتخاذ الخمر ، أو سيفا لمن عرف بقطع الطريق ، ونحو ذلك ، كره أكل ذلك المشتري ، ولم يحرم ، ولو حلف لا يلبس غزل زوجته فباعت غزلها ووهبته الثمن لم يكره أكله فإن تركه فليس بورع بل وسواس . ومن الورع المحبوب ترك ما اختلف العلماء في إباحته اختلافا محتملا ، ويكون الإنسان معتقدا مذهب إمام يبيحه ، ومن أمثلته الصيد والذبيحة إذا لم يسم عليه فهو حلال عند الشافعي ، حرام عند الأكثرين ، والورع لمعتقد مذهب الشافعي ترك أكله .

                                      ( وأما ) المختلف فيه الذي يكون في إباحته حديث صحيح بلا معارض ، وتأويله ممتنع . أو بعيد ، فلا أثر لخلاف من منعه ، فلا يكون تركه ورعا محبوبا ، فإن الخلاف في هذه الحالة لا يورث شبهة ، وكذلك إذا كان الشيء متفقا عليه ، ولكن دليله خبر آحاد ، فتركه إنسان لكون بعض الناس منع الاحتجاج بخبر الواحد ، فهذا الترك ليس بورع ، بل وسواس ، لأن المانع للعمل بخبر الواحد لا يعتد به ، وما زالت الصحابة فمن بعدهم على العمل بخبر الواحد . قال : ولو أوصى بمال للفقهاء فالفاضل في الفقه مدخل في الوصية ، والمبتدئ من شهر ونحوه لا يدخل فيه ، والمتوسط بينهما درجات يجتهد [ ص: 420 ] المفتي فيهما ، والورع لهذا المتوسط ترك الأخذ منها ، وإن أفتاه المفتي فإنه داخل في الوصية ، قال : وكذا الصدقات المصروفة إلى المحتاجين قد يتردد في حقيقة الحاجة ، وكذا ما يجب من نفقة الأقارب وكسوة الزوجات وكفاية العلماء في بيت المال .



                                      ( فرع ) قال الغزالي في الإحياء : إذا قدم لك إنسان طعاما ضيافة ، أو أهداه لك ، أو أردت شراءه منه ، ونحو ذلك ، لم يطلق الورع فإنك تسأل عن حله ، ولا يترك السؤال [ بل ] قد يجب وقد يحرم ، وقد يندب ، وقد يكره ، وضابطه أن مظنة السؤال هي موضع الريبة ، ولها حالان ( أحدهما ) يتعلق بالمالك ( والثاني ) بالملك ( أما ) الأول فالمالك ثلاثة أضرب : ( الضرب الأول ) أن يكون مجهولا ، وهو من ليس فيه علامة تدل على طيب ماله ولا فساده ، فإذا دخلت قرية فرأيت رجلا لا تعرف من حاله شيئا ، ولا عليه علامة فساد ماله وشبهه كهيئة الأجناد ، ولا علامة طيبة كهيئة المتعبدين والتجار ، فهو مجهول ، ولا يقال مشكوك فيه ، لأن الشك عبارة عن اعتقادين متقابلين لهما سببان مختلفان ، قال : وأكثر الفقهاء لا يدركون الفرق بين ما لا يدرى ، وبين ما يشك فيه ، فالورع ترك ما لا يدرى ويجوز الشراء من هذا المجهول ، وقبول هديته وضيافته ، ولا يجب السؤال بل لا يجوز ، والحالة هذه ، لأنه إيذاء لصاحب الطعام ، فإن أراد الورع فليتركه ، وإن كان لا بد من أكله فليأكل ولا يسأل ، فإن الإقدام على ترك السؤال أهون من كسر قلب مسلم وإيذائه .

                                      ( الضرب الثاني ) أن يكون مشكوكا فيه بأن يكون عليه دلالة تدل على عدم تقواه كلباس أهل الظلم وهيئاتهم ، أو ترى منه فعلا محرما تستدل به على تساهله في المال ، فيحتمل أن يقال : يجوز الأخذ منه من غير سؤال ، ولا يحرم الهجوم ، بل السؤال ورع ، ويحتمل أن يقال : [ ص: 421 ] لا يجوز الهجوم ، ويجب السؤال ، قال : وهو الذي نختاره ونفتي به إذا كانت تلك العلامة تدل على أن أكثر ماله حرام ، فإن دلت على أن فيه حراما يسيرا كان السؤال ورعا .

                                      ( الضرب الثالث ) أن يعلم بممارسة ونحوها بحيث يحصل له ظن في حل ماله أو تحريمه ، بأن يعرف صلاح الرجل وديانته ، فهنا لا يجب السؤال ولا يجوز ، أو يعرف أنه مراب أو مغن ونحوه ، فيجب السؤال ( الحال الثاني ) أن يتعلق الشك بالمال ، بأن يختلط حلال بحرام ، كما إذا حصل في السوق أحمال طعام مغصوب ، واشتراها أهل السوق فلا يجب السؤال على من يشتري من تلك السوق إلا أن يظهر أن أكثر ما في أيديهم حرام ، فيجب السؤال ، وما لم يكن الأكثر حراما يكون التفتيش ورعا لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يمتنعوا من الشراء من الأسواق ، وكانوا لا يسألون في كل عقد ، وإنما نقل السؤال عن بعضهم في بعض الأحوال لريبة كانت .



                                      ( فرع ) قال الغزالي في الإحياء : لو كان في يد ناظر الأوقاف أو الوصايا مالان ، أحدهما لموصوفين بصفة ، والآخر لموصوفين بصفة أخرى ، فأراد إنسان فيه صفة أحدهما دون الآخر أن يأخذ من الناظر شيئا ، فإن كانت تلك الصفة ظاهرة يعرفها المتولي وهو ظاهر العدالة ، جاز الأخذ من غير سؤال ، وإن كانت الصفة خفية أو عرف من حال المتولي التساهل ، وأنه لا يبالي بخلط المالين ، وجب السؤال ، لأنه ليس هنا علامة ولا استصحاب يعتمد .

                                      ( فرع ) قال : ويجوز أن يشتري دارا من دور البلد ، وإن علم أن فيه دورا مغصوبة لأن ذلك اختلاط بغير محصور ، والسؤال هنا ورع واحتياط ، ولو كان في البلد عشر دور فيها واحدة مغصوبة ، أو وقف ولا يعرفها وجب السؤال لأنه محصور . ولو كان في البلد مدارس أو [ ص: 422 ] رباطات ، خصص بعضها بالمنسوبين إلى مذهب معين ، لم يجز أن يسكن في شيء منها ، ولا يأكل من وقفها حتى يسأل ويتبين الصواب .

                                      ( فرع ) قال : حيث قلنا : السؤال ورع فليس له أن يسأل صاحب الطعام والمال ، لأن ذلك يغيظه فلا يرتكب إيذاء مسلم لتحصيل أمر مندوب قال : وإنما أوجبنا السؤال إذا كان الأكثر حراما ، وعند ذلك لا نبالي بغيظه فإن الظالم يؤذي بأكثر من هذا ، قال الحارث المحاسبي : لو كان له أخ أو صديق يأمن غيظه لو سأله فينبغي أن لا يسأله أيضا للورع ، لأنه ربما ظهر منه شيء كان مستورا يؤدي إلى البغضاء ، قال الغزالي : وهذا حسن . قال : ( فإن قيل ) لا فائدة في سؤال من بعض ماله حرام ( فالجواب ) أنه متى كان في مال الإنسان حرام مختلط ، فأردت مبايعته أو الأكل من ضيافته أو هديته أو نحو ذلك ، لم يكف سؤاله ولا فائدة فيه ، وإنما يسأل غيره ، وإنما ينفع سؤال صاحب اليد إذا كان ثقة غير متهم ، كمتولي الأوقاف من أي جهة هذا المال ؟ وكما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذي أتى به هل هو هدية أم صدقة ؟ فإن ذلك لا يؤذي المسئول ، ولا يتهم فيه . وله سؤال خادمه وعبده الثقة ، ومتى سأل فأخبره ثقة اعتمده ، فإن أخبره فاسق وعلم بقرينة الحال أنه لا يكذب من حيث إنه لا غرض له جاز له قبوله ، لأن المطلوب من السؤال ثقة النفس ، وقد تحصل بقول الفاسق ، فإن أخبره صبي مميز معروف بالتثبيت جاز قبوله ، ومتى وجب السؤال فتعارض قول عدلين أو فاسقين سقطا ويجوز أن يرجح بقلبه أحدهما ، وبكثرة المخبرين وبمعرفتهم .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : لو نهب متاع مخصوص فصادف من ذلك [ ص: 423 ] النوع شيئا يباع واحتمل أن يكون من المنهوب ، فإن كان ذلك في يد من عرف بالصلاح جاز شراؤه ، وكان تركه ورعا ، وإن كان رجلا مجهولا - فإن كان ذلك النوع كثيرا في البلد من غير المنهوب - جاز الشراء منه ، وإن كان لا يوجد هناك غير المنهوب إلا نادرا فليس هنا دليل للحل سوى اليد ، وقد عارضها علامة خاصة ، وهي شكل المتاع المنهوب ، فالامتناع من شرائه ورع منهم ، وفي تحريمه نظر .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : خادم الصوفية إذا خرج إلى السوق والبيوت وجمع طعاما وغيره ، ثم قدمه للصوفية حل لهم أكله ، ويحل لغيرهم الأكل منه برضاء الخادم ، ولا يحل بغير رضاه ، وهكذا لو كان للرجل عيال وأعطى له الناس شيئا بسبب عياله ، يكون ذلك ملكا للرجل لا للعيال ، وله أن يطعم منه غير العيال ، وكذا ما يعطاه الخادم يقع ملكا له وإنما يطعم الصوفية وفاء بالمروءة .

                                      ( فرع ) قال الغزالي : الوقف على الصوفية لغيرهم أن يأكل معهم منه برضاهم ، وإنما يأكل مرة أو مرتين ونحوهما لأن معنى الوقف على الصوفية الصرف إلى مصالحهم ، ومبنى الأطعمة على المسامحة ، ولا يجوز لمن لم يكن صوفيا الأكل معهم من الوقف على الدوام ، وإن رضوا ، لأنه ليس لهم تغيير شرط الواقف بمشاركة غير جنسهم ( وأما ) الفقيه إذا كان على زيهم وأخلاقهم فله النزول عليهم ، أو كونه صوفيا ، وليس الجهل شرطا للتصوف . قال : ولا يلتفت إلى حركات بعض الحمقى ، وقولهم : العلم حجاب ، بل الجهل هو الحجاب وكذا العلم المذموم .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : قد يعطي الإنسان غيره المال تبرعا لكونه محتاجا وقد يعطيه لنسبه أو صلاحه أو نحو ذلك ، فإن علم الآخذ أنه [ ص: 424 ] يعطيه لحاجته ، لم يحل له أخذه إن لم يكن محتاجا ، وإن علم أنه يعطيه لشرف نسبه لم يحل له أخذه إن كان حادثا في النسب ، وإن أعطاه لعلمه لم يحل له أخذه إلا أن يكون في العلم كما يعتقده المعطي ، وإن أعطاه لدينه وصلاحه لم يحل له الأخذ إن كان فاسقا في الباطن فسقا لو علمه المعطي لما أعطاه .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : الأرض المغصوبة إذا جعلت شارعا لم يجز المرور فيها ، فإن لم يكن لها مالك معين جاز ، والورع اجتنابه إن أمكن العدول عنها فإن كانت الأرض وعليها ساباط مغصوب الأخشاب ونحوها جاز المرور تحته ، فإن قعد تحته لدفع حر أو برد أو مطر ونحوه فهو حرام ; لأن السقف لا يراد إلا لهذا ، قال : وكذا لو كانت أرض المسجد مباحة وسقف بحرام جاز المرور فيه ولا يجوز الجلوس لدفع حر أو برد ونحو ذلك ، لأنه انتفاع بالحرام ، هذا كلام الغزالي ، وفي قوله نظر ، والمختار أنه لا يحرم القعود في هاتين الصورتين وهو من باب الانتفاع بضوء سراج غيره والنظر في مرآته من غير أن يستولي عليهما وهما جائزان بلا خلاف .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : المواضع التي بناها الظلمة كالقناطر والربط والمساجد والسقايات ينبغي أن يحتاط فيها ( أما ) القناطر فيجوز العبور عليها للحاجة والورع اجتنابه ، وإنما جوزنا العبور ، وإن وجد عنها معدلا ، لأن تلك الآلات إذا لم يعرف لها مالك كان حكمها أن ترصد للمصالح وهذا منها ، وإذا عرف أن الأحجار واللبن مغصوبة من إنسان أو من مسجد أو مقبرة ونحوها فإنه يحرم العبور عليها إلا لضرورة يحل بها ذلك من مال الغير ثم يجب الاستحلال من المالك الذي يعرفه .

                                      ( وأما ) المسجد فإن بني من أرض مغصوبة أو خشب مغصوب من مسجد آخر أو ملك إنسان معين فيحرم دخوله لصلاة الجمعة وغيرها ، وإن كان من مال لا يعرف مالكه فالورع العدول إلى مسجد آخر ، فإن [ ص: 425 ] لم يجد لم يترك الجمعة والجماعة ، لأنه يحتمل أنه بناه بماله ويحتمل أنه ليس له مالك معروف ، فيكون للمصالح .

                                      ( وأما ) السقايات فحكمها ما ذكرناه فالورع ترك الوضوء والشرب منها وترك دخولها إلا أن يخاف فوات وقت الصلاة . ( وأما ) الرباط والمدرسة فإن كانت أرضها مغصوبة أو الأكناف كاللبن والحجارة وأمكن ردها إلى مالكها لم يجز دخولها وإن اشتبه فله دخولها والمكث فيها والورع تركه .

                                      قال الغزالي : إذا أمر السلطان بدفع شيء من خزانته لإنسان يستحق في بيت المال شيئا ، وعلم أن الخزانة فيها الحلال والحرام ، كما هو الغالب في هذه الأزمان ، والحلال في أيدي سلاطين هذه الأزمان عزيز أو معدوم وإذا كان محتملا كونه من الحلال أو كونه من الحرام فقد قال قوم : يجوز أخذه ما لم يتيقن أنه حرام ، وقال آخرون : لا يجوز حتى يتحقق أنه حلال ، قال : وكلاهما إسراف والأعدل أنه إن كان الأكثر حراما حرم ، وإن كان حلالا ففيه توقف ، هذا كلام الغزالي وهو جار على اختياره أنه إذا كان المختلط أكثره حراما حرم الأخذ منه ، وقد قدمنا أن المشهور أنه مكروه وليس بحرام ، وهكذا مثال خزانة السلطان يكون مكروها قال الغزالي : واحتج من جوزه بأن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أخذوا من السلاطين الظلمة ، ونوابهم الظلمة ، منهم أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو أيوب وزيد بن ثابت وجرير بن عبد الله وابن عمر وابن عباس وأنس والمسور بن مخرمة والحسن البصري والشعبي وإبراهيم النخعي وابن أبي ليلى والشافعي وأخذ ابن عمر من الحجاج ، والشافعي من هارون الرشيد ، وأخذ مالك من الخلفاء أموالا كثيرة ، وإنما ترك من ترك منهم الأخذ تورعا .

                                      وعن [ ص: 426 ] ابن عمر أنه قبل هدية المختار بن أبي عبيد ، وزعمت هذه الفرقة أن ما نقل من امتناع جماعة لا يدل على تحريم ، وكما أن الخلفاء الراشدين وأبا ذر وآخرين من الزهاد ، تركوا الحلال المطلق ، الذي لا شبهة فيه زهدا . قال الغزالي : والجواب عن هذا أنه قليل محصور بالإضافة إلى ما نقل من ردهم وإنكارهم ، أو يحمل على أنهم تحققوا أن ذلك القدر المصروف إليهم من جهة حلال ، فحينئذ يكون المدفوع إليهم حلالا ولا يضرهم كون يد السلطان مشتملة على حرام منفصل عن هذا ، أو يحمل على أنهم أخذوه وصرفوه في مصارف بيت المال ، وقد قال جماعة منهم : أخذنا له كله وصرفنا إياه في المحتاجين خير من تركه في يد السلطان ، ولهذا قال ابن المبارك : إن الذين يأخذون اليوم الجوائز ويحتجون بابن عمر وعائشة ، لا يقتدون بهما ، لأن ابن عمر فرق ما أخذ حتى استقرض في مجلسه بعد أن فرق ستين ألفا ، وكذا فعلت عائشة رضي الله عنها وكذا فعل الشافعي ، أخذ من هارون الرشيد وفرقه في الحال ، فلم يدخر منه حبة ، ومع هذا فإن الأموال في زمن الخلفاء الأوائل بعد الراشدين كان ما عند السلطان منها غالبه حلال ، بخلاف الأموال التي في أيدي السلاطين في هذه الأزمان ، فإن معظمها حرام ، والحلال فيها قليل جدا .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : مال المصالح لا يجوز صرفه إلا لمن فيه مصلحة عامة ، أو هو محتاج عاجز عن الكسب مثل من يتولى أمرا تتعدى مصلحته إلى المسلمين ، ولو اشتغل بالكسب لتعطل عليه ما هو فيه ، فله في بيت المال كفايته ، فيدخل فيه جميع أنواع علماء الدين ، كعلم التفسير والحديث والفقه والقراءة ونحوها ، ويدخل فيه طلبة هذه العلوم والقضاة والمؤذنون والأجناد ويجوز أن يعطى هؤلاء مع الغنى ، ويكون قدر العطاء إلى رأي السلطان ، وما تقتضيه المصلحة ، ويختلف بضيق المال وسعته .



                                      [ ص: 427 ] فرع ) قال الغزالي : لو لم يدفع السلطان إلى كل المستحقين حقوقهم من بيت المال ، فهل يجوز لأحدهم أخذ شيء من بيت المال ؟قال : فيه أربعة مذاهب ( أحدها ) لا يجوز أخذ شيء أصلا ولا حبة ، لأنه مشترك ولا يدرى حصته منه حبة أو دانق أو غيرهما ، فهذا غلو ( والثاني ) يأخذ كل يوم قوت يومه فقط ( والثالث ) يأخذ كفايته سنة ( والرابع ) يأخذ ما يعطى وهو حصته ، والباقون يظلمون ، قال الغزالي : وهذا هو القياس لأن المال ليس مشتركا بين المسلمين كالغنيمة بين الغانمين ، والميراث بين الورثة ، لأن ذلك ملك لهم حتى لو ماتوا قسم بين ورثتهم ، وهنا لو مات لم يستحق وارثه إرث شيء ، وهذا إذا صرف إليه ما يليق صرفه إليه .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : إذا بعث السلطان إلى إنسان مالا ليفرقه على المساكين فإن عرف أن ذلك المال مغصوب لإنسان بعينه : لم يجز له أخذه وتفرقته ، لكن يكره ذلك إن قارنته مفسدة بحيث يغتر به جهال ويعتقدون طيب أموال السلطان ، أو يجب بقاء ذلك السلطان مع ظلمه ، قال : وينبغي أن يتجنب معاملة السلطان وعلمائه وأعوانه وعمالهم .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : الأسواق التي بناها السلاطين بالأموال الحرام تحرم التجارة فيها وسكناها ، فإن سكنها بأجرة وكسب شيئا بطريق شرعي كان عاصيا بسكناه ، ولا يحرم كسبه ، وللناس أن يشتروا منه ، ولكن إن وجدوا سوقا أخرى فالشراء منها أولى لأن الشراء من الأولى إعانة لسكانها وترغيب في سكناها ، وكثرة أجرتها ، والله سبحانه وتعالى أعلم .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : لو كان في يده مال مغصوب من الناس معين ، فاختلط بماله ، ولم يتميز ، وأراد التوبة ، فطريقه أن يتراضى هو وصاحب المغصوب بالقسمة ، فإن امتنع المغصوب منه من ذلك رفع التائب [ ص: 428 ] الأمر إلى القاضي ليقبض عنه ، فإن لم يجد قاضيا حكم رجلا متدينا لقبض ذلك ، فإن عجز تولى هو بنفسه ذلك ، ويعزل قدر ذلك فيه الصرف إلى المغصوب منه سواء كان دراهم أو حبا أو دهنا أو غيره من نحو ذلك ، فإذا فعل ذلك حل له الباقي ، فلو أراد أن يأكل من ذلك المختلط وينفق منه قبل تمييز قدر المغصوب فقد قال قائلون : يجوز ذلك ما دام قدر المغصوب باقيا ولا يجوز أخذ الجميع ، وقال آخرون : لا يجوز له أخذ شيء منه حتى يميز قدر المغصوب بنية الإبدال والتوبة .



                                      ( فرع ) من ورث مالا ولم يعلم من أين كسبه مورثه ، أمن حلال أم من حرام ؟ ولم تكن علامة ، فهو حلال بإجماع العلماء ، فإن علم أن فيه حراما وشك في قدره أخرج قدر الحرام بالاجتهاد .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه - فإن كان له مالك معين - وجب صرفه إليه أو إلى وكيله ، فإن كان ميتا وجب دفعه إلى وارثه ، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة ، كالقناطر والربط والمساجد ومصالح طريق مكة ، ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه ، وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء ، وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفا فإن لم يكن عفيفا لم يجز التسليم إليه ، فإن سلمه إليه صار المسلم ضامنا ، بل ينبغي أن يحكم رجلا من أهل البلد دينا عالما فإن التحكيم أولى من الانفراد ، فإن عجز عن ذلك تولاه بنفسه ، فإن المقصود هو الصرف إلى هذه الجهة ، وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حراما على الفقير ، بل يكون حلالا طيبا ، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرا ، لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم ، بل هم أولى من يتصدق عليه ، وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته لأنه أيضا فقير . [ ص: 429 ] وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب ، وهو كما قالوه ، نقله الغزالي أيضا عن معاوية بن أبي سفيان وغيره من السلف ، عن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما من أهل الورع ، لأنه لا يجوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر ، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين ، والله سبحانه وتعالى أعلم .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : إذا وقع في يده مال حرام من يد السلطان قال قوم : يرده إلى السلطان ، فهو أعلم بما يملك ، ولا يتصدق به ، واختار الحارث المحاسبي هذا وقال آخرون : يتصدق به إذا علم أن السلطان لا يرده إلى المالك لأن رده إلى السلطان تكثير للظلم ، قال الغزالي : والمختار أنه إن علم أنه لا يرده على مالكه فيتصدق به عن مالكه .

                                      ( قلت : ) المختار أنه إن علم أن السلطان يصرفه في مصرف باطل أو ظن ذلك ظنا ظاهرا لزمه هو أن يصرفه في مصالح المسلمين مثل القناطر وغيرها فإن عجز عن ذلك أو شق عليه لخوف أو غيره ، تصدق به على الأحوج ، فالأحوج ، وأهم المحتاجين ضعاف أجناد المسلمين وإن لم يظن صرف السلطان إياه في باطل فليعطه إليه أو إلى نائبه إن أمكنه ذلك من غير ضرر ، لأن السلطان أعرف بالمصالح العامة وأقدر عليها ، فإن خاف من الصرف إليه ضررا صرفه هو في المصارف التي ذكرناها فيما إذا ظن أنه يصرفه في باطل .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : إذا كان في يده مال بعضه حلال وبعضه فيه شبهة ، وله عيال ، ولا يفضل عن حاجته ، فليخص نفسه بالحلال ، ثم بمن يعول ، وإذا ترددت حاجة نفسه بين القوت واللباس وبين غيرهما ، كأجرة الحجام والصباغ والقصار والحمال ، ودهن السراج وعمارة المنزل ، وتعهد الدابة وثمن الحطب ، ونحو ذلك فليخص بالحلال قوته ولباسه ، فإن [ ص: 430 ] تعارضا فيحتمل أن يخص القوت بالحلال ، لأنه يمتزج بلحمه ودمه ، ولأكل الحرام والشبهة أثر في قساوة القلب ( وأما ) الكسوة ففائدتها دفع الحر والبرد ، والستر عن الأعين ، وذلك يحصل ، وقال المحاسبي ، يخص الكسوة بالحلال لأنها تبقى مدة ، وهذا يحتمل أيضا ، ولكن الأول أظهر .

                                      ( فرع ) قال الغزالي : الحرام الذي في يده حيث قلنا : يتصدق به كما سبق فيتصدق به على الفقراء أو يوسع عليهم ، وإذا أنفق على نفسه حيث جوزناه فليضيق ما أمكنه ، وما أنفق على عياله فليقتصد ، ولكن بين التوسعة والتضييق فإن ضافه إنسان - فإن كان فقيرا - وسع عليه ، وإن كان غنيا لم يطعمه شيئا أصلا منه ، إلا أن يكون في برية أو نحوها ، بحيث لا يجد شيئا فيطعمه ، فإنه حينئذ في معنى الفقير ، فإن عرف من حال الفقير أنه لو علم ذلك المال لتورع عنه ، أحضر الطعام وأخبره بالحال ليكون قد جمع بين حق الضيافة وترك الخداع ، ولا يكتفي بأن ذلك الفقير لا يدري لأن الحرام إذا حصل في المعدة أثر في قساوة القلب وإن لم يعرف آكله .

                                      ( فرع ) قال الغزالي : إذا كان الحرام أو الشبهة في يد أبيه أو أمه ، فليمتنع من مؤاكلتهما ، فإن كرها امتناعه لم يوافقهما على الحرام ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، بل ينهاهما ، وإن كان ذلك شبهة يريد تركه للورع فقد عارضه طلب رضاهما وهو واجب ، فليتلطف في الامتناع ، فإن عجز فليأكل وليقلل من ذلك ، وليصغر اللقمة ويطل المضغة ، ولا يتوسع منه ، قال : والأخت والأخ قريب من الأب والأم ، فإن حقهما مؤكد ، قال : وكذلك إذا ألبسته أمه ثوبا من شبهة ، وكانت تسخط لو رده ، فليقبله وليلبسه بين يديها ، وينزعه إذا غاب عنها ويجتهد أن لا يصلي فيه إلا بحضرتها .

                                      [ ص: 431 ] فرع ) قال الغزالي إذا لم يكن في يده إلا مال حرام محض فلا حج عليه ولا زكاة ولا تلزمه كفارة مالية ، فإن كان مال شبهة فليس بحرام محض ، لزمه الحج إن أبقاه في يده ، لأنه محكوم بأنه ملكه ، وكذا الباقي .

                                      ( فرع ) قال الغزالي : إذا كان في يده مال حرام لا يعرف له صاحب ، وجوزنا إنفاقه على نفسه للحاجة كما سبق تفصيله ، فأراد أن يتطوع بالحج ، فإن كان ماشيا جاز ، وإن كان يحتاج إلى مركوب لم يجز ، لأنا جوزنا له الأكل للحاجة ، ولا نجوز ما لا ضرورة إليه كما لا يجوز له شراء المركوب في البلد من هذا المال .



                                      ( فرع ) قال الغزالي : من خرج إلى الحج بمال فيه شبهة فليجتهد أن يكون قوته في جميع طريقه من حلال ، فإن عجز فليكن من حين الإحرام إلى التحليل وليجتهد في الحلال في يوم عرفة ، والله سبحانه أعلم . وهذا آخر الفروع التي انتخبتها من إحياء علوم الدين ، وبالله التوفيق .



                                      ( فرع ) قال ابن المنذر : اختلفوا في مبايعة من يخالط ماله حرام ، وقبول هديته وجائزته ، فرخص فيه الحسن ومكحول والزهري والشافعي ، قال الشافعي : ولا أحب ذلك ، وكره ذلك طائفة ، قال : وكان ممن لا يقبل ذلك ابن المسيب والقاسم بن محمد وبشر بن سعيد والثوري ومحمد بن واسع وابن المبارك وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين .




                                      الخدمات العلمية