المسألة الرابعة عشرة : قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95فجزاء مثل ما قتل من النعم }
قد تقدم تحقيقه ، ومثل الشيء حقيقته وهو شبهه في الخلقة الظاهرة ، ويكون مثله في معنى ، وهو مجازه ; فإذا أطلق المثل اقتضى بظاهره حمله على الشبه الصوري دون المعنى ، لوجوب الابتداء بالحقيقة في مطلق الألفاظ قبل المجاز حتى يقتضي الدليل ما يقضي فيه من صرفه عن حقيقته إلى مجازه ; فالواجب هو المثل الخلقي ; وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة : إنما
nindex.php?page=treesubj&link=3786_3777_3776_3794يعتبر بالمثل . في القيمة دون الخلقة .
[ ص: 181 ] والدليل على صحة ما ذهبنا إليه الآية المتقدمة ، وذلك من أربعة أوجه :
الأول : ما قدمناه من أن المثل حقيقة هو المثل من طريق الخلقة .
الثاني : أنه قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95من النعم } فبين جنس المثل ، ولا اعتبار عند المخالف بالنعم بحال .
الثالث : أنه قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95يحكم به ذوا عدل منكم } وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم ; لأنه لم يتقدم ذكر سواه يرجع الضمير إليه . والقيمة التي يزعم المخالف أنه يرجع الضمير إليها لم يتقدم لها ذكر .
الرابع : أنه قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95هديا بالغ الكعبة } والذي يتصور فيه الهدي مثل المقتول من النعم ; فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا .
فإن قيل : القيمة مثل شرعي من طريق المعنى في الحيوان وغيره ، حتى يقال القيمة مثل للعبد ، ولا يجعل في الإتلاف مثله عبدا يغرم فيه ، وأوجبنا في ذوات الأمثال في المتلفات المثل خلقة ; لأن الطعام كالطعام والدهن كالدهن ; ولم يوجب في العبد عبد مثله ; لأن الخلقة لم تقم بالمثلية ، فكيف أن يجعل البدنة مثلا للنعامة . قلنا : هذا مزلق ينبغي أن يتثبت فيه قدم الناظر قليلا ، ولا يطيش حلمه ، فاسمع ما نقول ، فلا خفاء بواضح الدليل الذي قدمناه من كتاب الله ، وليس يعارضه الآن ما موهوا به من أن النعامة لا تماثلها البدنة ; فإن الصحابة قضوا بها فيها ، وهم بكتاب الله أفهم ، وبالمثل من طريق الخلقة والمعنى أعلم ، فلا يتوهم متوهم سواه إلا وهم ، ولا يتهمهم في قصور النظر ، إلا من ليس بمسلم .
والدقيقة فيه أن مراعاة ظاهر القرآن مع شبه واحد من طريق الخلقة أولى من إسقاط ظاهر القرآن مع التوفر على مراعاة الشبه المعنوي ; هذا ما لا يستقل بدركه في مطرح النظر إلا نافذ البصيرة والبصر .
فإن قيل : يحتمل أنهم قوموا النعامة بدراهم ، ثم قوموا البدنة بدراهم . قلنا : هذا جهل من وجهين : أحدهما : أن سرد الروايات على ما سنورده يبطل هذا فإنه ليس فيه شيء منه .
[ ص: 182 ] الثاني : أن قيمة النعامة لم تساو قط قيمة البدنة في عصر من الأعصار ، لا متقدم ولا متأخر ، علم ذلك ضرورة وعادة ، فلا ينطق بمثل هذا إلا متساخف بالنظر . وإنما سقطت المثلية في الاعتداء على الحيوان من باب المزابنة ، وقد بيناه في كتب الفقه .
فإن قيل : لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرا ، في النعامة بدنة ، وفي الحمار بقرة ، وفي الظبي شاة لما أوقفه على عدلين يحكمان به ; لأن ذلك قد علم ، فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر ، وإنما يفتقر إلى العدول والحكم ما يشكل الحال فيه ويضطرب وجه النظر عليه . والجواب : أن اعتبار الحكمين إنما وجب في حال المصيد من صغر وكبر ، وما له جنس مما لا جنس له ، وليعتبر ما وقع التنصيص عليه من الصحابة ، فيلحق به ما لم يقع بينهم نص عليه .
فإن قيل : فقد قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } ، فشرك بينهما ب " أو " فصار تقدير الكلام : فجزاء مثل ما قتل من النعم ، أو من الطعام ، أو من الصيام ، وتقدير المثلية في الطعام والصيام بالمعنى ، وكذلك في المثل الأول . قلنا : هذا جهل أو تجاهل ; فإن قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95فجزاء مثل ما قتل من النعم } ظاهر كما قدمنا في مثل الخلقة ، وما عداه يمتنع فيه مثلية الخلقة حسا ; فرجع إلى مثلية المعنى حكما ، وليس إذا عدم المعنى المطلوب في موضع ويرجع إلى بدله يلزم أن يرجع إلى بدله مع وجوده . تكملة : ومن يعجب فعجب من قراءة المكي والمدني والبصري والشامي : فجزاء مثل بالإضافة ; وهذا يقتضي الغيرية بين المضاف والمضاف إليه ، وأن يكون الجزاء لمثل
[ ص: 183 ] المقتول لا المقتول ، ومن قراءة
الكوفيين : فجزاء مثل على الوصف ، وذلك يقتضي أن يكون الجزاء هو المثل .
ويقول أهل
الكوفة من الفقهاء : إن الجزاء غير المثل . ويقول المدنيون والمكيون والشاميون من الفقهاء : إن الجزاء هو المثل ; فيبني كل واحد منهم مذهبه على خلاف مقتضى ظاهر قراءة قراء بلده . وقد قال لنا القاضي
أبو الحسن القرافي الزاهد : إن
ابن معقل الكاتب أخبره عن
أبي علي النحوي أنه قال : إنما يجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول . والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول . قال : ومن أضاف الجزاء إلى المثل فإنه يخرج على تقدير إقحام المثل ; وذلك كقولهم : أنا أكرم مثلك ; أي أكرمك .
قال القاضي
أبو بكر بن العربي : وذلك سائغ في اللغة ، وعليه يخرج أحد التأويلات في قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء } . وقد حققناه في كتاب المشكلين . المسألة الخامسة عشرة : في سرد الآثار عن
السلف في الباب : وفي ذلك آثار كثيرة ، لبابها سبعة أقوال : الأول : قال
السدي : " في النعامة والحمار بدنة ، وفي بقرة الوحش أو الإبل أو الأروى بقرة ، وفي الغزال والأرنب شاة ، وفي الضب واليربوع سخلة قد أكلت العشب ، وشربت الماء ، ففرق بين صغير الصيد وكبيره .
الثاني : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء : " صغير الصيد وكبيره سواء " لقوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95فجزاء مثل ما قتل من النعم } ، مطلقا ، ولا يفصل بين صغير وكبير .
الثالث : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : " تطلب صفة الصيد ، فإن لم توجد قوم بالدراهم ، ثم قومت الدراهم بالحنطة ، ثم صام مكان كل نصف صاع يوما " .
الرابع : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : " تذبح عن الظبي شاة ; فإن لم يجد أطعم ستة مساكين . فإن لم يجد صام ستة أيام " .
[ ص: 184 ]
الخامس : قال
الضحاك : " المثل ما كان له قرن كوعل وأيل فداه ببقرة ، وما لم يكن له قرن كالنعامة والحمار ففيه بدنة ، وما كان من ظبي فمن النعم مثله ، وفي الأرنب ثنية ، وما كان من يربوع ففيه جمل صغير . فإن أصاب فرخ صيد أو بيضه تصدق بثمنه ، أو صام مكان كل نصف صاع يوما " .
السادس : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12354النخعي : " يقوم الصيد المقتول بقيمته من الدراهم ، ثم يشتري القاتل بقيمته فداء من النعم ، ثم يهديه إلى
الكعبة " .
السابع : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16472ابن وهب : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : " أحسن ما سمعت في
nindex.php?page=treesubj&link=3794الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أنه يقوم الصيد الذي أصاب ، فينظر كم ثمنه من الطعام ; فيطعم لكل مسكين مدا ، أو يصوم مكان كل مد يوما " . وقال
ابن القاسم عنه : " إن قوم الصيد دراهم ثم قومها طعاما أجزأه " . والصواب الأول . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16448عبد الله بن عبد الحكم مثله قال عنه : وهو في هذه الثلاثة بالخيار أي ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء ، وجمهور الفقهاء .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ }
قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ وَهُوَ شَبَهُهُ فِي الْخِلْقَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَيَكُونُ مِثْلَهُ فِي مَعْنًى ، وَهُوَ مَجَازُهُ ; فَإِذَا أُطْلِقَ الْمِثْلُ اقْتَضَى بِظَاهِرِهِ حَمْلَهُ عَلَى الشَّبَهِ الصُّورِيِّ دُونَ الْمَعْنَى ، لِوُجُوبِ الِابْتِدَاءِ بِالْحَقِيقَةِ فِي مُطْلَقِ الْأَلْفَاظِ قَبْلَ الْمَجَازِ حَتَّى يَقْتَضِيَ الدَّلِيلُ مَا يَقْضِي فِيهِ مِنْ صَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ ; فَالْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ الْخِلْقِيُّ ; وَبِهِ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّمَا
nindex.php?page=treesubj&link=3786_3777_3776_3794يُعْتَبَرُ بِالْمِثْلِ . فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْخِلْقَةِ .
[ ص: 181 ] وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، وَذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمِثْلَ حَقِيقَةً هُوَ الْمِثْلُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95مِنْ النَّعَمِ } فَبَيَّنَ جِنْسَ الْمِثْلِ ، وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ بِالنَّعَمِ بِحَالٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَهَذَا ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إلَى مِثْلِ مِنْ النَّعَمِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ سِوَاهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهِ . وَالْقِيمَةُ الَّتِي يَزْعُمُ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } وَاَلَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْهَدْيُ مِثْلُ الْمَقْتُولِ مِنْ النَّعَمِ ; فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا .
فَإِنْ قِيلَ : الْقِيمَةُ مِثْلٌ شَرْعِيٌّ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فِي الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ ، حَتَّى يُقَالَ الْقِيمَةُ مِثْلٌ لِلْعَبْدِ ، وَلَا يَجْعَلُ فِي الْإِتْلَافِ مِثْلَهُ عَبْدًا يَغْرَمُ فِيهِ ، وَأَوْجَبْنَا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي الْمُتْلِفَاتِ الْمِثْلَ خِلْقَةً ; لِأَنَّ الطَّعَامَ كَالطَّعَامِ وَالدُّهْنَ كَالدُّهْنِ ; وَلَمْ يُوجَبْ فِي الْعَبْدِ عَبْدٌ مِثْلُهُ ; لِأَنَّ الْخِلْقَةَ لَمْ تَقُمْ بِالْمِثْلِيَّةِ ، فَكَيْفَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَدَنَةَ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ . قُلْنَا : هَذَا مَزْلَقٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيهِ قَدَمُ النَّاظِرِ قَلِيلًا ، وَلَا يَطِيشَ حُلْمُهُ ، فَاسْمَعْ مَا نَقُولُ ، فَلَا خَفَاءَ بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَلَيْسَ يُعَارِضُهُ الْآنَ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ أَنَّ النَّعَامَةَ لَا تُمَاثِلُهَا الْبَدَنَةُ ; فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَوْا بِهَا فِيهَا ، وَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَفْهَمُ ، وَبِالْمِثْلِ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ وَالْمَعْنَى أَعْلَمُ ، فَلَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ سِوَاهُ إلَّا وَهَمَ ، وَلَا يَتَّهِمُهُمْ فِي قُصُورِ النَّظَرِ ، إلَّا مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ .
وَالدَّقِيقَةُ فِيهِ أَنَّ مُرَاعَاةَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَعَ شَبَهٍ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَعَ التَّوَفُّرِ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّبَهِ الْمَعْنَوِيِّ ; هَذَا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهِ فِي مَطْرَحِ النَّظَرِ إلَّا نَافِذُ الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَوَّمُوا النَّعَامَةَ بِدَرَاهِمَ ، ثُمَّ قَوَّمُوا الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ . قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سَرْدَ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا سَنُورِدُهُ يُبْطِلُ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ .
[ ص: 182 ] الثَّانِي : أَنَّ قِيمَةَ النَّعَامَةِ لَمْ تُسَاوِ قَطُّ قِيمَةَ الْبَدَنَةِ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ ، لَا مُتَقَدِّمٍ وَلَا مُتَأَخِّرٍ ، عُلِمَ ذَلِكَ ضَرُورَةً وَعَادَةً ، فَلَا يَنْطِقُ بِمِثْلِ هَذَا إلَّا مُتَسَاخِفٌ بِالنَّظَرِ . وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْمِثْلِيَّةُ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَيَوَانِ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ مُعْتَبَرًا ، فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةٌ ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعُدُولِ وَالْحُكْمِ مَا يُشْكَلُ الْحَالُ فِيهِ وَيَضْطَرِبُ وَجْهُ النَّظَرِ عَلَيْهِ . وَالْجَوَابُ : أَنَّ اعْتِبَارَ الْحُكْمَيْنِ إنَّمَا وَجَبَ فِي حَالِ الْمَصِيدِ مِنْ صِغَرٍ وَكِبَرٍ ، وَمَا لَهُ جِنْسٌ مِمَّا لَا جِنْسَ لَهُ ، وَلْيَعْتَبِرْ مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَيَلْحَقُ بِهِ مَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ نَصٌّ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } ، فَشَرَكَ بَيْنَهُمَا بِ " أَوْ " فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ ، أَوْ مِنْ الطَّعَامِ ، أَوْ مِنْ الصِّيَامِ ، وَتَقْدِيرُ الْمِثْلِيَّةِ فِي الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ بِالْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ فِي الْمِثْلِ الْأَوَّلِ . قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ أَوْ تَجَاهُلٌ ; فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } ظَاهِرٌ كَمَا قَدَّمْنَا فِي مِثْلِ الْخِلْقَةِ ، وَمَا عَدَاهُ يَمْتَنِعُ فِيهِ مِثْلِيَّةُ الْخِلْقَةِ حِسًّا ; فَرَجَعَ إلَى مِثْلِيَّةِ الْمَعْنَى حُكْمًا ، وَلَيْسَ إذَا عُدِمَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ فِي مَوْضِعٍ وَيَرْجِعُ إلَى بَدَلِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى بَدَلِهِ مَعَ وُجُودِهِ . تَكْمِلَةٌ : وَمَنْ يَعْجَبُ فَعَجَبٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالشَّامِيِّ : فَجَزَاءُ مِثْلِ بِالْإِضَافَةِ ; وَهَذَا يَقْتَضِي الْغَيْرِيَّةَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ لِمِثْلِ
[ ص: 183 ] الْمَقْتُولِ لَا الْمَقْتُولِ ، وَمِنْ قِرَاءَةِ
الْكُوفِيِّينَ : فَجَزَاءً مِثْلَ عَلَى الْوَصْفِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ هُوَ الْمِثْلَ .
وَيَقُولُ أَهْلُ
الْكُوفَةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الْجَزَاءَ غَيْرُ الْمِثْلِ . وَيَقُولُ الْمَدَنِيُّونَ وَالْمَكِّيُّونَ وَالشَّامِيُّونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْمِثْلُ ; فَيَبْنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى ظَاهِرِ قِرَاءَةِ قُرَّاءِ بَلَدِهِ . وَقَدْ قَالَ لَنَا الْقَاضِي
أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيُّ الزَّاهِدُ : إنَّ
ابْنَ مَعْقِلٍ الْكَاتِبَ أَخْبَرَهُ عَنْ
أَبِي عَلِيٍّ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْمَقْتُولِ لَا جَزَاءُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ . وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ جَزَاءَ الْمِثْلِ لَا جَزَاءَ الْمَقْتُولِ . قَالَ : وَمَنْ أَضَافَ الْجَزَاءَ إلَى الْمِثْلِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى تَقْدِيرِ إقْحَامِ الْمِثْلِ ; وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ : أَنَا أُكْرِمُ مِثْلَك ; أَيْ أُكْرِمُك .
قَالَ الْقَاضِي
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : وَذَلِكَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : فِي سَرْدِ الْآثَارِ عَنْ
السَّلَفِ فِي الْبَابِ : وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ ، لُبَابُهَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ
السُّدِّيُّ : " فِي النَّعَامَةِ وَالْحِمَارِ بَدَنَةٌ ، وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ أَوْ الْإِبِلِ أَوْ الْأَرْوَى بَقَرَةٌ ، وَفِي الْغَزَالِ وَالْأَرْنَبِ شَاةٌ ، وَفِي الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ سَخْلَةٌ قَدْ أَكَلَتْ الْعُشْبَ ، وَشَرِبَتْ الْمَاءَ ، فَفَرَّقَ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ .
الثَّانِي : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16568عَطَاءٌ : " صَغِيرُ الصَّيْدِ وَكَبِيرُهُ سَوَاءٌ " لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } ، مُطْلَقًا ، وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ .
الثَّالِثُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : " تُطْلَبُ صِفَةُ الصَّيْدِ ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ قُوِّمَتْ الدَّرَاهِمُ بِالْحِنْطَةِ ، ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا " .
الرَّابِعُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : " تُذْبَحُ عَنْ الظَّبْيِ شَاةٌ ; فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ . فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ " .
[ ص: 184 ]
الْخَامِسُ : قَالَ
الضَّحَّاكُ : " الْمِثْلُ مَا كَانَ لَهُ قَرْنٌ كَوَعْلٍ وَأُيَّلٍ فَدَاهُ بِبَقَرَةٍ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرْنٌ كَالنَّعَامَةِ وَالْحِمَارِ فَفِيهِ بَدَنَةٌ ، وَمَا كَانَ مِنْ ظَبْيٍ فَمِنْ النَّعَمِ مِثْلُهُ ، وَفِي الْأَرْنَبِ ثَنِيَّةٌ ، وَمَا كَانَ مِنْ يَرْبُوعٍ فَفِيهِ جَمَلٌ صَغِيرٌ . فَإِنْ أَصَابَ فَرْخَ صَيْدٍ أَوْ بِيضَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ ، أَوْ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا " .
السَّادِسُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12354النَّخَعِيُّ : " يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الْمَقْتُولَ بِقِيمَتِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ يَشْتَرِي الْقَاتِلُ بِقِيمَتِهِ فِدَاءً مِنْ النَّعَمِ ، ثُمَّ يُهْدِيه إلَى
الْكَعْبَةِ " .
السَّابِعُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16472ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكٌ : " أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي
nindex.php?page=treesubj&link=3794الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ أَنَّهُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الَّذِي أَصَابَ ، فَيَنْظُرُ كَمْ ثَمَنُهُ مِنْ الطَّعَامِ ; فَيُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا ، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا " . وَقَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : " إنْ قَوَّمَ الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ قَوَّمَهَا طَعَامًا أَجْزَأَهُ " . وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16448عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ قَالَ عَنْهُ : وَهُوَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْخِيَارِ أَيْ ذَلِكَ فِعْلٌ أَجْزَأَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، وَبِهِ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16568عَطَاءٌ ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ .