الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
آراء الأئمة في كيفية زيارة النبي

وفي «المبسوط»: قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن يسلم ويمضي. ونص الإمام أحمد على أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره. [ ص: 560 ] وبالجملة: فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وتنازعوا، هل يستقبله عند السلام أم لا؟ انتهى.

قلت: وأما الآن، فرأيت الناس في المسجد الشريف إذا سلم الإمام عن الصلاة، قاموا في مصلاهم مستقبلين القبر الشريف، راكعين له، ومنهم من يلتصق بالسرادق، ويطوف حوله، وكل ذلك حرام باتفاق أهل العلم، وفيه ما يجر الفاعل إلى الشرك. ومن أعظم البدع المحرمة هجوم النسوة حول حجرة المرقد المنور، وقيامهن هناك في أكثر الأوقات، وتشويشهن على المصلين بالسؤال، وتكلمهن مع الرجال كاشفات الأعين والوجوه، فإنا لله إلى ما ذهب بهم إبليس العدو؟! وفي أي هوة أوقعهم في لباس الدين وزي الحسنات؟!

قال شيخ الإسلام: وفي الحديث دليل على منع شد الرحل إلى قبره -صلى الله عليه وسلم-، وإلى قبر غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها أعيادا، بل من أعظم أسباب الشرك بأصحابها.

قال في «فتح المجيد»: وهذه هي المسألة التي أفتى فيها شيخ الإسلام، أعني: من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء [و]الصالحين، ونقل فيها اختلاف العلماء. فمن مبيح لذلك؛ كالغزالي، وأبي محمد المقدسي. ومن مانع لذلك؛ كابن بطة، وابن عقيل، وأبي محمد الجويني، والقاضي عياض، وهو قول الجمهور، نص عليه مالك، ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب؛ لحديث شد الرحال إلى ثلاثة مساجد كما في «الصحيحين». انتهى.

[ ص: 561 ] وأقول: هذه الطوائف الجمة التي تجتمع بعد فريضة الحج إلى مدينة النبي-صلى الله عليه وسلم- وتدخلالمسجد الشريف النبوي، ثم تزور قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هاجمة، هي التي تتخذه عيدا، بلا شك ولا شبهة. ومنهم من يفعل هناك أفعالا ليس عليها أثارة من دين ولا علم. فيا لله من هذه المخالفة الظاهرة لأمره -صلى الله عليه وسلم-، ولسيرة سلف هذه الأمة وأئمتها! ومما تقدم تبين لك أن مذهب مالك أقوى المذاهب في هذا الباب.

ومن فضل الله تعالى أنه لم يخالفه أحد من الأئمة المجتهدين، ولم تجمع الأمة على هذا السفر الزيارة الكدائية، ولا على اتخاذه عيدا ولا مسجدا. ولكن العامة أحدثوا كل منكر، واستحسنه أهل الأهواء والبدع والإشراك، فشاعت بدعتهم في كل بلدة، واتخذها الناس سنة، ورأوها موجبة للأجر والثواب، ولم يعلموا أنها توجب العذاب والعقاب. لأن الإتيان بما لم يأمر به الله ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يرد به نص في الكتاب والسنة، بل نهيا عنه نهيا صريحا مؤكدا مشددا أشد التشديد لا يأتي إلا بشر وبلية وسيئة، وإن كان في الظاهر والمنظر حسنا. وقد ورد في الأحاديث: أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فمن زعم في هذه البدعة أنه يؤجر عليها، فإنه ملبوس عليه، مغرور به من جهة عدو الله إبليس الرجيم. وما أحسن الاقتصار في أمثال هذه المسائل على الطريقة المأثورة عن سلف هذه الأمة، وأولها؛ فإنهم كانوا أعلم بالله، وبعظمة رسوله من سائر الأمة إلى يوم القيامة، ومن أراد أن يزيد عليهم في الحسنات، وفي محبة الله، وتعظيم رسوله، فهو محلى بالجهل، مخلى عن العلم، معزول عن الدين، مخذول من جهة رب العالمين، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، وليس في يده من الإسلام إلا اسمه، ومن الدين إلا رسمه، وهذا لا يغنيه عن شيء أصلا، لا في الدنيا ولا في الدين.

[ ص: 562 ] والاستدلال بهذا الحديث على النهي عن اتخاذ قبره الشريف عيدا، والنهي عن شد الرحال إلى مشاهد الصلحاء والأولياء والأنبياء أوضح شيء، بخلاف حديث شد الرحال؛ فإن في الاحتجاج به على هذا المراد نوع خفاء. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية