الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (264) قوله تعالى: كالذي : "كالذي" الكاف في محل نصب، فقيل: نعتا لمصدر محذوف أي: لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي ينفق رئاء الناس. وقيل: في محل نصب على الحال من ضمير المصدر المقدر كما هو رأي سيبويه، وقيل: حال من فاعل "تبطلوا" أي: لا تبطلوها مشبهين الذي ينفق رياء.

                                                                                                                                                                                                                                      و "رئاء" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه نعت لمصدر محذوف تقديره: إنفاقا رئاء الناس، كذا ذكره مكي. والثاني: أنه مفعول من أجله أي: لأجل رئاء الناس، واستكمل شروط النصب. والثالث: أنه في محل حال، أي: ينفق مرائيا.

                                                                                                                                                                                                                                      والمصدر هنا مضاف للمفعول وهو "الناس"، ورئاء مصدر راءى كقاتل قتالا، والأصل: "رئايا" فالهمزة الأولى عين الكلمة، والثانية بدل من ياء هي [ ص: 586 ] لام الكلمة، لأنها وقعت طرفا بعد ألف زائدة. والمفاعلة في "راءى" على بابها لأن المرائي يري الناس أعماله حتى يروه الثناء عليه والتعظيم له. وقرأ طلحة - ويروى عن عاصم -: "رياء" بإبدال الهمزة الأولى ياء، وهو قياس تخفيفها لأنها مفتوحة بعد كسرة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فمثله كمثل" مبتدأ وخبر، ودخلت الفاء، قال أبو البقاء: "لتربط الجملة بما قبلها" وقد تقدم مثله، والهاء في "فمثله" فيها قولان، أظهرهما: أنها تعود على "الذي ينفق ماله رئاء الناس" لأنه أقرب مذكور. والثاني: أنها تعود على المان المؤذي، كأنه تعالى شبهه بشيئين: بالذي ينفق رئاء وبصفوان عليه تراب، ويكون قد عدل من خطاب إلى غيبة، ومن جمع إلى إفراد.

                                                                                                                                                                                                                                      والصفوان: حجر كبير أملس، وفيه لغتان: أشهرهما سكون الفاء والثانية فتحها، وبها قرأ ابن المسيب والزهري، وهي شاذة، لأن "فعلان" إنما يكون في المصادر نحو: النزوان والغليان، والصفات نحو: رجل طغيان وتيس عدوان، وأما في الأسماء فقليل جدا. واختلف في "صفوان" فقيل: هو جمع مفرده: صفا، قال أبو البقاء: "وجمع "فعل" على "فعلان" قليل". وقيل: هو اسم جنس، قال أبو البقاء: "وهو الأجود، ولذلك عاد الضمير عليه مفردا في قوله: "عليه" وقيل: هو مفرد، واحد صفي قاله الكسائي، وأنكره المبرد. قال: "لأن صفيا جمع صفا نحو: عصي في عصا، وقفي في قفا". [ ص: 587 ] ونقل عن الكسائي أيضا أنه قال: "صفوان مفرد، ويجمع على صفوان بالكسر. قال النحاس: "ويجوز أن يكون المكسور الصاد واحدا أيضا، وما قاله الكسائي غير صحيح بل صفوان - يعني بالكسر - جمع لـ صفا كورل وورلان، وأخ وإخوان وكرى وكروان".

                                                                                                                                                                                                                                      و "عليه تراب" يجوز أن يكون جملة من مبتدأ وخبر، وقعت صفة لصفوان، ويجوز أن يكون "عليه" وحده صفة له، و "تراب" فاعل به، وهو أولى لما تقدم عند قوله "في كل سنبلة مائة حبة". والتراب معروف، ويقال فيه توراب، ويقال: ترب الرجل: افتقر. ومنه: "أو مسكينا ذا متربة" كأن جلده لصق به لفقره، وأترب: أي استغنى، كأن الهمزة للسلب، أو صار ماله كالتراب.

                                                                                                                                                                                                                                      "فأصابه" عطف على الفعل الذي تعلق به قوله: "عليه" أي: استقر عليه تراب فأصابه. والضمير يعود على الصفوان، وقيل: على التراب. وأما الضمير في "فتركه" فعلى الصفوان فقط. وألف "أصابه" من واو، لأنه من صاب يصوب.

                                                                                                                                                                                                                                      والوابل: المطر الشديد، وبلت السماء تبل، والأرض موبولة، ويقال أيضا: أوبل فهو موبل، فيكون مما اتفق فيه فعل وأفعل، وهو من الصفات الغالبة كالأبطح، فلا يحتاج معه إلى ذكر موصوف. قال النضر بن شميل: [ ص: 588 ] "أول ما يكون المطر رشا ثم طشا، ثم طلا ورذاذا ثم نضحا، وهو قطر بين قطرين، ثم هطلا وتهتانا ثم وابلا وجودا. والوبيل: الوخيم، والوبيلة: حزمة الحطب، ومنه قيل للغليظة: وبيلة على التشبيه بالحزمة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فتركه صلدا" كقوله: "وتركهم في ظلمات". والصلد: الأجرد الأملس، ومنه: "صلد جبين الأصلع": برق، والصلد أيضا صفة، يقال: صلد بكسر اللام يصلد بفتحها فهو صلد. [قال] النقاش: "الصلد بلغة هذيل". وقال أبان بن تغلب: "الصلد: اللين من الحجارة" وقال علي بن عيسى: "هو من الحجارة ما لا خير فيه، وكذلك من الأرضين وغيرها، ومنه: "قدر صلود" أي: بطيئة الغليان".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لا يقدرون" في هذه الجملة قولان، أحدهما: أنها استئنافية فلا موضع لها من الإعراب. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من "الذي" في قوله: "كالذي ينفق"، وإنما جمع الضمير حملا على المعنى، لأن المراد بالذي الجنس، فلذلك جاز الحمل على لفظه مرة في قوله: "ماله" و "لا يؤمن"" فمثله" وعلى معناه أخرى. وصار هذا نظير قوله: "كمثل الذي استوقد نارا" ثم قال: "بنورهم وتركهم"، وقد تقدم تحقيق القول في ذلك. وقد زعم ابن عطية أن مهيع كلام العرب الحمل على اللفظ أولا ثم المعنى ثانيا، وأن العكس قبيح، وتقدم الكلام معه في ذلك. وقيل: الضمير في "يقدرون" عائد على المخاطبين بقوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا" [ ص: 589 ] ويكون من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وفيه بعد. وقيل: يعود على ما يفهم من السياق. أي: لا يقدر المانون ولا المؤذون على شيء من نفع صدقاتهم. وسمى الصدقة كسبا. قال أبو البقاء: "ولا يجوز أن يكون "ولا يقدرون" حالا من "الذي" لأنه قد فصل بينهما بقوله: "فمثله" وما بعده، ولا يلزم ذلك، لأن هذا الفصل فيه تأكيد وهو كالاعتراض.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية