الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم )

وهذا احتجاج من الله على الذي أخبر عنه من الناس أنه يجادل في الله بغير علم ، اتباعا منه للشيطان المريد ، وتنبيه له على موضع خطأ قيله ، وإنكاره ما أنكر من قدرة ربه . قال : يا أيها الناس إن كنتم في شك من قدرتنا على بعثكم من قبوركم بعد مماتكم وبلاكم استعظاما منكم لذلك ، فإن في ابتدائنا خلق أبيكم آدم صلى الله عليه وسلم من تراب ثم إنشائناكم من نطفة آدم ، ثم تصريفناكم أحوالا حالا بعد حال من نطفة إلى علقة ، ثم من علقة إلى مضغة ، لكم معتبرا ومتعظا تعتبرون به ، فتعلمون أن من قدر على ذلك فغير متعذر عليه إعادتكم بعد فنائكم كما كنتم أحياء قبل الفناء .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله " مخلقة وغير مخلقة " ، فقال بعضهم : هي من صفة النطفة . قال : ومعنى ذلك : فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة مخلقة وغير مخلقة قالوا : فأما المخلقة فما كان خلقا سويا وأما غير مخلقة فما دفعته الأرحام من النطف ، وألقته قبل أن يكون خلقا .

ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب قال : ثنا أبو معاوية عن داود بن أبي هند عن عامر عن علقمة عن عبد الله قال : إذا وقعت النطفة في الرحم ، بعث الله ملكا فقال : يا رب مخلقة ، أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلقة ، مجتها الأرحام دما ، وإن قال : مخلقة ، قال : يا رب فما صفة هذه النطفة ، أذكر أم أنثى ؟ ما رزقها ما أجلها ؟ أشقي أو سعيد ؟ قال : فيقال له : [ ص: 568 ] انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة ! قال : فينطلق الملك فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها .

وقال آخرون : معنى ذلك : تامة وغير تامة .

ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار قال : ثنا سليمان قال : ثنا أبو هلال عن قتادة في قول الله ( مخلقة وغير مخلقة ) قال : تامة وغير تامة .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا محمد بن ثور عن قتادة ( مخلقة وغير مخلقة ) فذكر مثله .

وقال آخرون : معنى ذلك المضغة مصورة إنسانا وغير مصورة ، فإذا صورت فهي مخلقة وإذا لم تصور فهي غير مخلقة .

ذكر من قال ذلك : ابن حميد قال : ثنا حكام عن عنبسة عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله ( مخلقة ) قال : السقط ، ( مخلقة وغير مخلقة ) .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله ( مخلقة وغير مخلقة ) قال : السقط ، مخلوق وغير مخلوق .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد بنحوه .

حدثنا ابن المثنى قال : ثنا عبد الأعلى قال : ثنا داود عن عامر أنه قال في النطفة والمضغة إذا نكست في الخلق الرابع كانت نسمة مخلقة ، وإذا قذفتها قبل ذلك فهي غير مخلقة .

قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن أبي سلمة عن داود بن أبي هند عن أبي العالية ( مخلقة وغير مخلقة ) قال : السقط .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : المخلقة المصورة خلقا تاما ، وغير مخلقة : السقط قبل تمام خلقه ، لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة ، لم يبق لها حتى تصير خلقا سويا إلا [ ص: 569 ] التصوير ، وذلك هو المراد بقوله ( مخلقة وغير مخلقة ) خلقا سويا ، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصور ولا ينفخ فيها الروح .

وقوله ( لنبين لكم ) يقول تعالى ذكره : جعلنا المضغة منها المخلقة التامة ومنها السقط غير التام ، لنبين لكم قدرتنا على ما نشاء ونعرفكم ابتداءنا خلقكم .

وقوله ( ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ) يقول تعالى ذكره : من كنا كتبنا له بقاء وحياة إلى أمد وغاية ، فإنا نقره في رحم أمه إلى وقته الذي جعلنا له أن يمكث في رحمها ، فلا تسقطه ، ولا يخرج منها حتى يبلغ أجله ، فإذا بلغ وقت خروجه من رحمها أذنا له بالخروج منها ، فيخرج .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله ( ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ) قال : التمام .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ) قال : الأجل المسمى : إقامته في الرحم حتى يخرج .

وقوله ( ثم نخرجكم طفلا ) يقول تعالى ذكره : ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم إذا بلغتم الأجل الذي قدرته لخروجكم منها طفلا صغارا ووحد الطفل ، وهو صفة للجميع ، لأنه مصدر مثل : عدل وزور .

وقوله ( ثم لتبلغوا أشدكم ) يقول : ثم لتبلغوا كمال عقولكم ونهاية قواكم بعمركم .

وقد ذكرت اختلاف المختلفين في الأشد والصواب من القول فيه عندنا بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

[ ص: 570 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية