الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا كلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يشاهده من عداوة قريش له عليه الصلاة والسلام ، وما بنوا عليها مما لا خير فيه من الأقاويل والأفاعيل ، ببيان أن ذلك ليس مختصا بك ، بل هو أمر ابتلي به كل من سبقك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      ومحل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أشير إليه بذلك ، منصوب بفعله المحذوف ، مؤكد لما بعده ، وذلك إشارة إلى ما يفهم مما قبله ; أي : جعلنا لكل نبي عدوا .

                                                                                                                                                                                                                                      والتقديم على الفعل المذكور للقصر المفيد للمبالغة ; أي : مثل ذلك الجعل الذي جعلنا في حقك ، حيث جعلنا لك عدوا يضادونك ويضارونك ولا يؤمنون ، ويبغونك الغوائل ويدبرون في إبطال أمرك مكايد ، جعلنا لكل نبي تقدمك عدوا فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤك ، لا جعلا أنقص منه ، وفيه دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم السلام ، بخلقه تعالى ، للابتلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      شياطين الإنس والجن ; أي : مردة الفريقين ، على أن الإضافة بمعنى " من " البيانية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هي إضافة الصفة إلى الموصوف ، والأصل : الإنس ، والجن : الشياطين . وقيل : هي بمعنى اللام ; أي : الشياطين التي للإنس والتي للجن ، وهو بدل من " عدوا " .

                                                                                                                                                                                                                                      والجعل متعد إلى واحد ، أو إلى اثنين ، وهو أول مفعوليه ، قدم عليه الثاني مسارعة إلى بيان العداوة ، واللام على التقديرين متعلقة بالجعل ، أو بمحذوف هو حال من " عدوا " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : يوحي بعضهم إلى بعض كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام عداوتهم ، وتحقيق وجه الشبه بين المشبه والمشبه به ، أو حال من الشياطين ، أو نعت لعدوا ، وجمع الضمير باعتبار المعنى ، فإنه عبارة عن الأعداء ، كما في قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      إذا أنا لم أنفع صديقي بوده ... فإن عدوي لم يضرهمو بغضي

                                                                                                                                                                                                                                      والوحي : عبارة عن الإيماء والقول السريع ; أي : يلقي [ ص: 176 ] ويوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، أو بعض كل من الفريقين إلى بعض آخر .

                                                                                                                                                                                                                                      زخرف القول ; أي : المموه منه ، المزين ظاهره ، الباطل باطنه ، من زخرفه : إذ زينه .

                                                                                                                                                                                                                                      غرورا مفعول له ، ليوحي ; أي : ليغرهم ، أو مصدر في موقع الحال ; أي : غارين ، أو مصدر مؤكد لفعل مقدر هو حال من فاعل يوحي ; أي : يغرون غرورا .

                                                                                                                                                                                                                                      ولو شاء ربك رجوع إلى بيان الشؤون الجارية بينه صلى الله عليه وسلم وبين قومه ، المفهومة من حكاية ما جرى بين الأنبياء عليهم السلام وبين أممهم ، كما ينبئ عنه الالتفات ، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم المعربة عن كمال اللطف في التسلية ; أي : ولو شاء ربك عدم الأمور المذكورة لا إيمانهم ، كما قيل : فإن القاعدة المستمرة أن مفعول المشيئة إنما يحذف عند وقوعها شرطا .

                                                                                                                                                                                                                                      وكون مفعولها مضمون الجزاء ، وهو قوله تعالى : ما فعلوه ; أي : ما فعلوا ما ذكر من عداوتك ، وإيحاء بعضهم إلى بعض مزخرفات الأقاويل الباطلة ، المتعلقة بأمرك خاصة ، لا بما يعمه وأمور الأنبياء عليهم السلام أيضا كما قيل .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قوله تعالى : فذرهم وما يفترون صريح في أن المراد بهم : الكفرة المعاصرون له عليه الصلاة والسلام ; أي : إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتك من فنون المفاسد بمشيئته تعالى فاتركهم ، وافتراءهم أو وما يفترونه من أنواع المكايد ; فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ، ولك عواقب حميدة ، لابتناء مشيئته تعالى على الحكم البالغة البتة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية