الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم في سبب نزولها قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه لما نزل في [الشعراء:4]: إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية قال المشركون: أنزلها علينا حتى والله نؤمن بها; فقال المسلمون: يا رسول الله ، أنزلها عليهم لكي يؤمنوا; فنزلت هذه الآية; رواه أبو صالح عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن قريشا قالوا: يا محمد ، تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها الحجر ، فينفجر منها اثنتا عشرة عينا ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ، وأن ثمود كانت لهم ناقة ، فائتنا بمثل هذه الآيات حتى نصدقك: فقال: أي شيء تحبون؟! قالوا: أن تجعل لنا الصفا ذهبا . قال: "فإن فعلت تصدقوني؟! فقالوا: نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ، فجاءه جبريل فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، ولكني لم أرسل آية فلم يصدق بها ، إلا أنزلت العذاب ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتركهم حتى يتوب تائبهم" ، فنزلت هذه الآية إلى قوله: "يجهلون" هذا قول [ ص: 104 ] محمد بن كعب القرظي . وقد ذكرنا معنى جهد أيمانهم في [المائدة]; وإنما حلفوا على ما اقترحوا من الآيات ، كقولهم: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا [الإسراء:90] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: قل إنما الآيات عند الله أي: هو القادر على الإتيان بها دوني ودون أحد من خلقه . وما يشعركم أنها أي: يدريكم أنها . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف في اختياره: بكسر الألف ، فعلى هذه القراءة يكون الخطاب بقوله يشعركم للمشركين ، ويكون تمام الكلام عند قوله: وما يشعركم ويكون المعنى: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت؟ وتكون "إنها" مكسورة على الاستئناف والإخبار عن حالهم . وقال أبو علي: التقدير: وما يشعركم إيمانهم؟ فحذف المفعول . والمعنى: لو جاءت الآية التي اقترحوها ، لم يؤمنوا . فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين . قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: وما يشعركم أنها فقلت: ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع; إنما قال: وما يشعركم ثم ابتدأ فأوجب ، فقال: أنها إذا جاءت لا يؤمنون ولو قال: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ; كان ذلك عذرا لهم . وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي: "أنها" بفتح الألف; فعلى هذا ، المخاطب بقوله: وما يشعركم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه; ثم في معنى الكلام قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون . وفي قراءة أبي: لعلها إذا [ ص: 105 ] جاءت لا يؤمنون . والعرب تجعل "أن" بمعنى "لعل" . يقولون: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا ، أي: لعلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال عدي بن زيد:


                                                                                                                                                                                                                                      أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى غد



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لعل منيتي ، وإلى هذا المعنى ذهب الخليل ، وسيبويه ، والفراء في توجيه هذه القراءة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن المعنى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون ، وتكون "لا" صلة; كقوله تعالى: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [الأعراف:12] و قوله تعالى: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [الأنبياء:95] ذكره الفراء ورده الزجاج واختار الأول . والأكثرون على قراءة: "يؤمنون" بالياء; منهم ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وحفص عن عاصم; وقرأ ابن عامر ، وحمزة: بالتاء ، على الخطاب للمشركين . قال أبو علي: من قرأ بالياء ، فلأن الذين أقسموا غيب ، ومن قرأ بالتاء ، فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية