الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      [ ص: 286 ] ( وباللسان يتلى ) ، قال الله تبارك وتعالى : ( اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ) ، ( الكهف : 37 ) ، وقال تعالى : ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ) ، ( الإسراء : 106 ) ، وقال تعالى : ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ) ، ( الإسراء : 45 ) ، وقال تعالى : ( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ) ، ( فاطر : 29 ) إلى آخر الآية ، وقال تعالى : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ) ، ( القيامة : 16 19 ) ، وقال تعالى : ( ورتل القرآن ترتيلا ) ، ( المزمل : 4 ) ، وقال تعالى : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) ، ( الإسراء : 110 ) ، وغير ذلك من الآيات .

      وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا حسد إلا في اثنتين : رجل علمه الله القرآن ، فهو يتلوه آناء الليل والنهار ، فسمعه جار له . . . إلى آخر الحديث . رواه البخاري ، وأخرج أبو عبيد القاسم بن سلام ، عن فضالة بن عبيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته . ورواه ابن ماجه ، وله عن المهاجر بن حبيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أهل القرآن ، لا توسدوا القرآن ، واتلوه حق تلاوته آناء الليل [ ص: 287 ] والنهار ، وتغنوه ، وتقنوه ، واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون . والأحاديث في هذا كثيرة جدا ، سيأتي ما تيسر منها في ذكر الصوت .

      ( كما يسمع بالآذان ) قال الله تبارك وتعالى : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) ، ( التوبة : 6 ) ، وقال تبارك وتعالى : ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) ، ( المائدة : 83 ) ، وقال تعالى : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) ، ( الأعراف : 204 ) ، وقال تعالى : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) ، ( الأحقاف : 29 - 30 ) الآيات ، وقال تعالى : ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) . . . إلى قوله تعالى : ( وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ) ، ( الجن : 1 - 12 ) الآيات ، وقال تعالى : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) ، ( الزمر : 18 ) ، وغير ذلك من الآيات .

      وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي القرآن . قلت : أقرأ عليك ، وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري . الحديث متفق عليه .

      وعن أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أبا موسى ، لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة . فقال : أما والله ، لو أعلم أنك تسمع قراءتي ، لحبرتها لك تحبيرا . رواه [ ص: 288 ] مسلم .

      ولأبي عبيد ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : أبطأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بعد العشاء ، ثم جئت ، فقال : أين كنت ؟ قلت : كنت أسمع قراءة رجل من أصحابك ، لم أسمع مثل قراءته ، وصوته من أحد ، قالت : فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقمت معه حتى استمع له ، ثم التفت إلي ، فقال : هذا سالم مولى أبي حذيفة ، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا . إسناده جيد ، والأحاديث في هذا كثيرة .

      ( كذا بالابصار إليه متعلقان بـ ( ينظر ) أي إلى القرآن في المصحف ، وهو من أفضل العبادات وأجلها . وروى أبو عبيد بإسناد فيه ضعف ، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرؤه ظهرا ، كفضل الفريضة على النافلة . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : أديموا النظر في المصحف . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان إذا دخل ، نشر المصحف فقرأ فيه . وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - إذا اجتمع إليه إخوانه ، نشروا [ ص: 289 ] المصحف فقرءوا ، وفسر لهم . وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إذا رجع أحدكم من سوقه ، فلينشر المصحف وليقرأ . وذهب كثير من السلف أن قراءة القرآن في المصحف أفضل من على ظهر قلب ; لأنه يشتمل على التلاوة والنظر في المصحف ، وكرهوا أن يمضي على الرجل يومان لا ينظر في مصحفه ، ( وبالأيادي خطه يسطر ) كما قال تعالى : ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ) ، ( الواقعة : 77 - 79 ) ، وقال تعالى : ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة ) ، ( البينة : 2 ) ، وقال تعالى : ( كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة ) ، ( عبس : 11 - 14 ) ، وقد كتبه الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمره ، وفي خلافة أبي بكر وعثمان ، وإلى الآن يكتبه المسلمون ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ما بين الدفتين .

      وقال علي بن أبي طالب نحو ذلك ، وقال أبو بكر - رضي الله عنه - معنى ذلك في محضر الصحابة لم يقل أحد خلافه ، ولو لم يكن الذي في المصحف كلام الله ، لم يحرم مسه على أحد ، ولم يكن من شأنه أن ( لا يمسه إلا المطهرون ) بل ولا كان يحرم توسده ، ولذا أجاز الزنادقة ذلك حيث لم يؤمنوا أن فيه كتاب الله ، وهذا من أسفل دركات الكفر ، قبحهم الله .

      ( وكل ذي ) المذكورات من القلب ، وحافظته ، وذاكرته ، واللسان وحركته ، والآذان وأسماعها ، والأبصار ونظرها ، والأيادي وكتابتها ، وأدوات الكتابة من أوراق وأقلام ومداد ، كلها ( مخلوقة حقيقه ) ليس في ذلك توقف ، ( دون ) القرآن الذي هو ( كلام ) الله - تعالى - ( بارئ الخليقه ) .

      قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : يتوجه العبد لله - تعالى - بالقرآن خمسة أوجه ، وهو فيها غير مخلوق : حفظ بقلب ، وتلاوة بلسان ، وسمع بأذن ، ونظرة ببصر ، وخط بيد . فالقلب مخلوق ، والمحفوظ غير [ ص: 290 ] مخلوق ، والتلاوة مخلوقة ، والمتلو غير مخلوق ، والسمع مخلوق ، والمسموع غير مخلوق ، والنظر مخلوق ، والمنظور إليه غير مخلوق ، والكتابة مخلوقة ، والمكتوب غير مخلوق . انتهى .

      فأعمال العباد مخلوقة ، والقرآن حيثما تصرف ، وأين كتب ، وحيث تلي ، كلام الله - تعالى - غير مخلوق .


      جلت صفات ربنا الرحمن عن وصفها بالخلق والحدثان



      فليس من صفات الله - تعالى - شيء مخلوق ، تعالى الله عن ذلك ، وتعالى عن أن تكون ذاته محلا للمخلوقات ، بل هو الأول بأسمائه وصفاته قبل كل شيء ، والآخر بأسمائه وصفاته بعد كل شيء ، لم يسبق شيء من صفاته بالعدم ، ولم يعقب بالفناء ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا .

      ( فالصوت ) من جهوري وخفي ، ( والألحان ) من حسن وغيره ( صوت القاري ، لكنما المتلو ) المؤدى بذلك الصوت هو ( قول الباري ) جل وعلا .

      وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يأذن الله لشيء ما أذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - يتغنى بالقرآن . ولابن ماجه بإسناد جيد ، عن فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن ، من صاحب القينة إلى قينته .

      وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غنوا بالقرآن ، ليس منا من لم يغن بالقرآن ، وابكوا فإن لم تقدروا على البكاء ، فتباكوا .

      رواه البغوي ، ولأبي داود نحوه ، وله عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : [ ص: 291 ] ليس منا من لم يتغن بالقرآن . وله وللنسائي ، وابن ماجه بإسناد جيد ، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : زينوا القرآن بأصواتكم .

      وفي الصحيحين ، عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا ، أو قراءة منه . الحديث .

      ولابن ماجه ، عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ ، حسبتموه يخشى الله . ولأبي عبيد ، عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين ، وسيجيء قوم من بعدي يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح ، لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم ، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم .

      وفي الصحيحين عن أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أبا موسى ، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل [ ص: 292 ] داود . ففي جميع هذه الأحاديث التصريح بإضافة الصوت والألحان والتغني إلى العبد ; لأنه عمله ، والقرآن المؤدى بذلك الصوت هو كلام الله حقيقة ، وكذلك المهارة بالقرآن ، والتتعتع فيه هو فعل العبد وسعيه لما في الصحيح ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ، ويتتعتع فيه ، وهو عليه شاق له أجران . وهذا الفرق واضح ، ولله الحمد .

      وعليه أهل السنة والحديث كأحمد بن حنبل ، وأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، وغيرهما - رحمهم الله تعالى ، ولو كان الصوت هو نفس المتلو المؤدى به كما يقوله أهل الاتحاد ، لكان كل من سمع القرآن من أي تال وبأي صوت كليم الرحمن ، فلا مزية لموسى - عليه السلام - على غيره ، اللهم لك الحمد ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية