الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 157 ] المسألة الثالثة عشرة :

                                                                                                                                                                                                              ذكر الله عز وجل في الكتاب الخلال الثلاث مخيرا فيها ، وعقب عند عدمها بالصيام فالخلة الأولى هي الإطعام ، وبدأ بها لأنها كانت الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة فيها على الخلق ، وعدم شبعهم . ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير ; وإنما اختلفوا في الأفضل من خلالها .

                                                                                                                                                                                                              وعندي أنها تكون بحسب الحال ; فإن علمت محتاجا فالإطعام أفضل ; لأنك إذا أعتقت لم ترفع حاجتهم وزدت محتاجا حادي عشر إليهم ، وكذلك الكسوة تليه ، ولما علم الله [ غلبة ] الحاجة بدأ بالمهم المقدم . المسألة الرابعة عشرة : قوله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم }

                                                                                                                                                                                                              وقوله : { تطعمون } يحتمل طعامهم بقية عمرهم ، ويحتمل غداء وعشاء ; وأجمعت الأمة على أكلة اليوم وسطا في كفارة اليمين وشبعا في غيرها ، إلا أن أبا حنيفة قال : تتقدر كفارة اليمين في البر بنصف صاع ، وفي التمر والشعير بصاع .

                                                                                                                                                                                                              وأصل الكلام في المسألة أن الوسط في لسان العرب ينطلق على الأعلى والخيار ، ومنه قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } أي عدولا خيارا . وينطلق على منزلة بين منزلتين ، ونصفا بين طرفين ، وإليه يعزى المثل المضروب : " خير الأمور أوساطها " .

                                                                                                                                                                                                              وقد أجمعت الأمة على أن الوسط بمعنى الخيار هاهنا متروك ، واتفقوا على أنه المنزلة بين الطرفين ، فمنهم من جعلها معلومة عادة ، ومنه من قدرها كأبي حنيفة ، وإنما حمله على ذلك حديث رواه أبو داود عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير قال : { قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا ، فأمر بصدقة الفطر ، صاع من تمر ، أو صاع من شعير على كل رأس ، أو صاع بر بين اثنين } ، وبه أخذ سفيان وابن المبارك . [ ص: 158 ]

                                                                                                                                                                                                              والذي ثبت في الصحاح صاع من الكل من طريق ابن عمر وأبي سعيد ; وذلك كله مشهور . والذي أوقعه في ذلك أنه أراد به الوسط من الجنس ، وذلك باطل بقوله تعالى : { ما تطعمون أهليكم } وإنما يخرج الرجل مما يأكل . وقد زلت هاهنا جملة من العلماء ; فقالوا : إنه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البر فليخرج مما يأكل الناس ، وهذا سهو بين ، فإن المكفر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يكلف أن يعطي لغيره سواه . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { صاعا من طعام ، صاعا من شعير ، صاعا من تمر } . في موضع كان فيه الشعير والتمر أكثر من البر ، والبر أكثر من الشعير والتمر ، فإنما فصل ذكرهما ليخرج كل أحد فرضه مما يأكل منها ، وهذا مما لا خفاء به .

                                                                                                                                                                                                              ونحن نقول : أراد به الجنس والقدر جميعا ، وذلك مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وهو العدل من القدر . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة الأذى فرقا بين ستة مساكين . والفرق ثلاثة آصع مجمل قوله : صدقة ، ولم يجمل الله سبحانه وتعالى في كفارة اليمين ، بل قال { من أوسط ما تطعمون أهليكم } ، وقد كان عندهم جنس ما يطعمون وقدره معلوما ، ووسط القدر مد ، وأطلق في كفارة الظهار فقال : { فإطعام ستين مسكينا } . فحمل على الأكثر ، وهذه سبيل مهيع ، ولم يرد مطلق ذلك إلى مقيده ، ولا عامه إلى خاصه ، ولا مجمله إلى مفسره .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية