الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        2589 حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا مالك هو ابن مغول حدثنا طلحة بن مصرف قال سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى فقال لا فقلت كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية قال أوصى بكتاب الله

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الثالث : حديث عبد الله بن أبي أوفى وإسناده كله كوفيون ، وقوله : " حدثنا مالك " هو ابن مغول ، ظاهره أن شيخ البخاري لم ينسبه فلذلك قال البخاري : " هو ابن مغول " وهو بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الواو ، وذكر الترمذي أن مالك بن مغول تفرد به .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى ؟ فقال : لا ) هكذا أطلق الجواب ، وكأنه فهم أن السؤال وقع عن وصية خاصة فلذلك ساغ نفيها ، لا أنه أراد نفي الوصية مطلقا ، لأنه أثبت بعد ذلك أنه أوصى بكتاب الله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أو أمروا بالوصية ) شك من الراوي : هل قال كيف كتب على المسلمين الوصية ، أو قال كيف أمروا بها ؟ زاد المصنف في فضائل القرآن " ولم يوص " وبذلك يتم الاعتراض ، أي كيف يؤمر المسلمون بشيء ولا يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال النووي : لعل ابن أبي أوفى أراد لم يوص بثلث ماله لأنه لم يترك بعده مالا ، وأما الأرض فقد سبلها في حياته ، وأما السلاح والبغلة ونحو ذلك فقد أخبر بأنها لا تورث عنه بل جميع ما يخلفه صدقة ، فلم يبق بعد ذلك ما يوصي به من الجهة المالية .

                                                                                                                                                                                                        وأما الوصايا بغير ذلك فلم يرد ابن أبي أوفى نفيها ، ويحتمل أن يكون المنفي وصيته إلى علي بالخلافة كما وقع التصريح به في حديث عائشة الذي بعده ، ويؤيده ما وقع في رواية الدارمي عن محمد بن يوسف شيخ البخاري فيه ، وكذلك عند ابن ماجه وأبي عوانة في آخر حديث الباب " قال طلحة فقال هزيل بن شرحبيل : أبو بكر كان يتأمر على وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ود أبو بكر أنه كان وجد عهدا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخزم أنفه بخزام " وهزيل هذا بالزاي مصغر أحد كبار التابعين ومن ثقات أهل الكوفة ، فدل هذا على أنه كان في الحديث قرينة تشعر بتخصيص السؤال بالوصية بالخلافة ونحو ذلك ، لا مطلق الوصية . قلت : أخرج ابن حبان الحديث من طريق ابن عيينة عن مالك بن مغول بلفظ يزيل الإشكال فقال : " سئل ابن أبي أوفى : هل أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : ما ترك شيئا يوصي فيه . قيل : فكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص ؟ قال : أوصى بكتاب الله " وقال القرطبي : استبعاد طلحة واضح لأنه أطلق ، فلو أراد شيئا بعينه لخصه به ، فاعترضه بأن الله كتب على المسلمين الوصية وأمروا بها فكيف لم يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فأجابه بما يدل على أنه أطلق في موضع التقييد ، قال : وهذا يشعر بأن ابن أبي أوفى وطلحة بن مصرف كانا يعتقدان أن الوصية واجبة ، كذا قال ، وقول ابن أبي أوفى " أوصى بكتاب الله " أي بالتمسك به والعمل بمقتضاه ، ولعله أشار لقوله - صلى الله عليه وسلم - : تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلوا : كتاب الله ، وأما ما صح في مسلم وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند موته بثلاث : لا يبقين بجزيرة العرب دينان وفي لفظ أخرجوا اليهود من جزيرة العرب وقوله : أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به ولم يذكر الراوي الثالثة ، وكذا ما ثبت في النسائي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان آخر ما تكلم به : الصلاة وما ملكت أيمانكم ، وغير ذلك من الأحاديث التي يمكن حصرها بالتتبع ، فالظاهر أن ابن أبي أوفى لم يرد نفيه ، ولعله اقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه أعظم وأهم ، ولأن فيه تبيان كل شيء إما بطريق النص وإما بطريق الاستنباط ، [ ص: 426 ] فإذا اتبع الناس ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - به لقوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية ، أو يكون لم يحضر شيئا من الوصايا المذكورة أو لم يستحضرها حال قوله ، والأولى أنه إنما أراد بالنفي الوصية بالخلافة أو بالمال ، وساغ إطلاق النفي أما في الأول فبقرينة الحال وأما في الثاني فلأنه المتبادر عرفا ، وقد صح عن ابن عباس : " أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يوص " أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أرقم بن شرحبيل عنه ، مع أن ابن عباس هو الذي روى حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - أوصى بثلاث ، والجمع بينهما على ما تقدم . وقال الكرماني : قوله : " أوصى بكتاب الله " الباء زائدة أي أمر بذلك وأطلق الوصية على سبيل المشاكلة ، فلا منافاة بين النفي والإثبات . قلت : ولا يخفى بعد ما قال وتكلفه ، ثم قال : أو المنفي الوصية بالمال أو الإمامة ، والمثبت الوصية بكتاب الله ، أي بما في كتاب الله أن يعمل به انتهى . وهذا الأخير هو المعتمد ، الحديث الرابع .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية