الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 533 ] أنواع إنكار المنكر ومتى يسوغ للمرء

ترك الإنكار باليد، وباللسان؟

فإنه قد علم من قواعد الشريعة أن وظائف الإنكار ثلاث:

أولها: الإنكار باليد، وذلك بتغيير المنكر وإزالته. ثانيها: الإنكار باللسان مع عدم استطاعة التغيير باليد. ثالثها: الإنكار بالقلب عند عدم استطاعة التغيير باليد واللسان. فإن انتفى أحدهما، لم ينتف الآخر.

ومثاله مرور فرد من أفراد العلماء بأحد المكاسين، وهو يأخذ أموال المظلومين. فهذا الفرد من علماء الدين، لا يستطيع التغيير باليد على هذا الذي يأخذ أموال المساكين، ولا باللسان؛ لأنه إنما يكون سخرة لأهل العصيان. فانتفى شرط الإنكار بالوظيفتين، فلم يبق إلا الإنكار بالقلب، الذي هو أضعف الإيمان.

فيجب على من رأى ذلك العالم ساكتا عن الإنكار، مع مشاهدة ما يأخذ ذلك الجبارون: أن يعتقد أنه تعذر عليه الإنكار باليد واللسان، وأنه قد أنكر بقلبه، فإن حسن الظن بالمسلمين أهل الدين واجب، والتأويل لهم ما أمكن لازب.

فالداخلون إلى الحرم الشريف، والمشاهدون لتلك الأبنية الشيطانية التي فرقت شمل الدين، وشتتت صلاة المسلمين، معذورون عن الإنكار إلا بالقلب؛ كالمارين على المكاسين، وعلى القبوريين.

ومن هنا يعلم اختلال ما استقر عند أئمة الاستدلال من قولهم في بعض [ ص: 534 ] ما يستدلون عليه بالإجماع: «إنه وقع ولم ينكر، فكان إجماعا». ووجه اختلاله: أن قولهم: «ولم ينكر» رجم بالغيب، فإنه قد يكون أنكرته قلوب كثيرة، تعذر عليها الإنكار باليد واللسان. وإنك تشاهد في زمانك: أنه كم من أمر يقع لا تنكره بلسانك ولا بيدك، وأنت منكر له بالقلب، ويقول الجاهل إذا رآك تشاهده: سكت فلان عن الإنكار بقوله، إما لائما أو متأسيا بسكوته. فالسكوت لا يستدل به عارف.

وكذا يعلم اختلال قولهم في الاستدلال: «فعل فلان كذا، أو سكت الباقون، فكان إجماعا»، وهذا مختل من جهتين:

الأولى: دعوى أن سكوت الباقين تقرير لفعل فلان؛ لما عرف من عدم دلالة السكوت على التقرير.

والثانية: قولهم: فكان إجماعا، فإن الإجماع اتفاق أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، والساكت لا ينسب إليه وفاق ولا خلاف، حتى يعرب عنه لسانه.

قال بعض الملوك -وقد أثنى الحاضرون على شخص من عماله، وفيهم رجل ساكت-: ما لك لا تقول كما يقولون؟ فقال: إن تكلمت، خالفتهم.

فما كل سكوت رضا، فإن هذه المنكرات أسسها بيده السيف والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلمه، فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفع ما أراد؟!

هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه، غالب -بل كل- من يعمرها، هم الملوك والسلاطين، والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم، أو على من يحسنون الظن فيه؛ من عالم، أو فاضل، أو صوفي، أو فقير، أو شيخ، أو كبير، ويزوره الناس [ ص: 535 ] الذين يعرفونه زيارة الأموات، من دون توسل به، ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم. فيأتي من بعدهم من يرى قبرا قد شيد عليه البناء، وسرجت عليه الشموع، وفرش بالفراش الفاخر، وأرخيت عليه الستور، وألقيت عليه الأوراد والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر، ويأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضرر، وبفلان النفع، حتى يغرسوا في جبلته كل باطل. ولهذا الأمر ثبت في الأحاديث اللعن على من سرج على القبور، وكتب عليها، وبنى عليها، وأحاديث ذلك واسعة معروفة. فهذا في نفسه منهي عنه، ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة.

فإن قلت: هذا قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد عمرت عليه قبة عظيمة، أنفقت فيها الأموال.

التالي السابق


الخدمات العلمية