الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5691 6038 - حدثنا موسى بن إسماعيل، سمع سلام بن مسكين قال: سمعت ثابتا يقول: حدثنا أنس - رضي الله عنه - قال: خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي: أف. ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت؟. [انظر: 2768 - مسلم: 2309 - فتح: 10 \ 456]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              (السخاء) ممدود: الجود، واختلف السلف فيه هل هو مكتسب أم لا؟

                                                                                                                                                                                                                              فقال ابن مسعود وغيره: هو غير مكتسب ولا يحمد عليها. وقال آخرون: هو مكتسب ولولا ذلك ما أمر الشرع به.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال: وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان. وهذا سلف متصلا، ثم قال: وقال أبو ذر لما بلغه مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاسمع من قوله، فرجع فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وهذا سلف أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق ستة أحاديث مسندة:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، الحديث وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 352 ] ومعنى: "لم تراعوا" لم تخافوا، من الروع، وأصله: لم تروعوا، تحركت الواو وقبلها حرف صحيح ساكن، فنقلت إليه الحركة وقلبت الواو ألفا.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (على فرس عري) هو بضم العين وإسكان الراء وتخفيف الياء على زنة فعل كذا في "الصحاح" وابن فارس . قال ابن التين: وقرأناه بكسر الراء وتخفيف الياء.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ما عليه سرج) أتى به على طريق البيان; لأن قوله: (عري) معناه: لا سرج عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: دلالة على طهارة عرق الفرس.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("وجدناه بحرا"). هو على الاتساع في الكلام، أي: واسع الجري.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              حديث جابر: ما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قط فقال: لا.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عبد الله بن عمرو قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا متفحشا، وإنه كان يقول: "إن خياركم أحسنكم أخلاقا".

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الرابع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث سهل بن سعد، وفيه: وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الخامس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يتقارب الزمان وينقص العلم، ويلقى الشح ويكثر الهرج". وهو القتل.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 353 ] الحديث السادس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس - رضي الله عنه - : خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي: أف. ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت؟.

                                                                                                                                                                                                                              (وأخرجه مسلم في الفضائل) ، لا شك أن حسن الخلق من صفات النبيين والمرسلين وخيار المؤمنين، وكذلك السخاء من أشرف الصفات; لأن الله تعالى سمى نفسه الكريم الوهاب، وأما البخل فليس من صفات الأنبياء ولا الجلة الفضلاء، ألا ترى قوله - عليه السلام - يوم حنين: "لو كان عندي عدد سمر تهامة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا" وقال ابن مسعود: أي داء أدوأ من البخل. وكان أبو حنيفة لا يجيز شهادة البخيل، فقيل له في ذلك، فقال: إنه نقص، ويحمله النقص على أن يأخذ فوق حقه.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              (البردة) قد فسرت في الأصل بأنها (الشملة منسوجة فيها حاشيتها).

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي: تكون من صوف وكتان وقطن وتكون صغيرة كالمئزر وكبيرة كالرداء، وقيل لها: الشملة; لأنها يشتمل بها.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله (منسوج فيها حاشيتها). يعني: أنها لم تقطع من بردة، ولكن فيها حاشيتها، وقال الجوهري: الشملة: (كل ما) يشتمل به ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 354 ] والحاشية واحدة حواشي الثوب، وهي جوانبه . وفي "جامع القزاز": حاشية الثوب: ناحيتاه، اللتان في طرفهما الهدب.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : "يتقارب الزمان" قيل: أراد قرب الساعة، يقول: إذا كان آخر الزمان كان من علامة الساعة الهرج والشح، ونقص الآجال، وقيل: أراد قصر مدة الأزمنة ونقصها عما جرت به العادة وهو معنى الحديث الآخر: "تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاحتراق السعفة" . وقيل: أراد قصر الأعمار. وقيل: أراد تقارب أحوال الناس في الشر والفساد. وقيل: معناه: يستوي ليله ونهاره. وقال الداودي: يقال: عند قيام الساعة تقصر ساعات النهار ويقرب النهار من الليل.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ("وينقص العلم"). أي: يقل، ويقل أهله، يريد عمل الطاعات. وقيل: ظهور الخيانة في الأمانات، والصناعات.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("ويكثر الهرج")، وهو القتل. قال الخطابي: هو بلسان الحبشة. وقال ابن فارس: إنه الفتنة والاختلاط، وقد هرج الناس يهرجون بالكسر هرجا، وهكذا ذكره الهروي، وتأول الحديث عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الجوهري الحديث، وأنه - عليه السلام - قال: "هو القتل" ولا يبعد أن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 355 ] يسمى الشيء باسم ما يئول إليه; لأن الفتنة والاختلاط يكون عنها الموت، وكلهم ضبطه بسكون الراء .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("ويلقى الشح") أي: البخل.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              (أف): كلمة تقال عند تكره الشيء، وفيها لغات عديدة ذكر الجوهري منها تثليث الفاء مع التنوين وعدمه .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              إن قلت: ما وجه قوله - عليه السلام - : "خياركم أحاسنكم أخلاقا" وهل الأخلاق مكتسبة فيتخير العبد منها أحسنها ويترك أقبحها؟ فإن كان كذلك فما وجه قوله - عليه السلام - : "اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي" ومثله ما سأل ربه من ذلك بتحسين خلقه وأنت عالم أنه لا يحسنه غير ربه، فإذا كان الخلق فعلا له لم يكن أيضا محسن غيره، وفي ذلك بطلان حمد العبد عليه إن كان حسنا، وترك ذمه إن كان سيئا، فإن قلت ذلك كذلك قيل له: فما وجه قوله - عليه السلام - : "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" و"إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم" وقد علمنا أن العبد إنما يثاب على ما اكتسبه لا على ما خلق له من أعضاء جسده. قيل: قد اختلف السلف في ذلك،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 356 ] فقال بعضهم: الخلق حسنه وقبيحه جبلة في العبد كلونه وبعض أجزاء جسمه، وقد أسلفنا ذلك مختصرا.

                                                                                                                                                                                                                              ذكر من قال ذلك: روي عن ابن مسعود أنه ذكر عنده رجل فذكروا من خلقه، فقال: أرأيتم لو قطعتم رأسه أكنتم تستطيعون أن تخلقوا رأسه؟ قالوا: لا. قال: فلو قطعتم يده أكنتم تخلقون له يدا؟ قالوا: لا. قال: فإنكم لن تستطيعوا أن تغيروا خلقه . وقال ابن مسعود: فرغ من أربعة: الخلق والخلق والرزق والأجل .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحسن: من أعطي حسن الصورة وخلقا حسنا وزوجة صالحة فقد أعطي خير الدنيا والآخرة. واعتلوا بما رواه الهمداني عن ابن مسعود، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم" قالوا: فهذا الحديث يبين أن الأخلاق من إعطاء الله عباده، ألا ترى تفاوتهم فيه كتفاوتهم في الجبن والشجاعة، والبخل والجود، ولو كان الخلق اكتسابا للعبد لم تختلف أحوال الناس فيه، ولكن ذلك غريزة.

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: فإن كان كذلك فما وجه ثواب الله على حسن الخلق إن كان غريزة؟ قيل: إنه لم يثب على خلقه ما خلق وإنما أثابه على استعماله

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 357 ] ما خلق فيه من ذلك فيما أمر باستعماله فيه نظير الشجاعة المخلوقة فيه، وأمره باستعمالها عند لقاء عدوه، وأثابه على ذلك، وإن استعملها في غير لقاء عدوه عاقبه على ذلك، فالثواب والعقاب على الطاعة والمعصية لا على ما خلق الله في العبد. وقال آخرون: أخلاقه - حسنها وسيئها - مكتسبة فيحمد على الجميل منها، ويثاب على ما كان منها طاعة، ويعاقب على ما كان منها معصية. ولولا أنها للعبد كسب لبطل الأمر به والنهي عنه.

                                                                                                                                                                                                                              قوله - عليه السلام - لمعاذ: "اتق الله حيثما كنت وخالق الناس بخلق حسن" البيان عن صحة ما قلناه; لأن ذلك لو كان طبعا في العبد هيأه الله عليه لاستحال الأمر به والنهي عن خلافه كاستحالة أمر (من) لا بصر له بأن يكون له بصر، ولذلك كان الحكماء يوصون بالحسن منه، وروى ابن عيينة عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: قال لي عمر بن الخطاب: يا قبيصة، أراك شابا فصيح اللسان فسيح الصدر، وقد يكون في الرجل عشرة أخلاق، تسعة صالحة وخلق سيئ، فيفسد التسعة الصالحة الخلق السيئ، فاتق عثرات الشباب .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشعبي: قال صعصعة بن صوحان لابن أخيه زيد بن صوحان:

                                                                                                                                                                                                                              خالص المؤمن وخالق الفاجر، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية