الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) .

فقال بعضهم : يعني بذلك : على كل ربع من أرباع الدنيا جزءا منهن .

ذكر من قال ذلك :

6013 - حدثني المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) قال : اجعلهن في أرباع الدنيا : ربعا ههنا ، وربعا ههنا ، وربعا ههنا ، وربعا ههنا ، ( ثم ادعهن يأتينك سعيا ) . [ ص: 506 ]

6014 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) قال : لما أوثقهن ذبحهن ، ثم جعل على كل جبل منهن جزءا .

6015 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قال : أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن ، ثم يجزئهن على أربعة أجبل ، فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن ، وأمسك برءوسهن بيده ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبضعة إلى البضعة ، وذلك بعين خليل الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - . ثم دعاهن فأتينه سعيا على أرجلهن ، ويلقي إلى كل طير برأسه . وهذا مثل آتاه الله إبراهيم ، يقول : كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها .

6016 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذبحهن ، ثم قطعهن ، ثم خلط بين لحومهن وريشهن ، ثم قسمهن على أربعة أجزاء ، فجعل على كل جبل منهن جزءا ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبضعة إلى البضعة ، وذلك بعين خليل الله إبراهيم . ثم دعاهن فأتينه سعيا ، يقول : شدا على أرجلهن . وهذا مثل أراه الله إبراهيم ، يقول : كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة ، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها .

6017 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم : أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذ الأطيار الأربعة ، ثم قطع [ ص: 507 ] كل طير بأربعة أجزاء ، ثم عمد إلى أربعة أجبال ، فجعل على كل جبل ربعا من كل طائر ، فكان على كل جبل ربع من الطاووس ، وربع من الديك ، وربع من الغراب وربع من الحمام . ثم دعاهن فقال : " تعالين بإذن الله كما كنتن " فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن ، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه . ثم أقبلن إليه سعيا ، كما قال الله . وقيل : يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد ، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها ، وشامها ويمنها . فأراه الله إحياء الموتى بقدرته ، حتى عرف ذلك - يعني ما قال نمروذ من الكذب والباطل - .

6018 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) قال : فأخذ طاووسا ، وحمامة ، وغرابا ، وديكا ، ثم قال : فرقهن ، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه . فقطعهن وفرقهن أرباعا على الجبال ، ثم دعاهن فجئنه جميعا ، فقال الله : كما ناديتهن فجئنك ، فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعد هذا ، فكذلك أجمع هؤلاء - أيضا يعني - الموتى .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة ، فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها أن يريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها . وقالوا : كانت سبعة أجبال .

ذكر من قال ذلك :

6019 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : لما قال إبراهيم ما قال - عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطير [ ص: 508 ] والسباع عنها حين دنا منها ، وسأل ربه ما سأل - قال : ( فخذ أربعة من الطير ) - قال ابن جريج : فذبحها - ثم اخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا حيث رأيت الطير ذهبت والسباع . قال : فجعلهن سبعة أجزاء ، وأمسك رءوسهن عنده ، ثم دعاهن بإذن الله ، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى ، وكل بضعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رءوس الجبال ، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضا في السماء ، ثم أقبلن يسعين ، حتى وصلت رأسها .

6020 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ( فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) ، ثم اجعل على سبعة أجبال ، فاجعل على كل جبل منهن جزءا ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير ، فقطعهن أعضاء ، لم يجعل عضوا من طير مع صاحبه . ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا ، وصدر هذا مع جناح هذا ، وقسمهن على سبعة أجبال ، ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه ، ثم أقبلن إليه جميعا .

وقال آخرون : بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل .

ذكر من قال ذلك :

6021 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) ، قال : ثم بددهن على كل جبل يأتينك سعيا ، وكذلك يحيي الله الموتى .

6022 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ، كذلك يحيي الله الموتى . هو مثل ضربه الله لإبراهيم . [ ص: 509 ]

6023 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) ثم بددهن أجزاء على كل جبل ثم ( ادعهن ) تعالين بإذن الله . فكذلك يحيي الله الموتى . مثل ضربه اللهلإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - .

6024 - حدثني المثنى قال : حدثني إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : أمره أن يخالف بين قوائمهن ورءوسهن وأجنحتهن ، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءا .

6025 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) ، فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد ، وهو أن الله - تعالى ذكره - أمر إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك وتبديدها عليها أجزاء ؛ لأن الله - تعالى ذكره - قال له : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) " والكل " حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه ، لفظه واحد ومعناه الجمع .

فإذا كان ذلك كذلك ، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيم بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة عليها خارجة من أحد معنيين : إما أن تكون بعضا ، أو جميعا .

فإن كانت " بعضا " فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم [ ص: 510 ] السبيل إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه .

أو يكون " جميعا " فيكون أيضا كذلك .

وقد أخبر الله - تعالى ذكره - أنه أمره بأن يجعل ذلك على " كل جبل " وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن ، وإما ما في الأرض من الجبال .

فأما قول من قال : " إن ذلك أربعة أجبل " وقول من قال : " هن سبعة " فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به ، وإنما أمر الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل ؛ ليرى إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن وهن متفرقات متبددات في أماكن مختلفة شتى ، حتى يؤلف بعضهن إلى بعض ، فيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال أطيارا أحياء يطرن فيطمئن قلب إبراهيم ، ويعلم أن كذلك جمع الله أوصال الموتى لبعث القيامة ، وتأليفه أجزاءهم بعد البلى ورد كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردى .

قال أبو جعفر : " والجزء " من كل شيء هو البعض منه ، كان منقسما جميعه عليه على صحة أو غير منقسم . فهو بذلك من معناه مخالف معنى " السهم " ؛ لأن " السهم " من الشيء هو البعض المنقسم عليه جميعه على صحة . ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم أنصباءهم من المواريث : " السهام " دون " الأجزاء " . [ ص: 511 ]

وأما قوله : ( ثم ادعهن ) فإن معناه ما ذكرت آنفا عن مجاهد أنه قال : هو أنه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل : " تعالين بإذن الله " .

فإن قال قائل : أمر إبراهيم أن يدعوهن وهن ممزقات أجزاء على رءوس الجبال أمواتا ، أم بعدما أحيين ؟ فإن كان أمر أن يدعوهن وهن ممزقات لا أرواح فيهن ، فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال ؟ وإن كان أمر بدعائهن بعدما أحيين ، فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن ، وقد أبصرهن ينشرن على رءوس الجبال ؟ قيل : إن أمر الله - تعالى ذكره - إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بدعائهن وهن أجزاء متفرقات ، إنما هو أمر تكوين كقول الله للذين مسخهم قردة بعدما كانوا إنسا : ( كونوا قردة خاسئين ) [ البقرة : 65 ] لا أمر عبادة ، فيكون محالا إلا بعد وجود المأمور المتعبد .

التالي السابق


الخدمات العلمية