الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 283 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( 213 ) )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فهدى الله ، فوفق [ الله ] الذين آمنوا وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصدقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه .

وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه ، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فوفقهم لإصابته : "الجمعة" ، ضلوا عنها وقد فرضت عليهم كالذي فرض علينا ، فجعلوها"السبت" ، فقال صلى الله عليه وسلم : " نحن الآخرون السابقون " ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، وهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، فهدانا الله له فلليهود غدا وللنصارى بعد غد" .

4059 - حدثنا بذلك محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عياض بن دينار الليثي ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم . فذكر الحديث .

4060 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي هريرة : " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه " [ ص: 284 ] قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، نحن أول الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي هدانا الله له والناس لنا فيه تبع ، غدا اليهود ، وبعد غد للنصارى" .

وكان مما اختلفوا فيه أيضا ما قال ابن زيد ، وهو ما : -

4061 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " فهدى الله الذين آمنوا " للإسلام ، واختلفوا في الصلاة ، فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس ، فهدانا للقبلة .

واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم بعض يوم ، وبعضهم بعض ليلة ، وهدانا الله له . واختلفوا في يوم الجمعة ، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد ، فهدانا الله له . واختلفوا في إبراهيم ، فقالت اليهود كان يهوديا ، وقالت النصارى كان نصرانيا! فبرأه الله من ذلك ، وجعله حنيفا مسلما ، وما كان من المشركين للذين يدعونه من أهل الشرك . واختلفوا في عيسى ، فجعلته اليهود لفرية ، وجعلته النصارى ربا ، فهدانا الله للحق فيه . فهذا الذي قال جل ثناؤه : " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه " .

قال أبو جعفر : فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد ، وبما [ ص: 285 ] جاء به لما اختلف - هؤلاء الأحزاب من بنى إسرائيل الذين أوتوا الكتاب - فيه من الحق بإذنه أن وفقهم لإصابة ما كان عليه من الحق من كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية ، إذ كانوا أمة واحدة ، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن ، فصاروا بذلك أمة وسطا ، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس . كما : -

4062 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع : " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " ، فهداهم الله عند الاختلاف ، أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف : أقاموا على الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف ، واعتزلوا الاختلاف ، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة ، كانوا شهداء على قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وآل فرعون ، أن رسلهم قد بلغوهم ، وأنهم كذبوا رسلهم . وهي في قراءة أبي بن كعب : ( وليكونوا شهداء على الناس ) يوم القيامة ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . فكان أبو العالية يقول : في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن .

4063 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " ، يقول : اختلف الكفار فيه ، فهدى الله الذين آمنوا للحق من ذلك; وهي في قراءة ابن مسعود : " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا عنه" ، عن الإسلام . [ ص: 286 ]

قال أبو جعفر : وأما قوله : " بإذنه" ، فإنه يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له ، وقد بينا معنى"الإذن" إذ كان بمعنى العلم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا .

وأما قوله : " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ، فإنه يعني به : والله يسدد من يشاء من خلقه ويرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه ، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيا بينهم ، فسددهم لإصابة الحق والصواب فيه .

قال أبو جعفر : وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحق : من أن كل نعمة على العباد في دينهم أو دنياهم ، فمن الله جل وعز .

فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " ؟ أهداهم للحق ، أم هداهم للاختلاف ؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم! وإن كان هداهم للحق ، فكيف قيل " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " ؟

قيل : إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه ، وإنما معنى ذلك : فهدى الله الذين آمنوا للحق فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه ، فكفر بتبديله بعضهم ، وثبت على الحق والصواب فيه بعضهم - وهم أهل التوراة الذين بدلوها - فهدى الله مما للحق بدلوا وحرفوا ، الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

قال أبو جعفر : فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة ، فقال وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت ، و"من" إنما هي في كتاب الله في"الحق" و"اللام" في قوله : " لما اختلفوا فيه " ، وأنت تحول"اللام" في"الحق" ، و"من" في"الاختلاف" ، في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبا ؟ [ ص: 287 ]

قيل : ذلك في كلام العرب موجود مستفيض ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبهم بمنطقهم ، فمن ذلك قول الشاعر :


كانت فريضة ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم



وإنما الرجم فريضة الزنا . وكما قال الآخر :


إن سراجا لكريم مفخره     تحلى به العين إذا ما تجهره



وإنما سراج الذي يحلى بالعين ، لا العين بسراج .

وقد قال بعضهم : إن معنى قوله" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق " ، أن أهل الكتب الأول اختلفوا ، فكفر بعضهم بكتاب بعض ، وهي كلها من عند الله ، فهدى الله أهل الإيمانبمحمد للتصديق بجميعها .

وذلك قول ، غير أن الأول أصح القولين ؛ لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية