الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان معنى التوسل بالمخلوق وحكمه

وأما التوسل إلى الله سبحانه بأحد من خلقه، وفي مطلب يطلبه العبد من ربه، فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: إنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إن صح الحديث فيه.

ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي في "سننه" والترمذي وصححه، وابن ماجه، وغيرهم: أن أعمى أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إني أصبت في بصري، فادع الله لي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "توضأ، وصل ركعتين" ثم قال: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد! إني أستشفع بك في رد بصري، اللهم شفع النبي في".

وقال: "فإن كان لك حاجة، فمثل ذلك" فرد الله بصره.


وللناس في معنى هذا قولان:

أحدهما: أن التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب، لما قال: كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. وهو في "صحيح البخاري" وغيره.

فقد ذكر عمر -رضي الله عنه-: أنهم كانوا يتوسلون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته في الاستسقاء، ثم توسل بعمه العباس بعد موته.

وتوسلهم هو استسقاؤهم، بحيث يدعو، ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى.

[ ص: 49 ] والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في مثل هذا شافع وداعيا لهم.

والقول الثاني: أن التوسل به -صلى الله عليه وسلم- يكون في حياته، وبعد موته، وفي حضرته ومغيبه.

ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به في حياته، وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعا سكوتيا; لعدم إنكار أحد منهم على عمر -رضي الله عنه- في توسله بالعباس رضي الله عنه.

وعندي: أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين:

الأول: ما عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله عنهم.

والثاني: أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة؛ إذ لا يكون الفاضل فاضلا إلا بأعماله.

فإذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني، فهو باعتبار ما قام به من العلم.

وقد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، وأن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله، فارتفعت الصخرة.

فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز، أو كان شركا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب; كابن عبد السلام، ومن قال بقوله من أتباعه، لم تحصل الإجابة من الله لهم، ولا سكت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم.

[ ص: 50 ] وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل إلى الله بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، ونحو قوله تعالى: فلا تدعوا مع الله أحدا ، ونحو قوله تعالى له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء ليس بوارد، بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبي عنه.

فإن قولهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى مصرح بأنهم عبدوهم لذلك.

والمتوسل بالعالم مثلا، لم يعبده، بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم، فتوسل به لذلك.

وكذلك قوله: فلا تدعوا مع الله أحدا فإنه نهى عن أن يدعى مع الله غيره، كأن يقول: بالله، وبفلان، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله، وإنما وقع منه التوسل إليه بعمل صالح عمله بعض عباده، كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم.

وكذلك قوله: والذين تدعون من دونه الآية، فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم، ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله، ولم يدع غيره دونه، ولا دعا غيره معه.

وإذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النزاع خروجا زائدا على ما ذكرناه، كاستدلالهم بقوله تعالى: [ ص: 51 ] وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله [الانفطار: 19] فإن هذه الآية الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى المنفرد بالأمر في يوم الدين، وأنه ليس لغيره من الأمر شيء.

والمتوسل بنبي من الأنبياء، أو عالم من العلماء، وهو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله -جل جلاله- في أمر يوم الدين، ومن اعتقد هذا لعبد من العباد، سواء كان نبيا أو غير نبي، فهو في ضلال مبين.

وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله: ليس لك من الأمر شيء قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا فإن هاتين الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أمر الله شيء، وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف يملك غيره؟! وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء، أو الأولياء، أو العلماء.

وقد جعل الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- المقام المحمود، مقام الشفاعة العظمى، وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك، ويطلبوه منه، وقال له: "سل تعطه، واشفع تشفع" وقيد ذلك في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه، ولا تكون إلا لمن ارتضى، ولعله يأتي تحقيق هذا المقام إن شاء الله تعالى.

وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله: لما نزل قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين : "يا فلان بن فلان! لا أملك لك من الله شيئا، يا فلانة بنت فلان! لا أملك لك من الله شيئا" فإن هذا ليس فيه إلا التصريح بأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يستطيع نفع من أراد الله تعالى ضره، ولا ضر من أراد الله تعالى نفعه، وأنه لا يملك لأحد من قرابته -فضلا عن غيرهم- شيئا من الله.

وهذا معلوم لكل مسلم، وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله، فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر والنهي.

[ ص: 52 ] وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبه ما يكون سببا للإجابة، ممن هو المنفرد بالعطاء والمنع، وهو مالك يوم الدين.

التالي السابق


الخدمات العلمية